أختي المسلمة.. تخيلي معي وعيشي تلك الرحلة الرائعة العجيبة، وكوني فيها بقلبك وعقلك ووجدانك حتى تستشعري وتتعلمي وتستوعبي الدرس جيدًا، أنسي كل ما حولك قليلاً وركزي انتباهك كله واستغرقي بكيانك معي ولنبدأ.
أنت الآن زوجة لرجل متزوج من غيرك ولم ينجب من قبل، وتزوجك وقد يئس من الإنجاب، ثم أنتِ تنجبين له الولد الذي لم يكن يتخيل أنه سيرزق به، ما هو شعورك الآن؟ وماذا تتخيلين مكانتكِ عنده؟ وكيف تتدللين عليه؟ سأترك لك الجواب واذكري ما شئت.
إلا أن زوجك يطلب منك في تلك الظروف، ووسط تلك الفرحة العارمة أن تصطحبيه في رحلة، تخيلي إلى أين تكون تلك الرحلة؟ ربما رحلة استجمام، أو رحلة سياحية، المهم أنها ستكون رحلة مكافأة لك على ما قدمتيه له من هدية العمر كله، استعدي للرحلة فها هو المتاع قد تم إعداده، إنه ما يستطيع الزوج حمله من ماء وطعام، احملي وليدك الآن وسيري مع زوجك وسلمي له القياد دون أن تسأليه إلى أين، فثقتك به لا متناهية خاصة أنه ليس زوج عادي، وإنما هو إنسان رباني له مهمة وله رسالة وهو والد ابنك وابنه الوحيد.
تسيرين معه وها هي مشارف الصحراء تظهر في الأفق، تتعجبين لكن لا تسألي فما زالت الثقة موجودة، يأخذك إلى مكان بعيد في قلب الصحراء وتقلبين النظر بين ذلك المكان الموحش وبين زوجك.
من فضلك أختي المسلمة تخيلي نفسك فعلاً في هذا الموقف، لا يتحدث إليك زوجك وإنما ينظر إليك ويدير لك ظهره دون كلمة ويتركك لينصرف دون زاد إلا من قليل، دون ماء إلا من قليل، دون بشر دون مأوى، ترى ما هو أول سؤال سوف يخطر ببالك كي تسأليه زوجك؟ ترى ماذا سيكون تصورك للموقف؟ وهل سيكون للعقل حكم أم لثقتك به؟ ربما تصرخين، ربما تنادي عليه وتبكين بكاءً مرًّا وتطلبي منه أن يرحمك ويرحم ابنكما، ربما تحاولين تعقبه والعودة معه إلى حيث الأمان والحياة المستقرة (أالله أمرك بهذا).
تلك هي كانت إجابة جدتك "هاجر"؛ وذلك هو الدرس الأول الذي علمته لنا، درس لا يمكن أن نتعلمه في الجامعات أو على يد أعظم الأساتذة، إنه اليقين في الله وحسن الظن به سبحانه يجيبها الزوج النبي الخليل ليس بكلمة وإنما فقط بإشارة أن نعم وبدعاء خالص لله ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38)﴾ (إبراهيم)، فتعود لتعلمنا فن التسليم "إذن لا يضيعنا"، "إذن لا يضيعنا" ذلك هو اليقين الذي إذا سكن قلب المؤمن انطلق في الدنيا ليعمرها ويبنيها غير هياب لأحد إلا لمولاه وغير متوكل إلا على مولاه وغير مبتغٍ بعمل إلا وجه مولاه.
وهكذا حال المرأة المسلمة إذا توكلت على الله حق التوكل وعاشت اليقين بكل معانيه فهي لا تحب إلا له ولا تكره إلا فيه ولا تعطي إلا له ولا تمنع إلا لرضاه، وهي ليست "حجر عثرة" في طريق زوجها، خاصةً تلك التي حباها الله عز وجل بزوج مجاهد داعية ومطلوب منها التضحية وحمل معظم الأعباء معه وإلى جانبه يدًا بيد وقلبًا بقلب.
فهي لا ترهقه بمشاكلها وبمزيد من أعباء الحياة فيتأخر عن الركب أو بمزيد من اللوم والعتاب على تأخره مثلاً وتغيبه لأوقات طويلة عن البيت، أو لإنفاقه الكثير من وقته في أعباء الدعوة دون أن ينفقها في جلب المزيد من المال أو تخويفه من عاقبة الطريق والخسائر المحتملة فيه، بل هي الزوجة المؤمنة التي تنتهج طريق جدتها طالما إنها تعرف أن زوجها على طريق الأنبياء والصالحين ولها أن تفخر بذلك وأن تتحمل المشاق في سبيل تيسير أمره.
فها هي جدتنا الغالية تسير إلى جنب زوجها إلى حيث المجهول ولا تسأله إلى أين تأخذنا، وكيف تسأله وهي أصلاً تثق به وتعرفه جيدًا، وهو الإنسان الرباني المؤمن فلماذا لا تثق به اليوم أو تخافه أو حتى تخاف عليه، تسير دون أن تسال وحين يصلا إلى المكان المقصود لا يقول لها شيئًا بل يتركها ولا يعقب امتثالاً لأمر ربه ويمضي.
وهي كإنسانة يعتريها بعض الخوف، وإنصافًا من لا يخاف في ذلك الموقف؟، آتونا بأعظم الرجال وأقواهم وأصبرهم وافعلوا معهم ذلك وانظروا ماذا يفعلون؟ والأمر هنا لا يحتاج إلى قوة جسدية أو نفسية، ولا يحتاج إلى مزيد من الطعام والماء لتأمين أبسط مطالب الحياة، ولا يحتاج لبعض الحراس ليقوموا عليها في الليل البهيم في ذلك المكان البعيد الموحش الخالي من مظاهر الحياة.
إنما يحتاج إلى قوة من نوع آخر إنها قوة اليقين في الله، وهي قوة لا تؤتى لأي إنسان، ولا تؤتى هكذا ببساطة وإنما تؤتى لقلب دائم الاتصال بالله، وعين طالما سهرت وبكت، وبطون طالما صامت وزهدت وأياد طالما امتدت بالصدقات دون أن تدري شمالها ما تنفق يمينها، وعقول شغلها البحث في ملكوت الله وبديع صنعه، وأسر أعانت بعضها البعض على الطاعة.
ذلك هو معين اليقين وذلك هو سبيله لا يأتي هبة، ولا يشتري بالمال، ولا تؤمنه البيوتات الفاخرة مجرد إشارة من سيدنا إبراهيم أن "هذا أمر الله" وفي هذه الحالة يظهر الإيمان قويًّا متحديًا أي صعاب وأي عقبات وأي جبروت وأي طاغية وأي ظالم، وأي قوة مهما بلغت فهي مهما بلغت ماذا تساوي إلى جانب قوة الله عز وجل، ولماذا الخوف؟ من الجوع؟ هو من يسقي ويطعم، خوف على الأجل؟ هو يحيي ويميت ولا أحد غيره.
فإذا كان هو الرازق فلم الخوف؟ وإذا كان هو من يملك الأجل فممن الخوف؟ اليقين في الله الذي يجعل امرأة تواجه الدنيا كلها بكلمة واحدة "إذن لن يضيعنا"، عودي الآن يا أختي من رحلتك المرهقة والتقطي أنفاسك فما أظن أن أحدنا يمكن أن تقدر على ما تبقي منها أو تطيق، عودي لنتعلم من تلك السيدة التي علمت البشرية فنون الإيمان بالله عمليًّا وتحملت ما يشق على الرجال.
الدرس الأول اليقين وحسن الظن بالله الدرس الثاني حسن التوكل علي الله تعود جدتنا أدراجها إلى وليدها وهي تحمل في صدرها قلبًا يحمل إيمانًا يستعصي على كل شياطين الأرض أن تعبث به ويبدأ الطعام في النفاد، ويبدأ الماء في النفاد، ويجوع الرضيع ويصرخ ألمًا وهي تعرف إلى من تلجأ، لكن لنتعلم كيف يكون اللجوء الحق إلى المولي، إنها لم تقعد تصلي وتدعو وتبكي لله أن يرفع ما بها من بلاء ويرزقها أحسن الرزق من أوسع الأبواب، وإنما إلى جانب كل هذا السعي الدءوب الذي يعجز عنه الرجال، السعي في طلب الرزق كي نتعلم كيف يكون حسن التوكل على الوكيل.
إنه توجه كامل القلب إلى الله مع العمل المتواصل وترك النتيجة كلها عليه سبحانه ويأتينا الدرس الرباني "اسعي كما يجب أن يكون السعي فسيأتيك رزقي من حيث لا تحتسب، فقط عليك السعي وعلينا نحن التوفيق حين تنقطع كل الأسباب وتتعلق بمسبب الأسباب جميعًا" ربما تعمل في اتجاه ويأتيك النجاح في اتجاه مخالف تمامًا لكن ذلك لا يعفيك من العمل والمثابرة فذلك هو حسن التوكل.
يريد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الطائف ويفعل فيكافئه الله بالمدينة المنورة ويريد أن يدعو أهل الطائف فيقيض الله له الجن ليستمعوا القرآن ويؤمنوا به وهكذا نريد وإرادة الله هي النافذة لكن لا بد من السعي والعمل تسعى جدتنا بين الصفا والمروة باحثة عن شيء، عن أحد، تسعى مرة واثنتين وثلاث، حتى سبع مرات لتسير سبعة أشواط ولم العودة؟ ولم إعادة الكرة؟ إنها فعلت ما عليها فعلاً وصعدت بين جبلين مرة؟ مرتين؟ ثلاثًا؟ أي رجل في العالم وأي عقل سوف يتهم نفسه إذا فعلها أكثر من هذا، علام تبحث؟
إنها لن ترى جديدًا إذا عاودت، وهذا هو الدرس فطالما أنه بقي لديها أنفاس، وطالما أنها بقيت لديها قدرة فلم تفعل ما عليها بعد، متى تشعر أنك قد فعلت ما عليك وأنه يجب أن تنتظر فرج الله؟ هذا في حالة واحدة يوجهنا إليها مولانا عز وجل في كتابه العزيز في سورة النمل ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62)﴾ (النمل).
"ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد، المرجو عند النوازل، كما قال: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (الإسراء: من الآية 67)، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ (النحل: من الآية 53).
وهكذا قال هاهنا: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه، وقال وهب بن منبه: قرأت في الكتاب الأول: إن الله يقول: "بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن، والأرض بمن فيها، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، فأكله إلى نفسه".
ليس مجرد حركة جسدية وإنما ليتعلم العالم كيف يكون التوكل الحق، تسعى بعيدًا بين جبلين لينبع الماء من تحت أرجل الوليد، وقد يسأل سائل ولماذا لم ينبع الماء مباشرة دون أن تتكبد تلك الآلام ألم يكفيها ما عانته؟ إنها المدرسة النبوية التي يجب أن تدفع الثمن كاملاً حتى نتعلم ينبع الماء وتكون زمزم، صبرت وبذلت وتوكلت وأحسنت الظن فكانت النتيجة عين ماء تروي الحجيج إلى يوم القيامة.
ويكون ماء اليقين والذي نبع نتيجة يقينها في الله ويكون ماء زمزم لما شرب له تكريمًا لامرأة آمنت بالله وتأتيها القبائل العربية ليعيشوا على مائها ويتربى وليدها ويتلقى اللغة العربية على يد أصحابها وتنشأ مدينة مكة ببركة بيت النبوة ويأتينا.
الدرس الثالث: التسليم المطلق لله عز وجل، يعود الأب الذي غاب كثيرًا ليجد ابنه وقد صار فتى يافعًا تسر له العين ويبش له القلب فيجد ابنه وقد توجه الإيمان الذي ربته عليه أمه، يعود لا ليكافئ الأم التي صبرت واحتسبت ويعوض ابنه عن تلك الأيام التي عاشها بدونه وإنما لأمر جلل، إنه قد عاد ليذبح ابنه، ويأتيها إبليس اللعين، أدركي ابنك يا هاجر، لقد جن إبراهيم، انه سيقتل ابنك، فتكون المفاجأة الكبرى.
تقوم امرأة لترجم إبليس اللعين وتسلم ابنها لأبيه ليذبحه، وليتحول فعل فعلته للمرة الثانية إلى شعيرة من شعائر الحج وهي الرجم يؤديها الحجيج كذلك كل عام تكريمًا من الله عز وجل إلى تلك المرأة العجيبة وتظهر حسن تربيتها الرائعة لابنها حين يقول بمنتهي التسليم ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات: من الآية 102)، تلك هي مجموعة الدروس الرائعة التي عشناها وتعلمناها من جدتنا الحبيبة، عسى أن تكون معينًا لنا على حسن الفهم وحسن الطاعة وهو ولي ذلك وعليه قدير.