أنت جدير أن يرسل الله لك رسالته الشريفة -القرآن الكريم- على قلب أكرم خلق الله على الله، وخاتم رسله، بواسطة أكرم ملائكته وأمين وحيه، فأنت كريم على الله حقًا.

ومن غير تهويل ولا تهوين، فأنت- أيها الإنسان- أعظم بكثير مما تعلم، وأنت تحمل بين جنباتك من الخير والفضل أضعاف ما ترجو، وفيك من العيوب والشرور ما لا تتوقع! تحمل من قدراتك على فعل الخيرات، وتحصيل الكمالات ما يرقى إلى خوارق الأفعال، وفيك من الشرور والآثام ما لو أطلق له العنان لأفسد البر والبحر والجو، أنت نسيج وحدك خلقك الله على غير مثال، لست من الملائكة ولا من الشياطين، أنت ابن آدم الذى سجدت له الملائكة، وأزله الشيطان عن الجنة.

أنت- أيها الإنسان- آية خلق الله القدير، ففيك من الخير والفضل ما نجده عند الأنبياء والمرسلين، حين يقص علينا القرآن الكريم والسنة المطهرة من أخبارهم وجليل أعمالهم ورقى أخلاقهم وعجيب أمورهم، ما تفخر به البشرية، ويملأ النفس روعة، ويزيدنا حبا لهم وإجلالًا، ونترسم فى كل فضل خطاهم، ونقتدى بهم حين نهتدى إلى الصواب، ونعلم أنهم- صلوات الله عليهم- مع كل ذلك الفضل الكبير لم يتجاوزوا بشريتهم.

وللعجب، ففيك أيضًا أيها الإنسان- من صور الشر والانحراف التى قصها علينا نفس القرآن ونفس السنة ما تأنف منه النفوس وتتحير منه العقول، ونتعجب حين نطالعها- كيف لبشر أن يتجرأ فى معصيته لربه كل هذه الجرأة، بل كيف لبشر أن يُهلك نفسه ومن يحب، ويرد مختارًا موارد الهلكة تلك! كل ذلك من غير أن تخرج كل هذه الجرائم أصحابها كذلك عن مجرد كونهم بشرًا.

فكم أنت عجيب أيها الإنسان! وكم من المهم أن تعرف عن نفسك ذلك، وموضع العجب وسببه أنك تملك وفى كل وقت سر تميزك أو انحطاطك ومكمن قوتك أو ضعفك، تملك الكنز الذي يتفجر عطاؤه لمن وفقه الله؛ فيهتدى لطريقه ليحصد كل خير وفلاح، ويجنب نفسه المهالك، أو يتفجر فى طريقه فيهلكه ويحرمه كل خير! تلك القوة التى وهبها الله الناس جميعًا، من غير تمييز ولا تفضيل، فالجميع فى ذلك سواء، نعنى بذلك قدرة الإنسان أن يتحكم فى نفسه، أن يزيد مما وهبه الله أو ينقصه، أن يرعى فى نفسه الخير أو يهمله، أن يرقى بفضائله أو يتدنى، العجيب وجود هذا الأمر فى كل نفس بلا استثناء، (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).

إن بشرية الأنبياء والصالحين الذين يكثر ذكرهم فى القرآن والسنة لا ينكرها أحد من المؤمنين، وقد أفاض الله علينا بوفرة ظاهرة من أخبارهم، مع اختلاف الأحوال والمواقف، فمنهم الفقير ومنهم الغنى، منهم القوى بمختلف أسباب القوة، ومنهم الضعيف من كل قوة مادية، منهم القائد المطاع، ومنهم الجندى التابع، منهم كثير الأتباع، ومنهم من لم يؤمن معه إلا القليل، ومنهم... ومنهم... وفى كل نموذج دروس يتعلم منها من أراد الله به الخير- يتعلم كيف يرتقى ويفوز فى شتى أحواله ومواقفه المختلفة فى حياته.

وليس أقل من ذلك فائدةً تلك النماذج المنحرفة، والتى لابد من وجودها فى كل زمان ومكان، وتلك النماذج أيضا قد حفل بها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد جاءت كذلك فى صور وحالات وظروف مختلفة فمنهم القائد ومنهم التابع، والقوى والضعيف، والشريف فى قومه والوضيع، وهكذا. وفيها كذلك من الدروس ما يحمى كل أحد أن يهلك كما هلكوا.

وكثير منا ربما يُعرض عن دراسة هذا النماذج بشقيها، يعرض عن دراستها دراسة من يقارن نفسه بهذا النفوس- شريفها ووضيعها، ويتدبر بعمق فيها، حتى يهتدى بالقرآن والسنة كما أمرنا "‏ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ‏".

وقد اجتهد الشيطان أن يصرف الكثير منا عن دراسة هذه النماذج التى حفظها الله لنا، إما لأنهم أنبياء وعظماء فيقول الشيطان: أين نحن منهم! أو أنهم على الطرف النقيض كفار ومنافقون هالكون، ونحن بحمد الله غيرهم، وتلك خديعة الشيطان الكبرى والتى استطاع من خلالها أن يبعدنا عن مصدر هدايتنا الربانى الكريم الذى لا ينتهى خيره وعطاؤه، وصرفنا عن سبيل التوفيق لما يحب الله ويرضى، حين نتعرف على حقيقة النفس البشرية بجانبيها، ونرقب كيف تتحرك وتعمل، وما المؤثرات عليها، وما البدائل أمامها، ثم ما المصير. فترانا نقرأ القرآن ولا نكاد ننتبه لما فيه، ويمر علينا الحديث أو موقف السيرة كذلك! فنحرم الخير الكثير.

أنت أيها الإنسان- مهما كنت- نفس بشرية، ككل تلك النفوس التى عرض الله فضائلها ونواقصها، قوتها وضعفها، أمراضها وعلاجاتها، مراتبها التى يمكنها الوصول إليها، ووهداتها التى يمكن أن تنجرف وتنسحق فيها، عرض ذلك كله فى القرآن والسنة رحمةً بنا وإرادة خير لنا، وتبيانا لما يلزمنا فى مسيرنا إليه، فعرض نماذج بشرية من لحم ودم، لهم عقولهم وشهواتهم، علاقاتهم ومصالحهم، فى الجملة لهم حياتهم كما لنا حياة، ينامون ويأكلون يغضبون ويفرحون، يفعلون كما يفعل البشر ويعتريهم ما يعترى غيرهم، لم يملك خيارُهم إلا سعيُا وجهادا تقبله الله منهم فحازوا الخير كله، ولم يكن فى شرارهم إلا غفلة واتباع هوى وإهدار نعم الله التى أسبغها عليهم، فكان اختلاف المصير باختلاف العمل، وكان بعد المنزلتين يكافئ ما بين الفريقين (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى)

فأوجب ما يلزمنا أن نحسن قراءة القرآن بتدبر كما أمرنا (أفلا يتدبرون القرآن) ونعرض نفوسنا على كل نموذج بشرى وصلنا، فما حفظ الله لنا القرآن والسنة إلا لحكمة وخير.

 

إن ملاحظة ومدارسة النماذج البشرية فى القرآن والسنة لهى أول خطوة على طريق أن يعرف الإنسان نفسه، وما تحمل من خير وشر، وهذه الدراسة أوثق المصادر فى تلك المعرفة، لذا فقد تعبدنا الله بهذا العلم، وأمرنا أن نعمل بما فيه بأن نقتدى بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن نبتعد ونهجر ونبرأ من عدوهم.