بقلم: د. رشاد لاشين
دراسة شاملة لمرحلة المراهقة على أربع حلقات
وتسليط الضوء على رحلة المراهق من المعاناة إلى الانجاز والتمكين من خلال خواطر حول سورة يوسف ..
مرحلة المراهقة من أهم المراحل في حياة الإنسان، وخصوصًا في عصرنا الذي تكثر فيه الفتن والمغريات والضغوطات على الشباب، وكذلك تقل فيه القدرات التربوية للوالدين بسبب الانشغالات الكثيرة التي تحول دون الاحتضان والاحتواء للأبناء، وكذلك غياب دور المؤسسات التربوية التي ترتقي بالشباب، وتفجر طاقاتهم، وتكتشف مواهبهم، وتعمل على توظيف إبداعاتهم، ومن هنا تكثر الانحرافات والمشكلات ومعاناة الشباب وضياعهم.
وكي نرتقي بشبابنا ونحصنه ونحميه من الفتن والانحرافات؛ وجب تقديم النموذج والقدوة العملية الواقعية الراقية العفيفة التي تتمسك بالقيم والمبادئ، وتعتز بهُويتنا العظيمة، وتسير مرفوعة الرأس بخطوات واثقة، وتحقق إنجازات عظيمة، ولا تهتز أمام التيارات المادية، ولا تنخدع ببهارجها، ولا تنزلق في مستنقعات الفتن والشهوات؛ ذلك النموذج هو سيدنا يوسف عليه السلام الذي تعرَّض لفتن وابتلاءات عديدة في مرحلة البلوغ ونضج الغريزة، فاستعصم وكان النبراس الرائع لكل شاب ولكل مراهق في عصرنا.
وفي دراستنا هذه نقدِّم دروسًا عمليةً من قرآننا العظيم الذي لا تنقضي عجائبه، وذلك من خلال خواطر حول سورة يوسف يتعلم منها المراهقون والأهل والمربون وخبراء التربية، وستكون بإذن الله تعالى على مدى 4 حلقات كالتالي:
الحلقة الأولى: مرحلة الفتنة بالعرض والإغراء: الآيات من (22- 29).
الحلقة الثانية: مرحلة الفتنة بالإجبار والتهديد: الآيات من (30- 35).
الحلقة الثالثة: مرحلة الإصرار على التمسك بالمبادئ ودفع الثمن: الآيات من (36- 42).
الحلقة الرابعة: مرحلة الإنجاز والتمكين وانتصار المبادئ: الآيات من (43- 57).
***
الحلقة الأولى: مرحلة الفتنة بالعرض والإغراء: الآيات من (22- 29)
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ (29)﴾.
1- بناء الشخصية هو الطريق الأساس للاستعصام ومواجهة الفتن والشهوات:
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)﴾ (يوسف).
لقد أمضى سيدنا يوسف عليه السلام جزءًا من طفولته في رحاب والده سيدنا يعقوب عليه السلام، فنال قسطًا من التربية النبوية ومبادئها العظيمة، ثم أكمل باقي طفولته في قصر عزيز مصر برصيده السابق، فلم يتلون ولم يتغير ولم يساير الموجة السائدة، ورأى الحياة المترفة والقصور الفارهة والثروات الهائلة، وفي المقابل كذلك رأى المستضعفين والعبيد الذين يباعون في أسواق النخاسة، وكان يفكر في تغيير هذا الواقع الأليم، فانشغل بإعداد نفسه وتهذيبها وبنائها: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)﴾ فكان إعداد النفس برعاية الله تعالى من خلال ثلاثة محاور 1- الإحسان 2- الحكمة والفهم 3- العلم والفقه.
سن بلوغ الأشد:
وقبل أن نتطرق لجوانب إعداد الشخصية الثلاثة؛ نوضح آراء المفسرين في سن بلوغ الأشد: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ ﴾:
وبالبحث وجدت آراء عديدة، فمن المفسرين من حدد عمرًا لبلوغ الأشد، والآراء في مجملها تعبر عن الأعمار الآتية:
(10 سنوات- 15- 17- 18- 20- 25- 30- 33- 40).
ومنهم من ربط بلوغ الأشد بمدى معين: قال الزجَّاج: بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين، وأخرج بن أبي الدنيا في إحدى الروايات عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الـ18 إلى الـ30.
ومنهم من ربط بلوغ الأشد ببلوغ الحلم: عن الشعبي رضي الله عنه قال: الأشد الحلم إذا كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات.
ومنهم من ربط بلوغ الأشد بوصف وليس بسن فقالوا: الأشد: القوة؛ الأشد هو وقت الشباب والقوة واكتمال العقل.
محاور إعداد الشخصية السوية:
1- الإحسان: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
الإحسان مرتبة إيمانية أعلى من الإسلام والإيمان، وقد وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام لما سأله عن الإحسان قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وسيدنا يوسف عليه السلام بلغ مرتبة الإحسان بإحسانه في كل شيء: إحسان القول، وإحسان العمل، وإحسان السلوك؛ وكانت مكافأة الله تعالى له جزاء هذا الإحسان أن فتح له أبواب الحكمة والعلوم؛ ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)﴾ (يوسف)، وفي هذا الموقف تجلى إحسان سيدنا يوسف إلى الجميع: فأحسن إلى نفسه عندما لم يقع في المنكر وأحسن إلى امرأة العزيز إذ لم يستجب لها، وأحسن إلى العزيز بأن حفظ له عرضه.
ولما كان الإحسان له هذه المكانة العظيمة والدور الرائع؛ لذا يجب أن يحرص المربون بالتربية عليه منذ الصغر: بالربط بالله تعالى، والتربية على حبه ومراقبته، وكذلك بالتدريب على العبادات وتهذيب السلوك وتعلم الآداب وتجنب القبح والسوء والفحش من القول والعمل.
2- الحكمة: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾.
أورد المفسرون الآراء الآتية في معاني الحكم:
الحكم أي: (الحكمة وحسن الفهم)؛ و(الحكم والحكمة مترادفان)، وهو: (علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح واجتناب ضده).
(إِن الحكم يعني ضبط النفس إِزاء الهوى والميول النفسيّة، وهو هنا إِشارة إلى الحكمة العملية، والعلم إِشارة إلى العلم النظري... وتقديم الحكم على العلم هنا لأنّ الإِنسان إِذا لم يهذب نفسه ويبنيها بناءً صحيحًا لا يصل إلى العلم الصحيح).
(المراد من الحكم العقل والفهم، والقدرة على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والاشتباه).
والحكمة تقتضي:
أن يكون الإنسان على وعي وبصيرة وفهم صحيح وإدراك سليم ورؤية صائبة تمكن من حسن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
كيفية تحصيل الحكمة والتربية عليها:
1- يتم تحصيل الحكمة بتوفيق الله تعالى ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (269)﴾ (البقرة).
2- بالتعليم: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)﴾ (البقرة).
3- بالتدريب وتعلم الحياة من خلال المواقف ومتابعة الأحداث ودراسة التاريخ ومصاحبة أهل الخبرة.
3- العلم: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾.
و(المراد من العلم الاطلاع الذي لا يقترن معه الجهل)؛ ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ أي: الفقه والعقل والعلم في الدين بتحصيل الفقه وعلوم الدين وعلوم الدنيا النافعة الخادمة للرسالة؛ قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا قبل أن تسودوا).
ذلك أن العلم نور يضيء للإنسان في دروب الحياة ومواقفها المختلفة، فمن يعرف أن هذا حلال وهذا حرام، وهذا مباح وهذا مكروه، وهذا طيب وهذا خبيث؛ لا يخطئ التصرف في ما يقابله من مواقف.
لذا وجب أن ننشغل بإعداد أجيال (محسنة؛ حكيمة؛ عالمة) منذ نعومة الأظفار من خلال برامج عملية متنوعة: بالتعليم والتدريب وبناء القناعات وغرس القيم وتوضيح المفاهيم وبناء السمات وتوفير المعارف والعلوم، حتى إذا واجهوا المواقف كانت تصرفاتهم سوية وأخلاقهم راقية وقراراتهم صائبة ومواقفهم مشرفة، ولن يتحقق ذلك إلا بتوفيق الله تعالى، وبعد أن نربِّي على الإحسان وندرِّب على الحكمة ونوفِّر العلوم.
2- لماذا تصمد الشخصية السوية حينما تجتمع عليها كل عناصر الفتنة والإغراء:
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾.
أ- سيدنا يوسف الفتى الوسيم الجميل تراوده امرأة العزيز، وتتوفر لديه كل العوامل التي تساعد على ارتكاب الفاحشة التي تمثلت في الآتي:
1- أن التي عرضت عليه الفاحشة سيدته التي لها سلطان الأمر والتكليف له.
2- هو فتى في مرحلة المراهقة وفوران الشهوة والرغبة.
3- دوام التعرض للإغراء، فهو متواجد معها في البيت طوال الوقت.
4- المكان مؤمن تأمينًا قويًّا والأبواب ليست فقط مغلقة بل (مُغَلَّقَة) بصيغة المبالغة.
5- توفر الزينة والإغراء والتهيئة للوقوع في الفاحشة: ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾.
6- هو غريب ليس له أهل ولا عشيرة في المكان، يحذر أن يفتضح أمره فيما بينهم.
ب- كان الرد التلقائي والمباشر لهذا العرض الذي تهيأت له كل الظروف هو الرفض الفوري ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، فمن حصَّل الحكمة والفهم والعلم والفقه قبل التعرض للفتن لا يخطئ التصرف عند مواقفها.
هذا التصرف نبع من شخصية صاحبة مؤهلات تتمثل في الآتي:
1- الاستعانة بالله تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾:
الله سبحانه هو الحافظ والمعين يحفظ الإنسان من الانزلاق، ويعينه على العفة والعصمة، وأنجح الناس من استعان بالقوي القادر، وأفشل الناس من فشل عن الدعاء؛ لأنه لم يأوِ إلى الركن الركين.
وتفسير كلمة (معاذ الله): أعوذ بالله من ذلك وأعتصم به وأستجير مِن الذي تدعوني إليه.
(معاذ الله) تحتاج من أجيالنا أن تمارسها قولاً وعملاً، فكلما يعرض لهم موقف فيه فتنة (معاذ الله)، وكلما عرضت صورة عارية (معاذ الله)، وكلما لاح شاب وسيم (معاذ الله) أو أبرقت فتاة متبرجة (معاذ الله)، كلما ظهرت قناة مستهترة (معاذ الله) كلما ظهر موقع إباحي (معاذ الله).
2- الإحساس بالفضل وعدم نسيان النعمة: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾:
وهناك قولان مشهوران لدى المفسرين في مراد سيدنا يوسف عليه السلام من الضمير في كلمة (ربي):
الأول يقول: إن الضمير يعود إلى الله تبارك وتعالى.
والثاني يقول: إن الضمير يعود إلى سيده أي عزيز مصر.
فيكون على الوجه الأول: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ أي (الله سبحانه وتعالى)؛ لأنه صاحب الفضل علينا وهو ربنا الذي أحسن خلقنا ومثوانا وهو يحسن إلينا، فلن نسيء إليه ولن نعصيه.
وعلى الوجه الثاني: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ أي (عزيز مصر) فهو ربي أي سيدي، أحسن مثواي فلا يليق بي أن أخونه في أهله؛ فكيف يحسن إلي ويعاملني معاملة السيد لا معاملة العبيد والخدم، فأسيء إليه بهذا الظلم والفعل الشنيع؟
لذا شكر النعمة وتقدير الفضل؛ سواء لله تعالى أو لأحد من خلقه، يمنع من التجاوز، ويعصم من الزلل، والعكس بالعكس، فمن ينسى فضل الله تعالى ونعمه عليه يتجرَّأ على المعاصي والذنوب، ويقع في الفواحش والمحرمات، ومن ينسى فضل الناس عليه قد يستهين بأعراضهم كمن يخون أهل بيت (كبيت عمه أو بيت خاله أو غيرهم) يستأمنونه ويرحبون به ويكرمونه، ثم يخونهم في أعراضهم وبناتهم؛ لذا على المربي الناجح أن يربي الأجيال على الإحساس بالنعم، وتقديرها، وشكر الله تعالى عليها، وكذلك شكر أولي الفضل من الناس.
3- امتلاك الرؤية الصحيحة للأمور:
امتلاك الرؤية الصحيحة للأمور وتقدير عواقب السلوك ومآلات الأمور؛ تجعل الإنسان يتخذ القرار المناسب دون الانبهار بالجمال أو الزينة أو المتعة السريعة المؤقتة التي تجر وراءها مصائب كبيرة وفشلاً ذريعًا وحسرةً وندمًا وقد تمثلت الرؤية الصحيحة هنا في الآتي:
أ- التقزز من الفاحشة والاستعاذة بالله منها (معاذ الله):
فإذا كان هناك من ينظر لعرض كهذا بأنه فرصة ومتعة وغنيمة؛ ولكن النفس السوية الصالحة ترى أن هذا شيء مقزز لا ترتضيه فتشمئز منه ونستعيذ بالله من الوقوع فيه.
ب- ارتكاب الفاحشة ينتج عنه الفشل وعدم الفلاح ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾:
ولن نقع في الفاحشة حتى لا نفشل ونخسر ونضيع الفلاح، ويحضرني هنا ثلاثة أمثلة واقعية للفشل؛ بسبب الانغماس في الشهوات:
1- لا أنسى زميلاً لي كان ترتيبه الأول علينا في المرحلة الابتدائية، وكنت أنا الثاني وظللنا هكذا حتى وصلنا لمرحلة المراهقة، فأكرمني الله تعالى بالاستقامة وصحبة الصالحين، وانزلق هو في صحبة البنات والتدخين، فلم يحصل على مجموع يؤهله لدخول الثانوي العام، وبالكاد حصل على الدبلوم وهو يعمل الآن سائقًا لسيارة نصف نقل، ولكني بنعمة الله الذي أحسن مثواي، وأكرمني بالاستقامة؛ أكملت طريقي، ومنَّ الله تعالى عليّ من فضله، ونسأله سبحانه الثبات والاستمرار حتى نلقاه غير مبدلين ولا مغيرين، فما أعظم نعمة الاستقامة والعفة والسير على صراط الله المستقيم.
2- ضابط شرطة برتبة رائد تم تكليفه في إحدى المناطق السياحية، فتورط في علاقات غرامية، واستغرقته شهواته، وظل يتغيب كثيرًا حتى تم فصله من الخدمة.
3- البنت صاحبة الرؤية القاصرة التي انزلقت في الزواج العرفي، وخانت أهلها بغية التسرع في إشباع الغريزة، فكانت نتيجتها غضب الوالدين، ونبذ المجتمع، ثم التفريط فيها من قبل ذلك القرين الذي استمتع بها فترة من الزمن، ثم ألقى بها في مهاوي الضياع والندم، وتخلى عنها، وتركها وحملها وفضيحتها وآلامها وعذابها ونعم ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
ج- ارتكاب الفاحشة ظلم ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾:
لن أقدم على ارتكاب الفاحشة حتى لا أصبح من الظالمين؛ ظالمين لأنفسنا بوقوعنا في المعصية، وظالمين لغيرنا باعتدائنا على أعراضهم وانتهاكنا لحرمتهم.
3- كيف يواجه المراهق ضغوط الفتن وإلحاح الإغراء ومحاولات التشويه والاتهام:
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)﴾
نجح سيدنا يوسف في مواجهة الفتنة؛ لأنه أولاً التجأ إلى الله تعالى، واستعاذ به، وطلب منه العون، وثانيًا لأن الرؤية عنه واضحة بينة، فالغريزة لا تغلب المبدأ، ورغم محاولات سيدته الإيقاع به في الفاحشة فهمت به للفعل وهم بها للهرب ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾، وكان هذا السلوك العفيف الرائع؛ لأن الله تعالى حفظه ورزقه نورًا وبرهانًا ورؤيةً صحيحةً ﴿لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وأعانه الله تعالى وصرف عنه الفعل السيئ الفاحش ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾، فممارسة الجنس المحرم أمر سيئ وفاحش يجلب الشرور الكثيرة دينيًّا وصحيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا، وكانت نعمة الحماية من الوقوع في الفاحشة بسبب إخلاص العبادة لله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾.
لذا يجب أن نربي أجيالنا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك" فسيدنا يوسف عليه السلام حفظ الله فحفظه الله، فما أجمل الإيمان في الواقع العملي للحياة.
إخلاص العبادة سلاح المواجهة:
الإيمان بالله تعالى وإخلاص النية له وممارسة العبادات يعصم من نظرة محرمة أو كلمة محرمة أو خلوة محرمة أو لمسة محرمة أو ممارسة محرمة، ويحفظ نقاء القلب وطهارته؛ لذا يجب أن نحرص على تقوية الجانب الإيماني والعبادي بالصلاة والذكر والدعاء وتلاوة القرآن، فمن يملك رصيدًا إيمانيًّا يقوى على المواجهة، ويثبت في مواجهة الأمواج العواتي، ومن يضعف إيمانه يسهل سقوطه وترديه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾ (الأنفال)، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ (الطلاق: من الآية 2).
رصيد التربية وإعداد الشخصية يحمي في كل المواقف:
ومع إلحاح الشهوة وضغط الغريزة وغياب الإيمان تصر امرأة العزيز على دعوة الفتنة: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)﴾.
ويتعرض الشريف العفيف للاتهام الظالم والتهديد بالسجن والتعذيب، وهذا شأن المتورطين في الحرام حينما يفتضح أمرهم لا يتورعون عن مزيد من الإساءة والتورط، فيقلبون حقائق الأمور، ويلصقون الاتهامات الباطلة بالأبرياء وصدق المثل القائل: (رمتني بدائها وانسلت).
وفي المقابل نرى الشخصية السوية لا تهتز ولا تضعف، بل تواجه الأمور بشجاعة وثبات ورباطة جأش، وترفض الاتهام ولا تخنع أبدًا أمام أصحاب الانحراف مهما كان موقعهم ومهما كان مركزهم: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾.
4- رعاية الله تعالى للمراهق العفيف المستعصم به:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾ (الحج)، هذا العفيف الضعيف المستعصم بالله تعالى لا يتخلى عنه الله تعالى في وسط أصحاب السطوة والسلطان، فتضيع كرامته أو تسوء سمعته، بل يرعاه الله سبحانه وتعالى ويقيض له من يجلي الحقيقة ويظهر البراءة وينفي التهمة، رغم سطوة صاحبة السلطان وكيد سيدة القصر؛ يقيض الله تعالى شاهدًا ومن أهلها، فيضع قاعدة حكمية تكشف الحقيقة وتبين من المتهم ومن البريء:
﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)﴾.
5- من أخطر أسباب الانزلاق في الفتن غياب رعاية الأسرة ومتابعتها وضعف مفهوم العفة والعرض:
ومن أحداث هذه القصة يتجلى سبب من أسباب الانزلاق في الفتنة والفاحشة ألا وهو غياب أو ضعف الضوابط من قِبل رب الأسرة؛ والنظرة المستهينة بالعرض والعفة؛ يتجلى ذلك في التعقيب الرخو لعزيز مصر بعد وضوح حقيقة ما فعلته زوجته؛ ما ينم عن ضعف الشهامة والرجولة فقط المطلوب هو طلب الإعراض من سيدنا يوسف والاستغفار من الزوجة:
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ (29)﴾.
فاستسهال ولي الأمر بأمور الإعراض، وعدم متابعته سلوكيات زوجته أو أبنائه وبناته كارثة أخلاقية؛ فهذا المستسهل لا يدري ماذا يحدث ولا ماذا يمارس؛ مَن يدخل البيت؛ مَن يتصل على الهاتف؛ ولا من يرسل الرسائل القصيرة أو البريدية؛ أين تذهب البنت؛ وبمن تلتقي؛ ومع من تجري محادثات على النت.... فالحبل متروك على الغارب فالخلوة غير الشرعية عنده لا غضاضة فيها ولقاءات الأبناء والبنات بغيرهم لا غضاضة فيها، ثم تطالعنا الصحف بأخبار بشعة وانتهاكات خطيرة وبمدرس الدروس الخصوصية الذي انتهك عشرات الفتيات في عمر الزهور في عقر دارهن؛ لأن ولي الأمر المحترم يدخل ابنته مع المعلم، ويغلق عليهما الباب على مدى ساعة كاملة لا يدري ما يحدث بالداخل؛ لذا يجب أن نوضح الضوابط الشرعية بلا حرج، ولا نتنازل عنها بدعوى الثقة مهما كان الأمر أو أن هذا نوع من التسامح، فتخفيف الضوابط والتفريط فيها يجر للسقوط والوقوع في المحظور؛ لذا يعلمنا الله تعالى السلوك الوقائي الذي يحفظ الإنسان من الانزلاق: ﴿ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32) ﴾ (الإسراء).
ورد في كنز العمال للمتقي الهندي (في مقدمات الزنا والخلوة بالأجنبية) عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه قال: "لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما" (أخرجه الحاكم في المستدرك- كتاب العلم (1/114) وقال: صحيح على شرط الشيخين).
قال الإمامِ المناوي في فيض القدير، شرح الجامع الصغير في شرح هذا الحديث: "ألا لا يخلون رجل بامرأة" أي أجنبية "إلا كان الشيطان ثالثهما" بالوسوسة وتهييج الشهوة ورفع الحياء وتسويل المعصية حتى يجمع بينهما بالجماع أو فيما دونه من مقدماته التي توشك أن توقع فيه والنهي للتحريم (عن عمر بن الخطاب، قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم على شرطهما).
* وفي نهاية هذه الحلقة أهيب بالمتخصصين والخبراء أن يخططوا برامج ووسائل عملية، انطلاقًا من هذه الأفكار النابعة من أعظم منهج تربوي في العالم من كتاب الله الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)﴾ (البقرة).
* وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى حيث نتطرق إلى المرحلة الثانية (مرحلة الفتنة بالإجبار والتهديد).