يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي مر معنا من قبل: "القلوب أربعة، قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط عليه غلافة، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة، يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى، غلبت عليه" في هذا الحديث "بيان لأنواع القلوب البشرية بالنسبة لقضية الإيمان وواضح من الحديث أن القلب الكافر الذي ربط على غلافه والقلب المنكوس لا فائدة منهما في قضية الإيمان، والقلب الذي فيه مثل السراج يزهر هذا هو القلب الهدف وهو القلب السليم وهو غاية سير السائرين في عملية إصلاح القلب، والقلب الذي هو محل العلاج هو القلب الذي لا زال فيه بقية من نور الفطرة أو هو القلب الذي فيه بقية من إيمان مثل هذا القلب هو محل العلاج، وهو القلب الذي يفترض على أصحابه فرضاً أولياً أن يسيروا في الطريق إلى صلاحه وإصلاح هؤلاء الفريضة الأولى في حقهم هي السير نحو صلاح قلوبهم حتى تصل إلى أن تكون القلب المؤمن العارف ولا شك أن القلب الكافر والقلب المنافق الفريضة الأولى في حق أصحابهما هي الإسلام والإيمان ولكن هذا مما لا نطمع فيه، إذ لا محل عند هؤلاء للسماع أصلاً فضلاً عن الاستجابة، قال تعالى {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادِ العُمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} وإذن فالفريضة الأولى في حق مرضى القلوب هي إصلاح قلوبهم ثم الاستمرار بها في حالة معينة في إعطائها الزاد اليومي اللازم والغذاء الذي تحتاجه، وهي قضية تختلف من إنسان لإنسان ثم ملاحظتها من فترة وأخرى بالقيام بعملية تجديد الإيمان فيها وهكذا الشأن حتى الوفاة. ولن يستطيع أحد أن يحافظ على سلاخمةخ قلبه وصحته وهو مقصر في فريضة من الفرائض أو هو مستمر عل منكر من المنكرات لاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه ليغان على قلبي حتى استغفر في اليوم مائة مرة" أخرجه مسلم وأبو داود، فأنت ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل شيئاً ما ليبقى قلبه على حال معين، ثم إنه عليه الصلاة والسلام يقول: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" أخرجه الطبراني في الكبير وأخرجه غيره وهو حديث حسن، ويقول عليه الصلاة والسلام "جددوا إيمانكم... قيل يا رسول الله كيف نجدد إيماننا، قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله" رواه الإمام أحمد بإسناد جيد. إنه من خلال هذه النصوص ندرك صحة ما قلناه... إن المرحلة الأولى هي الانتقال بالقلب من مرض إلى صحة ثم المرحلة الثانية إعطاء هذا القلب الزاد اليومي والزاد اللازم كل حين ليبقى القلب محافظاً على حالته الإيمانية الرفيعة ويبقى هذا هو الشأن في حق كل إنسان حياته كلها حتى يلقى الله عز وجل، قال تعالى {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} أي الموت فإن به انكشاف الأمور الغيبية على حقيقتها... والطريق إلى إصلاح القلب العلمُ ثم العمل بالإسلام، ومحل الذكر في العمل هو الأول فهذه قضايا ثلاث. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك من فقه دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" أخرجه الشيخان، من هذا الحديث ندرك أن طبيعة القلوب تتحدد وتتبين من خلال موقفها من العلم والهدى الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتلقي والعلم هو الذي به تتبين حقيقة القلوب. إن تجاوب القلوب مع الوحي أو عدم تجاوبها، أخذها للعلم أو عدم أخذها له، كل ذلك متوقف أولاً على العلم، فالعلم هو الأول كوسيلة للإصلاح، لكن القلوب تتفاوت في مواقفها وعلى كل فإذا كانت القلوب من النوع الذي يحفظ ولا ينبت أو من النوع الذي لا يحفظ ولا ينبت وكان فيها إيمان فإنه لا بد من عملية إصلاحية علاجية وههنا يأتي كوضع ضروري دورُ المربي والولي والمرشد أو الشيخ الكامل.

بشكل عام ندرك من هذا الحديث أن العلم لا بد منه ومع العلم، العمل بالإسلام كطريق لا بد منه لتتسلل أنوار الإيمان شيئاً فشيئاً إلى القلب حتى يستنير كله، قال تعالى {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}. فالإيمان لم يدخل ولكنه على وشك الدخول بسبب الإسلام وأعمال الإسلام. فكل عمل من الإسلام يفعله الإنسان إذا صحت النية فيه له نوره الذي يتسلل إلى القلب فإذا تصورنا الآن إنساناً قلبه فيه إيمان ونفاق وتصورنا أن هذا الإنسان قطع مدد النفاق عن قلبه بتركه الفسوق وأعمال الكافرين وبتركه المعاصي وتصورنا أن هذا الإنسان أقبل بهمة ونشاط على أعمال الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وجهاد وذكر وقراءة قرآن وغير ذلك، مثل هذا الإنسان لا يلبث بعد فترة حت يستنير قلبه ويصل بسرعة إلى القلب المؤمن الذي فيه مثل السراج يزهر، والفرائض كلها لا بد منها كطريق في عملية الإصلاح هذه ومن الفرائض الصلاة وهي ذكر ولكن باب الذكر أوسع، والذكر في قضية القلوب له المكان الرفيع، قال تعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] ولكن الوصول إلى الحالة التي يعطي الذكر فيها القلب اطمئناناً يعتبر وضعاً متقدماً في السير الإيماني ولذلك جاء قوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.... والفلسفة الكثيرة في هذا المقام لا تغني شيئاً عن العمل الكثير، إبه بقدر الهمة على العلم وعلى العمل وخاصة الذكر يستطيع الإنسان أن يقطع مراحل كبيرة، ولحكمة ما نلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد كلفوا بالآيات الأولى من سورة المزمل سنة كاملة {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً. إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً إن لك في النهار سبحاً طويلاً واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً} [المزمل: 1-8]، أن يقبل المسلم على صلاته فريضة ونافلة وأن تكون له أوراده الكثيرة من الأذكار وقراءة القرآن مع سيره إلى إصلاح قلبه بسرعة كبيرة وذلك بقدر ما يبذل من جهد وطاقة فالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى... فإذا وصل إلى طمأنينة القلب وحياته وتنوره بقي عليه أن يحافظ على هذه الحالة وأن يزيد نورانية قلبه وذلك بالمحافظة على حد أدنى من الأوراد المتعددة تكفي احتياجات قلبه. وهذه الاحتياجات تختلف باختلاف الناس فالإنسان المضطر لخلطة بيئات فاسدة أو كافرة تختلف حاجات قلبه عن إنسان يعيش ليلاً ونهاراً في بيئة المسجد وفي أجواء الصالحين. ولذلك نلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى أنواع كثيرة من الأذكار والأوراد وترك بعد الفرائض والواجبات للإنسان حرية الإختيار للمندوبات وما أكثرها ثم على كل مسلم أن يلاحظ حالة القلبي في كل فترة فيجدد إيمانه بالإقبال على كلمة التوحيد ولذلك نلاحظ أن الله عز وجل فرض علينا فرائض سنوية كالصوم والزكاة وبعضها عمرية كالحج، وكل ذلك له محله في قضية استمرارية الإيمان وتجديده وحياته وصلاح القلب وفي دوائر مما ذكرناه تقع أغلاط كثيرة يرتكبها كثير من الناس فلنحاول أن نحدد بعض هذه الأغلاط من خلال عرض بعض الأمور:

أولاً: ما أمر الله عز وجل الإنسان بشيء ولا نهاه عن شيء إلا وفي ذلك حكمة ومصلحة للإنسان ومجموعة ما فرض الله عز وجل على الإنسان وشرعه له هو الذي فيه دواؤه وعلاجه. فلو حدث أن الإنسان عطل أمراً ما من الأوامر فلا بد أن يترتب على ذلك فساد في نفسه وفيمن حوله. هذه ناحية والناحية الثانية أنه ما من أمر ولا نهي شرعه الله عز وجل إلا وفي ذلك حكمة فإذا لم يحقق الإنسان الحكمة من تنفيذه الأمر يترتب على ذلك فساد في نفسه وفساد فيمن حوله ولنضرب على ذلك أمثلة تبين المراد: فرض الله عز وجل الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والكسب الحلال وصلة الأرحام وبر الوالدين وغير ذلك من الفرائض وكل فريضة يخاطب بها الإنسان إذا أتى بها ترتب على ذلك مصلحة لا تتحقق إلا بها وإذا تركها ترتبت على ذلك مفسدة لا تزول إلا بإقامتها، فهذا القتال في سبيل الله عندما يكون فريضة فيهمل يترتب على ذلك كما قال الله عز وجل {فهل عسيتم إن توليتم} أي عن إقامة فريضة القتال {أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} [محمد: 22] فحيث لا يكون قتال في سبيل الله يوجد إفساد وقطيعة رحم. وهكذا قل في أي فريضة تعطل أو أي حرام يرتكب لا بد أن يترتب على ذلك فساد، قال تعالى {فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} [المائدة: 16] ثم كل فريضة شرعها الله عز وجل إنما شرعها لحكمة، فهذه الصلاة قال الله عز وجل فيها {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] وقال تعالى فيها {وأقم الصلاة لذكري} فعندما يؤدي الإنسان الصلاة ولكنه يكون فيها غافلاً عن ذكر الله ولا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر لا يكون قد أدى حكمة الصلاة، وقل مثل ذلك في كل فريضة.

فهذا الصوم شرعه الله عز وجل كطريق موصل للتقوى وضبط النفس، قال تعالى {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 184] ويقول عليه الصلاة والسلام "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري فلو أن إنساناً صام ولم يحقق حكمة الله التي من أجلها شرع الصوم لا يكون قد أقام الفريضة حق القيام ومن ثم ندرك أن المربين الذين لا يربون على أن يحقق المسلم الحكمة التي من أجلها كان الأمر والنهي هؤلاء مقصرون ولا يمكن أن تستقيم مع تقصيرهم نفس الإنسان ولا حياة الناس. وفي موضوعنا الذي نحن فيه لا يمكن أن يتم صلاح للقلب البشري أصلاً بهذا التفريط... وفي إغفال هذه القضية يكمن أهم أغلاط بعض المتصدرين للتوجيه والتربية من الصوفية وغيرهم ومن ثم فلا تصلح على يدهم القلوب ولو ادعوا في ذلك الدعاوي العريضة وخدعوا بذلك أنفسهم ومريديهم والمسلمين... أن يكون للمسلم موقف من كل شيء سلباً أو إيجاباً هذا واجب وقته فهو ضد الكفر وأهله ونظامه ومع الإسلام وأهله ونظامه... أن يعطي المسلم ولاءه للمسلمين ويحجبه عن الكافرين... أن يعمل المسلم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وذلك لا يكون إلا إذا كان الإسلام حاكماً والمسلمون حاكمين... هذه كلها فرائض فعندما تجد مربياً يربي على تعطيلها بل على محاربة أهلها فكيف يستقيم قلب الإنسان على مثل هذا التضليل... إن هؤلاء لا تصلح بهم القلوب بل تفسد بهم العقول والقلوب والأرواح والأجساد والفرد والمجتمع والانسانية... هؤلاء ليست قلوبهم ربانية ولا محمدية... هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حياد في الصراع بين الكفر والإسلام؟ هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمحون لأنفسهم أن يروا الكفر البواح وهم لا يعملون على إنهائه؟ ماذا فعل أبو بكر للردة؟ والآن هذه الردة مستشرية في كل مكان وكأن الدنيا عند بعض الناس في غاية الإسلام... ولو أن هؤلاء اقتصروا على موقف العاجز واعترافه لهان الخطب ولكنهم مع عجزهم يربون على العجز ويفلسفون له ويحاربون من يتحملون في الله عبء الصراع مع الكفر وأهله وما أقساه من صراع... إنهم في هذا لا يخرجون عن كونهم نماذج تنطبق عليهم إلى حد كبير أو قليل هذه الآيات: {وإنّ منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً} [النساء: 71-72] {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً أشحةً عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حدادٍ أشحةً على الخير أولئك لم يؤمنوا...} [الأحزاب: 19] إن من لم يفهم المسألة كذلك فإنه يكون على غلط عظيم في فهم قضية القلب السليم.

ثانياً: ومن مظاهر الغلط الرئيسية التي يقع فيها بعض ممن يتصدرون لعملية اصلاح القلوب من الصوفية والعلماء وغيرهم. أن الكثير منهم تغيب عنه أن من شروط صلاح القلب أو إصلاحه التخلي عن معان، كما أن من شروط ذلك التحقق بمعان. فالذكر بأنواعه وأعمال الإسلام بأنواعها، كلها قضايا ذات صلة بإصلاح القلب وعدم التفريط بالقيام بحق الأمر والنهي شرط لصلاح القلب وإصلاحه. وفي هذا المقام يقع بعض الناس في غفلة عن البديهيات ولتوضيح هذا المقام فلنستعرض بعض المعاني. قال تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههمه ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: 44] فههنا مرض يستحيل معه شفاء القلب والعلة الرئيسية ههنا هي وجود الإنسان الذي عنده استعداد لسماع الأكاذيب وعنده استعداد للتجسس على المسلمين لحساب الكافرين {سماعون للكذب} وما أكثر الذين يسعون الإشاعات الكاذبة ويصدقونها في المسلمين {سماعون لقوم آخرين} وما أكثر الذين يتطوعون في نقل أخبار المؤمنين للكافرين... من هذا المثال ندرك أن قضية صلاح القلب لها شروطها السلبية كما أن لها شروطها الإيجابية ولكن القليلين هم الذين يدركون ذلك.

ب- قال تعالى {ولقد أخذ الله ميثاق بني اسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} [المائدة: 13-14] لاحظ أن قسوة القلب ههنا عقوبة على نقض الميثاق بمعان فيها فما هي هذه المعاني؟ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل ونصرتهم وإقراض الله قرضاً حسناً، والآن لاحظ أن الله عز وجل جعل قوم المسلم: سمعنا وأطعنا عهداً وميثاقاً... قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا} [المائدة: 8] والآن فلنسائل أنفسنا أي شيء أخذ العهد به على بني اسرائيل في هذه الآية لم يؤخذ علينا؟ من صلاة أو زكاة أو إيمان بالرسل أو نصرة لهم أو إقراض لله عز وجل، قال تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} [الأحزاب: 45-46]، {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه...} [الفتح: 8-9]، فلو أن المشتغلين في صلاح القلوب لم يلاحظوا مثل هذا فأهملوا شيئاً منه كنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصرة شريعته ونصرة سنته ونصرة دينه ونصرة حملة شريعته فكيف يتم صلاح القلب والحالة هكذا... ومن هذا المثال ندرك كذلك أن قضية صلاح القلب لها شروطها السلبية والإيجابية. ولعله من هذا المثال والذي قبله نعلم أن من الشروط الأولى لصلاح القلب الانتماء الصحيح لجماعة المسلمين الحقيقية والإخلاص لها وفيها ومحاربة أعداء الله معها بدلاً من أن نكون عوناً لهم وجواسيس عليها، إن الانتماء لجماعة المسلمين المتمثلة بالحق وأهله هو الطريق الصحيح لنصرة الرسل عليهم الصلاة والسلام "أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" رواه البخاري والجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك، هذا ما فسرها به ابن مسعود رضي الله عنه... فأن نجد ناساً يحاربون التجمع على الحق ونصرته فذلك خطأ وضلال وأنى يكون مع ذلك صلاح قلوب؟ اعتبر بعضهم حسن البنا رحمه الله مخطئاً لأنه تدخل في السياسة وكأن المسلم بالخيار... وكل الاتجاهات الكافرة تتجمع لتصل إلى الحكم لتحقق أهدافها الكافرة التي بها القضاء على الإسلام... كأن المسلم في الخيار والشأن كذلك أن لا يتجمع على الإسلام لينصره ويحول دون القضاء عليه، كأن هؤلاء لم يفهموا من الإسلام أبده بديهياته التي تقول بأن كلمة الله يجب أن تكون العليا وأن على المسلم أن يسير في طريق ذلك، وكيف تكون كلمة الله هي العليا إذا لم يعمل المسلمون لذلك بطريق ذلك؟ كل اتجاه كافر يعمل للوصول إلى الحكم في عصر أصبح الحكم يتدخل في الصغيرة والكبيرة، فإلى من نوكل بقاء الإسلام واستمراره بعد أن كلفنا الله بذلك بقوله تعالى {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} [محمد: 4] وقال {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} [محمد: 31] أم نريد أن نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}؟ [المائدة: 27] إن إصلاح القلب هو إحدى مهمات الرسل الأساسية فإذا تصدر لها من يريد أن يتصدروا لمقام الأنبياء دون دفع ثمن ذلك فيا فداحة الكارثة، قال تعالى {وكأين من بني قاتل معه ربيون كثير} [آل عمران: 146] وفي قراءة ورش {وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير} وإذن فكثير من الرسل قتلوا... ولقد رأيت ممن يدعون أنهم يسيرون في طريق إصلاح القلوب من يعتبرون القتل علامة على عدم الكمال فهل هؤلاء يعقلون؟ هذا عمر قتل... وهذا عثمان قتل، وهذا علي قتل، وهذا طلحة قتل وهذا الزبير قتل، فهل هؤلاء لم يكملوا والقاعدون عن الجهاد هم الكُمّل؟ أهذه تربية للقلوب أم إفساد لها؟ نعوذ بالله أن نضل أو نضل، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد "لو لا تمرغ قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع" ويقول: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله" رواه مالك وقال تعالى عن أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم والذين مر ذكرهم معنا في هذه الفقرة {سمّاعون للكذب أكالون للسحت} أي للحرام والرشا... هذه النصوص وأمثالها تدلنا على كثرة الشروط السلبية والايجابية لصلاح القلب من بعد عن اللقمة الحرام وبعد عن الكلمة الزائدة وغير ذلك وكثيرون من الذين يشتغلون في تربية الناس لا يفطنون لمثل هذا.

ثالثاً: لا يصل القلب إلى أن يكون مؤمناً خالص الإيمان فيه مثل السراج يزهر، إلا إذا وصل إلى معرفة الله معرفة ذوقية قلبية صافية والإنسان بقدر معرفته بالله، يزداد خضوعاً لأحكامه وتطبيقاً لها والتزاماً بها وأخذاً بقوة لها مهما ترتب على ذلك من خرق عادات أو ضغط مجتمع أو انحراف سلطة. فالتلقي الكامل عن الله والعمل بشريعته وأخذ كتابه بقوةذلك مقتضى صلاح القلب، قال تعالى {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 11] {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55] وقال الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً} [الجاثية: 18] هذا كله يشير إلى أن الوصول إلى القلب العارف هو مقدمة التلقي الكامل عن الله عز وجل ومن هنا نفهم خطأ الذين يتصورون أن السير إلى معرفة الله لا يتطلب أخذ الأحكام ثم يتصورون أنه إذا وصل الإنسان إلى المعرفة فلا عليه لو فرط في الأحكام. وهذا هو محل الخطأ الكبير عند الكثير من الناس هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر خلق الله معرفة لله وأكثرهم جهاداً في سبيله وأكثرهم التزاماً بأحكام شريعته فأين هذا النَفَس الآن عند الذين يشتغلون في قضايا القلوب "لا بد من وضع الأمور في مواضعها في هذه الشؤون كلها" مما ذكره صاحب الرسالة القشيرية عن اثنين من كبار الصوفية كانا في قتال أهل الكفر فالتفت أحدهما إلى الآخر يقول أتحس الآن بمتعة كتلك التي تمتعت بها ليلة عرسك؟ ثم قال: أما أنا فكذلك، فأنظر بالله عليك وحال هذا الصنف من الصوفية الذين يجددون في القلب تذكر حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان أحدهم يرى أحلى أيامه يوم جهاد كما قال خالد رضي الله عنه: ما ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب في يوم شديد زمهريره أحب إلي من أن أكون على رأس كتيبة من المهاجرين أصبح قوماً أو أمسيهم" وقارن بين هذا الحال وحال الذين ألفوا الدعة والمتعة في أشد عصر وأصعبه يمر على الإسلام والمسلمين، وباختصار نقول: إن السير القلبي يعني الوصول إلى الإيمان الخالص ومعرفة الله الكاملة. وأن لذلك طريقه السلبي والايجابي وأن ذلك كله هو مقدمة الأخذ الكامل القوي لشريعة الله عز وجل وإقامة أحكامه وجعل كلمة الله هي العليا.

وفيما بين البداية والنهاية يوجد قصور وتقصير وأغلاط وإهمال، ونسأل الله أن يلهمنا الحق وأن يجعلنا من العاملين.