بقلم: السيد شعيب

خلف الإمام البنا رحمه الله وراءه جيلاً فريدًا من الدعاة والمفكرين الذين حملوا دعوة الإسلام في عزم ومضاء وبلغوها إلى الأجيال التالية بدقة وأمانة، حتى غدوا مصابيح وأدلاء للخير والهدى.

لقد عرفت الأجيال الحاضرة بعض هؤلاء وجهلوا بعضهم الآخر، لذلك آثرنا أن نسلط الضوء على هذا البعض الآخر، وفاءً وعرفانًا بجهاده وتاريخه، من هؤلاء الدكتور عبد المتعال الجبري.

بطاقة حياة:

هو الدكتور عبد المتعال محمد الجبري تلميذ الإمام البنا ورفيق حياته، وُلد  بمركز الإبراهيمية بمحافظة الشرقية في عام 1926م، عرف الإخوان مبكرًا، وتعرَّف على الإمام البنا شخصيًّا في الأربعينيات، وشارك منذ أن كان طالبًا في أحداث عديدة، وتحمَّل كثيرًا من صنوف الأذى في سبيل إيمانه ومعتقده، جمع بين الفكر والتربية في آن واحد.

حصل عبد المتعال الجابري رحمه الله على ليسانس اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية من كلية دار العلوم بالقاهرة، ثم دبلوم التربية وعلم النفس من كلية التربية جامعة عين شمس، كذا حصل على دبلوم الدراسات العليا في النحو، ثم حصل على الماجستير ثم الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص التاريخ والحضارة الإسلامية من كلية دار العلوم.

عمل بالتدريس ثم تفرّغ للدعوة الإسلامية وهاجر إلى أمريكا الشمالية يبشر بالإسلام ويبين لغير المسلمين الذين يجهلون ما للإسلام من حضارة عظيمة.

معرفته بالإخوان:

يُعدّ الشيخ الجبري واحدًا من الرعيل الأول الذين عاصروا الإمام البنا وتتلمذوا على يديه وساروا على دربه؛ حيث عرف الجبري الإخوان منذ كان طالبًا في المعهد الأزهري بالزقازيق في بداية الأربعينيات، ما يدل على انتشار وتغلغل الدعوة في الأقطار المصرية في ذلك الحين، يقول رحمه الله عن هذا اللقاء:

"كان أول ما سمعته من الإمام البنا في حفل جامع اشترك فيه كلٌّ من أعلام جمعيات الشبان المسلمين والإخوان المسلمين، والمحافظة على القرآن الكريم، وشيخ معهد الزقازيق الديني سليمان نوار، وكان نموذجًا في الفصاحة والبلاغة، ولا ريب أني أعجبت بشيخ المعهد، لما في أسلوبه من ديباجة، وألفاظه من جرس قوي، كما أعجبت بالشيخ محمد رضا رئيس جمعية المحافظة على القرآن والواعظ العام، لما فيه من انطلاق وانسياب فقد كان يهدر بالقول هدرًا، وجاء دور المرشد العام حسن البنا، فكان حديثه هادئ الكلمة، سهل العبارة، كثير المعاني، استطاع أن يجتذب الجماهير بما لم تستطعه عبارات محمد رضا السيابة، ولا الشيخ النوار بقعقعة العبارة وطنينها، فكانت صيحة "الله أكبر ولله الحمد" صيغة التعبير عن الإعجاب به، وكان ذلك فى أوائل سنة 1940م، لقد حاز إعجاب الجميع، وكنت في الرابعة عشرة من عمري، تهزني عبارة سليمان نوار، وشقشقة مشايخنا الأزهريين، وربما كان ذلك من قُبيل التعصب الفئوي بحكم الانتماء الدراسي".

ولقد أعجب الشيخ عبد المتعال بالإمام البنا أيما إعجاب وسجل إعجابه ذلك في العديد من كتبه، من ذلك قوله: "كان الرجل مصنوعًا لقيادة الحركة الإسلامية بسمته البسيط، ولحيته الخفيفة، ومظهره الذي لا تجد فيه تكلُّف بعض العلماء ولا العنجهية ولا السذاجة، فكان وقورًا مهيبًا،
وكان قديرًا على فهم الأشخاص، فيحتال على الدخول إلى قلوبهم بفكرته ورأيه حتى يخرج فكرته تعبيرًا على ألسنتهم، ويتحولون إلى مرتبطين بالفكرة مجندين لحماية ما قالوا.. لا يضيق بفكرة ولا معارضة، وكان يقول لنا: كيف تتصورون ألا يختلف الناس فيكم وفيما تدعون إليه وقد اختلف الناس في الله الذي لا ينبغي أن تخفى حقيقة وجوده، فقالوا: الله ثالث ثلاثة.. وهكذا؟.

وكان يستطيع أن يوجز الفكرة التي تُشرح في مجلدات، فيقولها في سطور أو صفحات حتى يعيها كل أتباعه على مختلف المستويات، وكان قديرًا على عرض أفكاره الجديدة بلباقة لولاها لوقف الناس ضده وحاربوه فنقلهم من وارثياتهم وأصلح مفهومهم للدين وحوّل اتجاههم في الحياة وأعطاهم الهدف وملأ صدورهم بالأمل في الحرية والقوة".

من مواقفه:

حفلت حياة الجبري بالعديد من المواقف الدعوية والجهادية، ولكنه كغيره من فضلاء الإخوان الذين لا يكثرون الضجيج حول أعمالهم وجهادهم وتضحياتهم، وإنما يؤثرن الصمت ويحتسبون ذلك عند الله تعالى.

وعلى الرغم من ذلك لا تعدم أن تجد إشارة من قريب أو بعيد إلى بعض أعماله ومواقفه المبثوثة في بعض الكتابات.

 من تلك المواقف، مشاركة الجبري ضمن الحركة الطلابية في معهد الزقازيق الأزهري في حركة المطالبة بالشريعة الإسلامية،  تأييدًا لما قاله الإمام المراغي عام 1941م حول تطبيق الشريعة الإسلامية يقول الجبري:" نزلنا إلى القرى نبصر الناس بعظمة ومزايا الحكم الشرعي، وأخذنا توقيعات الجماهير بتوكيل شيخ الأزهر، وتأييده فيما يطالب به، ولكن جُبن بعض العُمَد في القرى دفعهم إلى أن حرّضوا الضعفاء ضدّنا فطالبوا بشطب توقيعاتهم، غير أننا لاحظنا أن شباب الإخوان ثابت معنا، فلما دعوا الشيخ حسن البنا لمحاضرة فى دارهم بالزقازيق ناسب أن نجاملهم فاستقبلنا- نحن الشباب الأزهري- زعيمهم من محطة القطار إلى مقر الجمعية بشارع عباس الأول فى هتاف قوي "الإسلام أساس الحكم" "القرآن دستورنا" "الجهاد سبيلنا" حتى بلغنا الدار.

جهاده في الدعوة:

نال الدكتور الجبري نصيبه من الاعتقال كغيره من الإخوان المسلمين في سجن طرة وغيره من السجون والمعتقلات في السبعينيات والثمانينيات مع إخوانه، وتحمّل من صنوف الأذى ما تحمّل غير هياب ولا وجل، راجيًا أن يكون ذلك الأذى في ميزان حسناته.

ولقد روى المهندس خالد حفظي رفيق الدكتور الجبري، بعض الوقائع التي كان يتعرّض لها الإخوان داخل السجون أو السلخانات، كما كانوا يسمونها، ولا مجال لسرد هذه الوقائع هنا لأنها معروفة للجميع وسجلها العديد من الكتاب والمؤرخين المنصفين في كتاباتهم، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الكفاح الوطني والإسلامي في العصر الحديث.

طاف الشيخ الجابري رحمه الله بكثير من أقطار مصر داعية إلى الله، وزار العديد من شعب الإخوان، وحل ضيفًا على المعسكرات والندوات والحفلات الإخوانية في طول البلاد وعرضها، كما أسهم في  نشر الدعوة الإسلامية في كثير من الأقطار العربية والأوربية، وشارك في ترشيد الصحوة الإسلامية في فترتي السبعينيات والثمانينيات، بعد مقتل السادات وظهور الفكر الغالي والجماعات الدينية المتشددة مع رموز الجماعة في ذلك الوقت، من أمثال الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ مصطفى مشهور والأستاذ جابر رزق، حيث قاموا بإدخال معظم أبناء الجيل الجديد داخل الإطار التنظيمي للجماعة، ووصل الأجيال بعضها ببعض.

أعماله ومؤلفاته:

أثرى الجابري رحمه الله المكتبة الإسلامية بالعديد من روائع الكتب والمصنفات، فكتب في كلّ فن بأسلوب سهل يناسب القارئ المسلم أيًّا كانت ثقافته، فكتب في علوم السنة مجموعة من الكتب أهمها:

- حجية السنة.

- المشتهر من الحديث الموضوع والضعيف والبديل الصحيح.

- مصطلحات المحدثين وأعلامهم.

وكتب في  التفسير وأصوله مجموعة من الكتب أهمها:

- شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية.

ــ نظرات في سورة التكاثر.

-  تأملات في سورة القمر.

-  نظرات في سورة التحريم.

- نظرات في سورة الماعون والعلق.

- نبأ ابني آدم بذرة التشريع الجنائي في الإسلام.

كما كتب في علم العقيدة مجموعة قيمة أهمها:

- المصطلحات الأربعة بين الإمامين المودودي ومحمد عبده.

- غرائب ابن حزم في العقيدة وأصول الفقه.

- حوار مع الشيعة حول الخلفاء الراشدين.

- عقيدة الإسلام وعباداته بأقلام فلاسفة النصارى.

- جنوح إدوارد عطية في مفاهيمه الإسلامية.

 وفي الفقه وأصوله كتب الجابري عدة كتب أهمها:

- الناسخ والمنسوخ بين الإثبات والنفي.

-  النسخ في الشريعة الإسلامية كما أفهمه.

- جريمة الزواج بغير المسلمات فقهًا وسياسة.

- حكم التصوير والنرد والشطرنج.

- فقه الصيام في سؤال وجواب.

-  زبدة الكلام في معرفة أول وآخر رمضان.

- فقه الأخت المسلمة في الطهارة والحيض.

- لا منسوخ بآية السيف.

- الأضحية أحكامها ودورها في التربية الاجتماعية.

وكتب أيضًا في مجال التاريخ السياسي والإسلامي مجموعة مختلفة من الكتب أهمها:

- نظام الحكم في الإسلام بأقلام فلاسفة النصارى.

- لماذا اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا؟

- الناصرية في قفص الاتهام.

- معجزة فتح مصر.

- الطراز الناصري والاتجاه الإسلامي.

- أصالة الدواوين والنقود العربية.

- السيرة النبوية وأوهام المستشرقين.

- مقدمات ظلال السيرة النبوية.

- نسيج وحّده عمير بن سعد.

وخلف وراءه من الأعمال المهمة في مجال التربية الإسلامية مجموعة من الأعمال أهمها:

- المرأة في التصور الإسلامي.

- المسلمة العصرية عند باحثة البادية.

بلغت شهرة الدكتور الجابري رحمه الله في الأوساط الإسلامية مبلغًا عظيمًا؛ حيث عرفته أجيال الصحوة الإسلامية في مصر والعالم الإسلامي وفي أوربا، ونشرت  مؤلفاته في مختلف دور التوزيع والنشر الإسلامية المحلية والعالمية مثل: مكتبة وهبة، دار الاعتصام، دار الصحوة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، دار الأنصار، وفي جيرسي سيتي بأمريكا، المركز الإسلامي لجيرسي سيتي، ودار الكتاب الإسلامي العربي الأمريكي.

وهكذا خلف الدكتور الجابري وراءه أعمالاً قيمة بلغت أكثر من 40 مؤلفًا في مختلف المعرفة الإسلامية، وهي مجموعة جديرة بأن تكون من مقتنيات كل بيت لأنها وحدها تكون مكتبة إسلامية متكاملة.

وأهم ما يميز كتابات الجابري:

ــ كثرة الاستشهادات بأقوال المفكرين الغربيين؛ ما يدل على سعة اطلاعه وتعدد قراءاته.

- التأريخ للحركة الإسلامية في العصر الحديث بحيدة وموضوعية؛ حيث كان شاهد عيان على كثير من الأحداث والوقائع الهامة. 

- الاعتزاز بالدعوة التي تربى على مبادئها والاعتراف بفضلها والاحتفاء بأعلامها وكشف ما يخطط لها ويثار حولها.

- إيثار التفكير العملي الذي يلمس المشكلة ويشخص الداء ويقدم الدواء على التفكير النظري المجرد الذي يعيش بمعزل عن الأحداث والوقائع.

- شمول النظرة التربوية العميقة التي نفتقدها في كثير من كتابات الإسلاميين، تلك النظرة التي تنفذ إلى القلب بسهولة ويسر وتصطبغ بالتجارب والخبرات العديدة، التي تجعل من انتشارها واستمرارها أمرًا أكيدَا.