قطب العربي

تزييف التاريخ ليس جديدا في الدراما المصرية والعربية، لكن الجديد هو تزييف أحداث لم تجف دماؤها بعد، شاهدها العالم بثا حيا عبر عشرات الفضائيات حين وقوعها وحين سالت دماؤها، ولا يزال شهودها أحياء، يحث ذلك في ثلاثة أعمال درامية رمضانية مصرية دفعة واحدة، الرابط بينها جميعا أنها تقدم رواية النظام الحاكم لثلاث مسارات؛ أولها الإرهاب العابر للحدود انطلاقا من أفغانستان وصولا إلى مصر، والثاني ثورة يناير باعتبارها مؤامرة حاكتها أجهزة مخابرات عالمية، وشارك فيها شباب مصريون بعلم أو بجهل، والثالثة وهي الأكثر سخونة الانقلاب العسكري وما تلاه من تداعيات، وأهمها مذبحة رابعة التي يسعى النظام لغسل يده منها وتحميلها لخصومه (جماعة الإخوان وأنصارها).

 

في الواقع يعيش المصريون دراما حقيقية لأزمة السد الإثيوبي المهدد لحقهم في الحياة، والتي تتواصل حلقاتها المؤلمة أمام أعينهم وصولا إلى الملء الثاني والكبير في يوليو المقبل، بينما يفرض عليهم النظام (العاجز عن حمايتهم) دراما زائفة ومزيفة..

- دراما تصرفهم عن همومهم ومشاغلهم وأزماتهم الحقيقية إلى قضايا ونقاشات أخرى أقل أهمية أو حتى عديمة الجدوى.

- دراما تنطلق من رؤى وروايات مكذوبة ومصنعة في أقبية المخابرات الحربية، وبالتالي فهي لا تعكس صوت الشعب أو صورته، بل تفرض عليه الصوت والصورة التي تريدها هي.

- دراما تمتلك الإمكانيات اللوجستية والمالية الكبيرة التي لا تخضع لأي رقابة محاسبية أو برلمانية أو إعلامية، وتجذب أو ترغم الفنانين على العمل معها وإلا فإن مصيرهم هو التعطل في الحد الأدنى.

في أحدها (الاختيار 2) تمتلئ حلقات المسلسل بالصور الزائفة التي استهدفت تثبيت الدعايات الكاذبة التي أطلقتها أذرع النظام خلال فترة اعتصامي رابعة والنهضة، مثل وجود الأسلحة الثقيلة، ودفع بدلات نقدية للمعتصمين، وانتشار الجرب بينهم، ومطاعن في النساء المشاركات في الاعتصام، وبلغت الأكاذيب ذروتها يوم فض الاعتصام بادعاء إطلاق نار كثيف من قبل المعتصمين ضد رجال الشرطة في البداية، في محاولة لغسل سمعة رجال الشرطة الذين اضطروا للرد حسب رواية المسلسل. وكان جزءا من التضليل إخفاء أي دور للجيش في عملية الفض، بينما يعرف كل من شارك أو شاهد عبر الشاشات حضور قوات الصاعقة في عملية الفض.. إلخ من الأكاذيب التي لا ضرورة لسردها، والتي ثبت عمليا كذبها يوم الفض نفسه.

في العمل الدرامي الثاني (هجمة مرتدة) استهدف صناعه تثبيت رواية أن ثورة يناير كانت محض مؤامرة خارجية صنعتها أجهزة مخابرات دولية، واستغلت فيها شبابا مصريا، ونشطاء في مجال حقوق الإنسان تلقوا تمويلات وتدريبات في دول أوربية. وهذه الرواية كانت تنشرها الأجهزة الأمنية بشكل غير رسمي، وقد أرادت توثيقها الآن في عمل فني، وربما هي تستهدف بشكل أخص الأجيال الجديدة التي لم تشارك في الثورة أو لم يكن سنها يسمح لها بالمعرفة وقت وقوعه. والغريب أن يتم نشر وتسويق هذه الرواية بينما ينص الدستور المصري المعمول به حاليا على "عظمة ثورة يناير"، وهو الدستور الذي يقسم على احترامه كل مسئول.

وفي العمل الأخير (القاهرة كابول) سعى المسلسل لتقديم الرواية الأمنية حول جذور الإرهاب، ومصانعه، ولذا اختار كابول تحديدا باعتبار أفغانستان هي دولة جماعات الجهاد (ضد الغزو السوفييتي) وهي الموطن الأصلي لتنظيم القاعدة، التي انطلق منها التنظيم بعملياته الإرهابية إلى العديد من الدول ومن بينها مصر التي لا تزال في معركة متعثرة مع الإرهاب حتى الآن، لكن صناع المسلسل تجاهلوا أن مصر الرسمية شاركت بقوة في دعم الجهاد الأفغاني بالمال والسلاح والمساعدات الطبية والمعيشية الأخرى، وكانت السلطة ممثلة في رأسها (أنور السادات) وفي كل مراكزها ترعى حملات دعم الجهاد الأفغاني، بغض النظر إن كان ذلك يمثل قناعة أصيلة للرئيس السادات الذي كان في عداء سافر أيضا مع الاتحاد السوفييتي، أم بطلب من الحكومة الأمريكية التي كانت توظف حلفاءها في المنطقة في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.

تقديم صور تلفزيونية خيالية لرجال الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية كان عاملا مشتركا أيضا بين تلك الأعمال، فهؤلاء الضباط هم حماة الوطن الساهرون على أمنه، الرحماء مع جنودهم ومع أهليهم ومع عموم المجتمع، وحتى مع ضحاياهم أثناء المواجهات المباشرة أو أثناء التحقيق في الغرف المظلمة!! الأسود المنتصرون دوما في مواجهة الخصوم والأعداء في ساحات المعارك، بينما يرى الناس في الواقع صورا مختلفة تماما سواء على مستوى التعامل اليومي مع عموم الشعب، أو في أقسام الشرطة ومراكز التحقيق أو في مواجهة الأعداء.

هذه الصورة الخيالية لرجال الجيش والشرطة هي سياسة أصيلة لدولة يوليو، وقد فرضتها عبر تعليمات مكتوبة (أكواد) وجهها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لشركات الإنتاج الفني والإعلامي، وكانت إحدى المهام الرئيسة للشركة المنتجة للمسلسلات الثلاث "سينرجي"، التابعة عضويا للمخابرات المصرية ضمن إمبراطوريتها الإعلامية التي تضم الآن عشرات القنوات والصحف والمواقع الإلكترونية.

هذه الهيمنة العسكرية على سوقي الدراما والإعلام مكنت النظام من تقديم روايته الزائفة للعديد من الأحداث الكبرى التي تشغل المصريين محليا وإقليميا ودوليا، وفتحت له الباب لتشويه هويتهم، وقد رأينا ملامح ذلك في احتفائه البالغ بموكب مومياوات ملوك الفراعنة، وقراره بتدريس اللغة الهيروغليفية (المصرية القديمة) في المدارس الابتدائية، وانطلاق أذرعه الإعلامية في حملات لإقناع المصريين بهويتهم الفرعونية بديلا لهويتهم العربية الإسلامية.

يراهن صناع هذه الدراما ومن يقف خلفهم على إمكانية نجاحهم في التلاعب بعقول المصريين، وتزييف وعيهم، وصناعة الصورة التي يريدونها، وربما حققوا بعض النجاحات الجزئية المؤقتة في مسعاهم، لكنهم سيصطدمون في النهاية بحقائق التاريخ. فهذه الأوهام المصنعة لن تصمد كثيرا بعد انتهاء السلطة الحالية. وفي التاريخ المصري الحديث نفسه ما يؤكد ذلك، فقد حاولت البروباجندا العسكرية في عهد ناصر تزييف الأحداث أيضا، سواء وقائع تحركات الضباط الأحرار والصراعات والتصفيات بينهم، بما في ذلك الإطاحة برئيسهم محمد نجيب وحبسه ومحو سيرته من كتب التاريخ ومن وسائل الإعلام وكأنه لم يحكم مصر لمدة عامين تقريبا، أو شويه القوى السياسية الوطنية مثل حزب الوفد وجماعة الإخوان والتنظيمات اليسارية، ومثل حربي 1956 و1967 وتأليه الحاكم، لدرجة أن تغني أم كلثوم لناصر بعد الهزيمة "أنت الخير وأنت النور.. أنت الصبر على المقدور.. أنت الناصر والمنصور". وقد اختفت كل هذه الأغاني، كما اختفت أيضا المسلسلات التي شوهت الحركة الوطنية، وظهرت بديلا لها أفلام ومسلسلات ضد حكم ناصر نفسه في عهد السادات، ثم ظهرت أفلام ومسلسلات ضد السادات لاحقا في عهد مبارك وهكذا دواليك.. وهو ما سيحدث حتما مع أفلام ومسلسلات السيسي.