بقلم: الدكتور السيد نوح    

إن المعايير التي يوزن بها الناس، وتُعرف أقدارهم وقيمتهم هي عند كثيرٍ من المخلوقين غيرها عند الخالق سبحانه وتعالى، فبينما هي عند المخلوقين تقوم بالمال، والولد، والأهل، والعشيرة واللون، واللسان والوجاهة والمنصب والعلم، نراها عند الخالق تقوم بالتقوى، بغض النظر عن أي من المعايير التي ذكرت آنفًا، قال تعالي عن قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي.......﴾ (القصص: من الآية 78)، وقال عن فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.......﴾ (الزخرف: من الآية 51)، وقال تعالى عن صاحب الجنتين: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ (الكهف: من الآية 34)، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ (سبأ: 37)، وقال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56)﴾ (المؤمنون).

ولما كانت التقوى في نظر الشرع الحكيم هي إتيان كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والبعد عن كل ما يبغضه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

فالصلاة والزكاة والصيام والحج تقوى وبر الوالدين والإحسان إلى الجار والأرملة واليتيم والمسكين تقوى، وفعل الخيرات والعمل لمصلحة الوطن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوى، ومجاهدة الكفار والمنافقين ومحبة المؤمنين ومؤاخاتهم تقوى، والإخلاص لله والشكر لنعمائه، والصبر على بلائه، والرضا بقضائه تقوى، وتطهير القلب من الحقد والحسد والشح تقوى، بل إنَّ مجرد اليقين أن الإنسان عبد لله، وأن الله له رب تقوى، فكل شيء في الحياة نافع وصالح يعد تقوى، وعلى أساسه تكون قيمة الإنسان عند ربه عالية ورفيعة، قال تعالى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...........﴾ (الحجر: من الآية 13).

ومظاهر هذه القيمة العالية الرفيعة تتجلى في:

أن الله يرفع بسببهم البلاء عن العباد والبلاد حتى لو كانوا كفارًا أو منافقين، أو مسلمين مسرفين على أنفسهم في المعاصي والسيئات، قال تعالى : ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ......﴾ (الأنفال: من الآية 33)، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.....﴾ (الفتح: من الآية 25).

أن ينزل نصره على الأمة في صراعها ضد قوى الشر والفساد بسبب وجود هؤلاء المتقين فيها، حيث بذلوا وتحملوا وضحوا، فقال سبحانه إن عونه لأهل بدر كان لذلتهم، يعني خضوعهم واستسلامهم لربهم وأخذهم بأسباب النصر التي بمقدورهم أن يقوموا بها، وتحابهم وترابطهم فيما بينهم.. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (آل عمران: 123).. وقال صلى الله عليه وسلم: "أبغوني الضعفاء فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" (رواه أبو داوود بإسناد جيد).

أن الله جعلهم صمام الأمان للبشرية إن هي جنحت عن الطريق أو ضلت السبيل، حيث كلفها قيادة البشرية، وألزمها الجهاد والتضحية في سبيل القيام بهذه المسئولية، ولكنه الجهاد المناسب للحالة التي يعيشها الناس فمرة بالسعي لكسب القوت للأهل والأولاد، ومرة بالسعي لسد حاجات الأرامل واليتامى، ومرة ببر الوالدين وإسعادهما، ومرة بتعليم الناس العلم وتنمية البحث العلمي، ومرة بتخفيف آلام المتعبين وقضاء حوائجهم، ومرة بإعانة من يصارعون المعتدين على حرمات الأوطان والدماء والعقول والأعراض والمقدسات والأموال، ومرة بمشاركة هؤلاء، المهم أن يقوموا بواجبهم لرد المفسدين عن فسادهم والظالمين عن ظلمهم، وقد وعدهم النصر أو الشهادة، قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69). وقال: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.........﴾ (الحج 78).

أن الله وعدهم في الآخرة الأمن من الفزع، والظفر بمقاعد الصدق في الجنة، فقال:﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)﴾ (يونس) وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾ (القمر).

إذا كان هذا حال نفر من أبناء الأمة عُرف عنه الصلاح، والاستقامة والوطنية، والصبر والعمل والعفو والإحسان، يكون جزاؤه على هذا اعتقاله من بيته وسط أهله وأولاده أو من الشارع أو من الحرم الجامعي، ويصادر ماله وتجاراته، وتغلق شركاته وتعطل أعماله، ويحرم الطالب من دروسه ومواصلة دراسته ويُحرم الموظف من وظيفته، وعطائه للأمة، والزج بهم في غياهب المعتقلات والسجون، وتتم إهانتهم وتعذيبهم ومعاملتهم معاملة بهيمية ليس فيها شيء من معاني الإنسانية.

أهكذا جزاء الصالح الوطني المستقيم الذي يبذل ما يبذل دون جزاء أو شكور من أحد إلا من الرب الودود، الكريم الرءوف الرحيم؟.

إن هذا الصنف من الناس كان ينبغي وضع أكاليل الزهور على رأسه والنظر إليه باحترامٍ وتقديرٍ، وشكره على هذه اللفتة الحضارية بدل التأويلات والتفسيرات التي مبعثها الظنون الأوهام والأهواء، لا الحقيقة ومناقشتهم بروية وحكمة وصولًا إلى الصواب.

أما الأسلوب الجاف الخشن الذي استخدمه هؤلاء فإنه لا يأتي بخير أبدًا، ولولا أن هؤلاء إخوان مسلمون ملتزمون بلوائح ونظم الجماعة التي أساسها ومحورها: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ........﴾ (النحل: 125) لكان منهم العنيف، والحاقد والميال إلى الانتقام والثأر ولكنهم لن يكونوا كذلك التزامًا بمبادئ الشرع الحنيف الذي يعلمهم "أن كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم..." الحديث (رواه مسلم).

هذا من جهة، واحترامًا لنظام الجماعة التي ينتمون إليها، وحفاظًا على وحدة الوطن وقدسيته وكرامته من ناحية أخرى، وإذا حسبت الدولة أو النظام أن ما فعلته معهم سيخيفهم ويحملهم على ترك جماعتهم والتبرؤ منها، أو التقهقر للوراء عن غاياتهم ومبادئهم، فهم واهمون؛ لأن هؤلاء أصحاب عقيدة، ولن تصرفهم الشدة أو الرخاء عن طريقهم، وتاريخهم خير شاهد بهذه الحقيقة، بل واقعهم اليوم مازال يشهد بذلك.

 كما أن الدولة إذا حسبت أن ذلك سيوقف المد الإسلامي، وسيطفئ نور الله فهيهات هيهات! لأنه دين الله، وما الإخوان وغيرهم من المسلمين إلا عمال في هذا الدين عند ربهم، وبغيرهم سينصر الله دينه ويمكن له في الأرض، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: 38) وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ (الفتح: 28).

ولكن هذا النفر من الإخوان، بل الإخوان كلهم، مع تحملهم وصدهم وإحسانهم فإنهم لن ينسوا حقهم، وسيطالبون به عند الله يوم القيامة، ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ (الشعراء) ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ (الانفطار: 19).

سيقولون لله: سل هؤلاء فيم ظلمونا وآذونا وعذبونا وحرضوا علينا، ووضعوا عنا تقارير عارية من الصحة، ويومها يا أركان الدولة والنظام ماذا سيكون جوابكم؟

إن بمقدوركم الآن إعفاء أنفسكم من هذه الوقفة التي لا تحسدون عليها يومئذ، بإنهاء الأمر عن طريق الحوار ولفت الأنظار إلى الصواب والتعاون لمصلحة الوطن، ودفعه إلى الأمام، والله أكبر ولله الحمد.

-----

مقال من تراث الشيخ الدكتور السيد نوح – رحمه الله ـ بتاريخ 27 فبراير 2007