اختيار الوالدين أحدهما للآخر

بقلم: د. رشاد لاشين

الطفل فرع من شجرة الأبوين، وتربية طفلٍ قويِّ الجسم تستدعي حسن اختيار الزوجين أحدهما للآخر في جانب الصحة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم.. " (رواه ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها) وقال أيضًا "تخيروا لنطفكم فإن العرق دسَّاس" (رواه ابن ماجة والديلمي).

فاختيار الوالدين أحدهما للآخر هو الخطوة المهمة والواقعية نحو البداية العملية الصحيحة لرعاية الطفل، ويُقصد به حسن الإعداد لإيجاد طفل قوي الجسم متين الخلق، قال الله تعالى:﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ (سورة النمل: 72).

لذا وجب أن يتفحص والدا المستقبل كلٌّ منهما الآخرَ قبل الارتباطِ بطريقةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة، حتى يستوفيَ كلٌّ في صاحبه سلامةَ الجسم وسلامةَ الأخلاق.

1- سلامة الجسم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" (رواه مسلم).

شرع الإسلام لكلٍّ من الخطيبين أن يرى من الآخر ما يرغبه فيه ليتعرَّفَ كلٌّ منهما على ما في صاحبه من المحاسن والعيوب؛ حرصًا منه على أن يُؤتيَ عقدُ الزواج ثمارَه المقصودةَ منه من التناسل وغضِّ البصر والسكن والرحمة والمودة.. وللخاطب أن يرى بنفسه، وأن يرسل مَن يتفقد له الأمر، بل وله الحق في أن يشترطَ في صاحبِه السلامةَ من العيوب، وله الحق في التفريق بعد العقد إذا تخلفت شروط السلامة ووجد بصاحبه عيبًا، وهي قضيةٌ تعرف في الشريعة الإسلامية بالتفريق بالعيب أو الطلاق بالعيب، وقد رُوِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوَّج امرأةً فوجد في أحد جنبيها بياضًا يشبه البرص، فقال لها الحقي بأهلك وفارقها بذلك، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "وفرَّ من المجذوم فرارَكَ من الأسد"، وثبت في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "أيما امرأة غُرَّ بها رجلٌ بها جنونٌ أو جذامٌ أو برصٌ فلها المهر بما أصاب منها وصداق الرجل على من غرَّه"، فقد أثبت للرجل حقَّ فراق زوجته بهذه العيوب مع رجوعه على من غرَّه بما دفع من الصداق، وهذا يدل على أن من لم يعلم العيبَ بصاحبه لا يغرم شيئًا، أما إذا تغاضى أحد الطرفين عن عيب علمه بصاحبه قبل العقد فلا يجوز له التفريق بذلك العيب، لذلك يدعو شرعنا الحنيف كلَّ طرف على أن يعرضَ نفسَه لصاحبِه بكلِّ أمانةٍ ووضوحٍ دونما خداعٍ ولا تضليل.

حين اكتشاف أحد الطرفين عيبًا بصاحبه يحق له الامتناع عن الارتباط به دونما حرج، وسوف يُغنِي الله كلاًّ من سعته، ولولا اختلاف الأذواق لبارت السلع كما يقولون، ولله في خلفه شئون، إذ قد يحظى هذا الشخص الذي به عيبٌ بإعجاب شخصٍ آخر، بل ويكون له قرة عين، رغم ما به من عيب ينفر منه الآخرون، وقد يكون الأفضل لشخص مصاب بمرض وراثي أن يرتبط بشخص عقيم ثبت عقمه بزواج سابق أو أن يرتبطَ بشخص آخرَ مصابٍ بنفس المرض فينحصر انتشار ذلك المرض في أضيق نطاق وهكذا.

فحوصات ما قبل الزواج

الأصل أن تجري عدة فحوص لكل خطيبين قبل الزواج؛ وذلك للأغراض الآتية:

(1) حماية كل منهما من الأضرار التي قد تُصيبه إذا ارتبط بالآخر.

(2) الاطمئنان الأولي على القدرة على الإنجاب، حيث إنه المقصود الرئيس من الزواج.

(3) حماية الأجيال القادمة من الأمراض التي قد تنتقل إليها من أحد الوالدين والاطمئنان الأولي على القدرة على رعاية الأبناء.

والأصل أن توجد مراكز متخصصة لفحوصات ما قبل الزواج يقوم الخطيبان بزيارتها عند التفكير في الارتباط ولديها برنامج كامل بهذا الشأن يتضمن الآتي:

(1) أخذ التاريخ المرضي السابق.

(2) عمل فحص سريري (إكلينيكي) شامل.

(3) عمل بعض التحاليل الطبية وأهمها:

أ. تحاليل الأمراض المعدية.

ب. تحاليل الجسيمات الوراثية (الكروموزومات) لدراسة الوضع الوراثي، وهل يوجد خللٌ وراثيٌّ في أحد الطرفين أو لا، وهل هناك احتمالية لانتقاله للذرية أو لا، وفي مصر تكمن أهمية خاصة للفحص عن وجود مرض أنيميا البحر الأبيض المتوسط: (الثلاسيميا) لانتشار هذا المرض الذي يحتاج إلى نقل دم متكرِّر، ولا يعيش المصاب به أكثر من عشرين أو اثنين وعشرين سنة على الأكثر.

ج. تحليل فصائل الدم وعامل ريزوس (Rh) وصورة دم كاملة للاطمئنان العام.

د. تحليل السائل المنوي للرجل واختبارات الخصوبة للمرأة.

هـ. هناك تحاليل تستجد حسب ظروف كل حالة على حدة.

وبعد إجراء هذه الفحوصات والتحاليل يستطيع كل طرف أن يتعرفَ بوضوح على الحالةِ الصحيةِ لصاحبه، وهل هي سليمةٌ من المشكلاتِ الكبيرةِ التي تستدعي عدمَ الارتباط أو لا، وهذه أيضًا مسألةٌ نسبيةٌ وتختلف باختلاف الأشخاص، فهناك عيوبٌ يمكن أن يتغاضى عنها بينما يرفضها البعض الآخر وهكذا.

بالطبع مسألة الفحوصات الطبية قبل الزواج تبدو شيئًا مثاليًّا أو خياليًّا في بلادنا، والكلام عنه قد لا يلقى القبولَ والتشجيعَ من كثير من الناس؛ وذلك لأسباب عديدة يرجع بعضها إلى الإمكانات المادية، حيث إن بعض الفحوصات غالية الثمن مثل تحليل الكروموزومات، ويرجع بعضها إلى العادات والتقاليد والجمود في مواكبة العلم الصحيح النافع.. هذه الفحوصات تطبق في الدول المتقدمة وتعتبر شيئًا طبيعيًّا لا غضاضةَ فيه، وبدأ تطبيقها في بعض الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة.

فوائد تحقق المقاصد

والناظر إلى شريعتنا الغرَّاء يجد أن هذا الكلام يتفق مع روح الشريعة وما تدعو إليه من مبادئ كما تقدم، بل يفيد في الواقع العملي التنفيذي، فحينما يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" (رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه) فمن قبل كانت معرفة الولود (القادرة على الإنجاب) معرفة ظاهرية كأن تكون أمها ولودة أو أختها ولودة، أما الآن فيمكن التعرف على ذلك بواسطة فحوص عملية تؤكد هذا الأمر وتختصر على الإنسان تعبه وعناءه في حالة كون زوجته عقيمًا.

من تعاليم الإسلام العظيمة "لا ضرر ولا ضرار"، فمن الحكمة أيضًا أن يتبيَّن كلُّ طرف وضعَ صاحبه، وما إذا كان به مرضٌ معدٍ قد يضرُّه أم لا.. وهكذا فإن هذا الأمر مهمٌّ وضروريٌُّ، ومن حقِّ كلِّ خطيب وكل خطيبة، وإننا لنرجو أن تأتيَ الأيام التي يصبح فيها هذا الأمر طبيعيًّا ومنتشرًا وسلوكًا لا غضاضة فيه، ورسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ".

في نهاية الفحوصات نلفت النظر إلى بعض الملحوظات:

- مرض الصرع غير المنضبط علاجيًّا قد يؤثِّر على القدرة على رعاية الأبناء.

- عند الإصابة ببعض أمراض القلب وبعض أمراض الكلى قد تُمنع المرأة من الحمل حمايةً لها.

- مرض السكر المتقدِّم قد يؤثِّر على القدرة الجنسية عند الرجل، وكذلك يؤثِّر على الأجنة عند النساء المصابات بالسكر.

- بعض الأمراض المعدية قد تؤثِّر على كلٍّ من الطرف الآخر والأبناء مثل الإيدز- الالتهاب الكبدي الوبائي (ب) وكذلك الدرن غير المستقر.

وحتى نصل بأمتنا إلى القناعة بأهمية (فحوصات ما قبل الزواج) فإننا بحاجة إلى جهود الإعلاميين والدعاة وأئمة المساجد والتربويين والمثقفين على مدى عدة سنوات حتى تتغير الأفكار والمفاهيم ونطبق السلوك السليم.

بديل متاح يمثل الحد الأدنى:

وفي حالة عدم التمكن من إجراء فحوصات ما قبل الزواج لسبب أو لآخر حتى يأذن الله لأمتنا أن تنهض وحتى ينعم الله علينا بإدارة تخطط لشعوبها كما يليق بقدر خير أمة أخرجت للناس، فلا أقلَّ من أن نلجأ إلى الآتي:

الدراسة الوراثية الجيدة للعائلة التي ترغب الزواج منها: لا يكفي أن يحرص كل فرد على أن يكون شريكه في الحياة فقط خاليًا من الأمراض؛ بل يجب التأكد من خلوِّ العائلة كلها من الأمراض الوراثية: (الأب- الأم- الأخوة- الأخوات- الجدود- الجدات- الأعمام- الأخوال- أبناء الأعمام- أبناء الأخوال- أبناء الأخوة- أبناء الأخوات)

وهذا أمر سهل وبسيط ويستدعي الآتي:

- أن يكون وقت الخطوبة قبل الارتباط كافيًا.

- التعارف الجيد على الأسرة والانفتاح الجيد عليهم وعلى فروعهم وعدم التقوقع أو الانشغال بالطرف المطلوب فقط.

- حسن التقصي للأمور: تعرف بنفسك واسأل الآخرين بذكاء وبلباقة.

- تحكيم العقل قبل إفساح المجال للعاطفة.

يجب أن يدرك كلٌّ من الزوجين أن الارتباط بالزواج ليس فقط الارتباط بشريك الحياة، وإنما ارتباطٌ بعائلةٍ لها تأثيراتُها الوراثية والاجتماعية على ذريته، ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا﴾ (الأعراف: من الآية 58)

إنها لمسئولية كبرى أن يحرصَ الإنسان على أن يجنِّب ذريته الأمراض (الوراثية- المعدية- المزمنة-..) وما تجره معها من معاناة للطفل طوال حياته.. والأمر سهلٌ وبسيطٌ، لو أخذنا بالأسباب وحكمنا العقل ومضينا على بصيرة؛ لأن العرقَ الدسَّاس قد لا يكون ظاهرًا في الآباء، ولكنه كامنٌ فيهم ومدسوسٌ من الأجداد والأسلاف.. اللهم ارزق أمتنا ذريةً قوية الأجسام متينة الأخلاق، وانفع بها الإسلام والمسلمين.. اللهم آمين.