تعتبر الدعابة من أهم الوسائل المساعدة على التنفيس والانبساط وإشاعة روح المرح والسرور والسعادة، ويتمُّ ذلك من خلال إلقاء فكاهة أو إبداء مزاح أو إدخال السرور على النفس، ويسهم كل ذلك في إنعاش الروح والتخفيف من المتاعب والمشكلات واسترداد النشاط وإزالة الانقباض والكآبة.

والدعابة أمر مشروع ومستحب؛ حيث تذكر وقائع السيرة النبوية العطرة أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يمزح ويضحك ويداعب بالقول والفعل والإقرار أيضًا، وكان يفعل هذا مع أهله وأصحابه، مع الصغير والكبير والرجل والمرأة، كل حسب أحواله وظروفه.

ويبدو أن ذلك أثار استغراب بعض الصحابة الذين ربما تساءلوا عن مشروعية المزاح والدعابة فقال أحدهم مستفسرًا: "يا رسول الله إنك تداعبنا، فقال: "إني أمزح ولا أقول إلا حقًا" أخرجه الترمذي، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يبادلونه عليه الصلاة والسلام تلك الدعابات من حينٍ لآخر، مما كان عاملاً قويًا في إشاعة جوٍّ من المرح والسرور والسعادة في المجتمع النبوي الأول.

ويعتبر المجال الأسرى واحدًا من المجالات الاجتماعية التي يُستحب أن تكون الدعابة مشاعة بين أفراد الأسرة ومنتشرة بينهم، إذ من المعلوم أن الجو العائلي كثيرًا ما تحتدم فيه الخلافات سواء بين الأزواج، أو بين هؤلاء وأبنائهم، ولذلك فإن نشر الدعابة يسهم في تنشيط الأعصاب وتهدئة الأجواء وإزاحة الانقباض والتوتر النفسي.

وقد علَّمنا صلى الله عليه وسلم كيف نداعب الأطفال، وإبداء الفرح والمرح معهم، وإظهار روح المزاح والمضاحكة في أثناء مداعبتهم، ومن جملة ما يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ما رواه البيهقي عن أنس بن مالك- رضى الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل على بيت أبي طلحة، فرأى ابنًا صغيرًا له يُكنى أبا عمير حزينًا، فقال: "ما لي أرى أبا عُمير حزينًا؟ قالوا: مات نغره (أي عصفوره الصغير)، فجعل رسول الله يمازح الصغير ويقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟"، وبذلك دفع الحزن والكآبة عن الصغير بالمزاح والدعابة وتطييب خاطره.

وروى الطبراني في معجمه عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- قال: "دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي على أربعٍ (يديه وركبتيه)، وعلى ظهره الحسن والحسين وهو يقول لهما: "نعمَ الجملُ جملكما ونعمَ العِدلان (أي الحملان) أنتما".

وإذا كانت الدعابة مع الأطفال أمرًا مشروعًا ومطلوبًا فإن مداعبة الأهل والنساء تعتبر أولى وأكثر إلحاحًا؛ لأن ذلك يحافظ على سعادة الزوجين ويغمر الجو الأسرى بمظاهر السعادة والبهجة والسرور، مما ينعكس إيجابًا على الأبناء أيضًا، فالأبناء عندما ينشأون وسط جو أسري تغمره السعادة وتطاله الدعابة والمزاح والمضاحكة من حينٍ لآخر، تنشرح نفوسهم ويكونون أدعى للنشاط والجد والمثابرة، وفي الحديث النبوي الشريف: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وفي سنن الترمذي "إن من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله".

ومن نماذج مداعبة النبي- صلى الله عليه وسلم- لأهله مسابقته لزوجته عائشة- رضي الله عنها- فقد روى الإمام أحمد في مسنده أن عائشة- رضي الله عنها- قالت: إنها كانت مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في سفرٍ وهي صغيرة، فقال لأصحابه: "تقدموا"، ثم قال لها: "تعالي أسابقك"، فسبقته، ثم تستطرد- رضي الله عنها-: فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: "هذه بتلك".

وبالرغم من أن صحابة النبي- عليه الصلاة والسلام- كانوا لا يستطيعون إطالة النظر في وجهه؛ هيبةً له ووقارًا إلا أن ذلك لم يمنعهم من مداعبته وممازحته، فهذه سودة بنت زمعة زوج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد عُرف عنها كثرةُ مزاحها مع رسول الله، حتى أنه يروى أنها قالت له يومًا: صليت البارحة خلفك يا رسول الله، فركعت فأمسكتُ بأنفي مخافةَ الدم أن يقطر (تُلمِّح إلى أنه أطال في الركوع)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا نجد في الدعابة النبوية أُسوةً حسنةً لنا في حياتنا الزوجية والأسرية، فهي تروِّح عن النفوس، وتطيِّب الخواطر والقلوب، وتحقق السعادة والألفة والمحبة والود بين الأزواج من جهة، وبينهم وبين أبنائهم من جهة أخرى، وصدق الله العظيم حين قال "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" (الأحزاب: 21).

.........

من تراث العالم الجليل