تطورات متلاحقة في المشهد الإقليمي والدولي من حولنا، نبدو فيها في "مفعولا به" وليس "فاعلا" في كثير من الأحيان. ليس الأمر جديدا فقد تكرر من قبل في كل تحولات سابقة، ربما الجديد الآن هو الوعي بهذه التحولات وإرهاصاتها حتى قبل وقوعها، ومع ذلك نقف مكتوفي الأيدي إلا من رحم.

في العام 1648 تم عقد "صلح وستفاليا" شمال غربي ألمانيا، وبهذا الصلح التاريخي انتهت الدولة الرومانية بقداستها لتحل محلها أوروبا بدولها الوطنية الحديثة، ثم انتهت الحرب العالمية الثانية بالقضاء على أكبر قوتين متطرفتين (ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية) وليظهر في العالم حلفان كبيران متناقضان أيضا، وهما الحلف الغربي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة والحلف الشرقي (وارسو) بقيادة الاتحاد السوفييتي.

وتوزعت بعض دولنا العربية والإسلامية بين الحلفين، وإن حاول البعض الآخر اختيار "طريق ثالث" في ما عرف بمجموعة عدم الانحياز التي ضمت أكثر من 70 دولة من جنسيات وديانات مختلفة من قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

ومع انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين، أصبحت الهيمنة للمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة في ما وصفه الفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما عام 1992 بـ"نهاية التاريخ"، معتبرا أن هيمنة القيم الغربية الليبرالية وحرياتها الفردية والاقتصادية تشكل نهاية التطور البشري، ما يعني عدم وجود بديل مستقبلي يستطيع تحقيق نتائج أفضل. وهذا بحد ذاته يعتبر مصادرة من ذاك المفكر على التاريخ نفسه وعلى العقل البشري القادر دوما على التجدد والابتكار.

التحولات الجديدة تشي بعودة قطبية جديدة، هذه المرة بين الولايات المتحدة ومن لف لفها من ناحية، وكل من الصين والهند من ناحية ثانية، ولم يعد خافيا أن واشنطن تجعل علاقة أي دولة مع الصين أحد محددات سياساتها الخارجية تجاه تلك الدولة، وليس خافيا أيضا الصراع بين القطبين الجديدين في العديد من المناطق.

المعضلة أمام الأمتين العربية والإسلامية، أن كلا الخيارين مر بالنسبة لها، فالصين ليست بديلا أفضل من الولايات المتحدة التي عانينا ولا زلنا نعاني منها، وكلتا الدولتين تسعيان لالتهام أكبر قدر من ثرواتنا، وفرض أكبر قدر من الهيمنة علينا، وحكوماتنا (ولأن الكثير منها مستبدة ومرتمية في أحضان القوى الكبرى) غير قادرة على التعامل كوحدة أو كتلة عربية أو إسلامية واحدة تمكنها من حجز مكانها اللائق تحت الشمس، وتجعلها قطبا ثالثا في العلاقات الدولية.

يشكل المسلمون حاليا أكثر من ربع سكان العالم بعدد 1.8 مليار نسمة، ومع ذلك لا يتمتعون بتمثيل مناسب في المنتديات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، وذراعها التنفيذي مجلس الأمن الذي تمسك خمس دول كبرى فيه بـ"العصمة" أو ما يسمى حق النقض، وهي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين، ولا توجد دولة مسلمة واحدة تتمتع بهذا الحق. وقد آن الأوان أن تكثف الدول الإسلامية ضغوطها لتعديل هذا النظام الدولي الظالم، والذي نلمس ظلمه بالنسبة لنا بشكل خاص في القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، والتي غالبا ما يكون حق النقض جاهزا لوقف ما يفيد هذه القضية.

ربما التغييرات والتحولات الإقليمية هي الأهم الآن، فالمنطقة التي نعيش فيها تشهد تحولات درامية لم تكن متوقعة قبل عدة شهور، وقد ساعد عليها فوز بايدن في الانتخابات الأمريكية ثم انتصار المقاومة الفلسطينية الأخير، ومن ذلك مسار للمصالحة التركية المصرية، وقبله مسار للمصالحة الخليجية قطع شوطا طويلا وكاد يصل إلى محطته النهائية، ومسار للتسوية في ليبيا بدأ بحكومة مؤقتة تعد لانتخابات جديدة قبل نهاية العام، ومسار للتسوية في اليمن لا يزال في خطواته الأولى، ومحاولات جديدة لحلحلة القضية الفلسطينية بعد معركة سيف القدس الأخيرة، وتأثيرها على موجة التطبيع الجديدة، والتغييرات المرتقبة للحكومة الإسرائيلية بعد نتنياهو الذي حكم لمدة 15 عاما متجاوزا بن جوريون، والأزمة بين كل من مصر والسودان مع إثيوبيا بشان سد النهضة، والأزمات المتواصلة في شرقي البحر المتوسط.. إلخ.

قد تشهد الشهور القليلة المقبلة تغيرات وتحولات مهمة من حولنا، لكن هذه التغيرات ستفيد البعض وتضر آخرين، ومن واجب المتضررين المحتملين أن يتحركوا من الآن قبل فوات الأوان، وقبل الندم، لفرض أنفسهم على جدول أعمال هذه التحولات. وحتى يتمكنوا من ذلك فإنهم يحتاجون أولا لتقوية وضعهم التفاوضي، والبداية دوما تكون بتلمس القوة الذاتية والكامنة (غير المستغلة حاليا)، عبر توحيد وتنظيم الصفوف، واختيار القيادة الديناميكية المناسبة القادرة على إدارة المشهد بتعقيداته الحالية، للخروج من هذه التحولات بمكاسب معقولة، أو على الأقل تجحيم الخسائر إلى أقل قدر ممكن.

قوى الربيع العربي التي تعرضت لانتكاسة خلال الفترة الماضية من الثورات المضادة، وتلك التي لا تزال تناضل للحفاظ على أوضاعها المتعثرة، مطالبة بلملمة صفوفها، وعدم الركون إلى تلك النكسات، فما حدث هو خسارة لجولة وليس خسارة لمعركة الحرية والتغيير بشكل مطلق. وقد دلت الأحداث على ذلك، فبعد انتكاس الموجة الأولى للربيع العربي وقعت موجة ثانية، نجحت ولو جزئيا في السودان والجزائر وتعثرت في لبنان والعراق، والأمر قابل للتكرار في دول أخرى. وليست منطقة الخليج بمنأى تام عن ذلك مهما طال الزمن، طالما استمرت المظالم، وطالما ظل في شعوب الأمة من يحملون الراية، ومن هم مستعدون لدفع ثمن التغيير.

في لحظات التحول الكبرى يكسب من جهز نفسه للتعامل معها، وفي الحد الأدنى يستطيع تخفيف خسائره، ويكون قادرا على التعامل مع تداعياتها، أما أولئك الذين يقفون مشلولي الحركة في انتظار التغيير فإنهم سيكونون حتما وقودا له، على طريقة أولئك الذين كان جنود التتار يأمرونهم بالانتظار حتى يحضروا سيوفهم لقتلهم فينتظرون بالفعل.