الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد.

فهذا هو المقال الثاني حول صحابة النبي- صلى الله عليه وسلم- ومكانتهم عند الله وعند الناس وفي الدنيا وفي الآخرة، وهم بحق مكانتهم هناك فوق السحاب بين الشموس والنجوم والأقمار، هم رضي الله عنهم وأرضاهم الجيل الفريد المبارك العظيم، جيلٌ لا مثيلَ له في التاريخ، أخرج الشيخان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال فيهم "خيركم قرني" هذا الجيل الفريد العظيم استحق استحقاقًا كاملًا لقول الله عز وجل ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..﴾ (آل عمران: من الآية 110).

ونحن في أشدِّ الحاجةِ إلى التعرف الحقيقي على هذا الجيل في أسلوبه واتباعه، وعن أخذه بهذا الحق وعن عمله به، وعن جدَّه وإخلاصه وإيمانه به، وأول ما يجب علينا أن نؤمن به المنهج الرباني الذي شرب منه وارتوى هذا الجيل ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)﴾ (مريم).

فالمنهج الرباني هو الذي يقيم الحياة البشرية بل ويصلحها ويضعها على الطريق المستقيم، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)﴾ (الأعراف)، إنَّ هذا المنهج هو الذي يصلح الحياة البشرية ويُرقِّيها وينمِّيها ويدفع بها إلى الكمال البشري، ومن أجل ذلك كان هذا المنهج الفريد هو الذي استقى منه الصحابة وعاشوا به وله، وهو الذي أعدهم لتحمل الصعاب والمشقات والجهاد والمجاهدة لله وفي الله، هو الذي أهلهم للصبر والصدق والإخلاص في القول والعمل، هو الذي رفع شأنهم وأعلى مكانتهم وجعلهم سادة، وصدق الله العظيم: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) ونُمكِّنَ لَهُمْ فِيْ الأرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ (القصص).

بهذا المنهج الرباني عمَّروا الدنيا ورفعوا شأنها وأنشأوا الحضارات الراقية التي تقوم على احترام الإنسان كإنسانٍ بصرف النظر عن أي اعتبارٍ آخر، وطبقوا قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾ (الإسراء)، وصدق الله العظيم: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)﴾ (الحج).

فقد آمن الصحابة- رضوان الله عليهم- إيمانًا وصل إلى درجة اليقين الذي تزول عنده الجبال الشوامخ ولا يزول، فإن الإيمان بالله وحده لا شريك له هو الذي يُعمِّر القلب البشري ويبعث فيه الخشية والتقوى التي تؤهله لطاعة الله فيما يأمره به وينهاه عنه، والإيمان بأن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف، وأن هناك بعثًا ونشورًا وحسابًا وجزاءً ونعيمًا وعذابًا هو الذي يُغيِّر موازين الحياة كلها، يقول- صلى الله عليه وسلم- لأحد هؤلاء الرجال كما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي رجلًا يقال له حارثة في بعض سكك المدينة فقال: "كيف أصبحت يا حارثة؟" قال: "أصبحت مؤمنًا حقًّا" قال: "إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟" قال: "عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، وأسهرتُ ليلي، وكأني بعرش ربي بارزًا، وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت فالزم. مؤمنٌ نوَّر الله قلبه" (رواه البزار).

نماذج عملية من الواقع
نسوق هذه النماذج العملية التي لا تحتاج إلى بيانٍ أو تعليق؛ لأنها غايةٌ في الالتزام والخروج من حظ النفس.

1- أخرج أبو داود وابن عبد البر عن ابن مسعود- رضي الله عنه-: أنه جاء يوم الجمعة والنبي يخطب فسمعه يقول: "اجلسوا" فجلس بباب المسجد أي حيث سمع النبي يقول ذلك، فرآه النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: "تعال يا عبد الله بن مسعود".

2- كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بالمسجد وقال "أيها الناس"، وكانت أم سلمة في شأنٍ من شئونها، فلمَّا سمعت النداء تركت ما في يدها وأسرعت إلى الصوت فتعجَّب بعض الصحابة من إسراعها وقال لها: إنه يقول أيها الناس يعنى ينادي الرجال، فقالت رضي الله عنها إنه صلى الله عليه وسلم يقول "أيها الناس، وأنا من الناس فلا بد أن ألبي النداء.. رضي الله عنها وأرضاها.

3- ولقد بلغ من امتثالهم واقتدائهم به أن كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك دون أن يعلموا لذلك سببًا أو يسألوه عن علته وحكمته، وتلك درجة عالية من الجندية لم نعلم لها مثيلًا. أخرج البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: اتخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من ذهب (قبل أن يُحرَّم) فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ثم نبذه النبي وقال: "إني لن ألبسه أبدًا" فنبذ الناس خواتيمهم.

4- وروى القاضي عياض في كتابه الشفاء عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُصلي بأصحابه، إذ خلع نعليْه فوضعهما عن يساره فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم فلما قضى صلاته قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم"؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك، فقال: "إن جبريل أخبرني أن فيها قذرًا".

5- مثل فريد في التنفيذ لأمر الله وفي الطاعة الكاملة عند تحويل القبلة.. ذكر ابن سعد في الطبقات أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ثم أُمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون".. وهكذا كان الصحابة الأبرار مع الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته يعتبرون قوله وفعله وتقريره حكمًا شرعيًّا لا يختلف في ذلك واحد منهم، ولا يجيز أحدهم لنفسه أن يخالف أمر القرآن، وما كان الصحابة يراجعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرٍ إلا إذا كان فعله أو قاله اجتهادًا منه في أمرٍ دنيوي.

6- انظر إلى الهمة العالية والعزيمة الصادقة، يقول أحد الصحابة فيما أخرج البخاري في الأدب المفرد وأحمد والطبراني والبيهقي، واللفظ له، عن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه. فابتعت بعيرًا فشددتُ عليه رحلي ثم سرت إليه شهرًا حتى قدمت الشام فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري. فأتيته فقلت له: حديثٌ بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه، خشيتُ أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه. فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس غُرْلًا بُهْمًا، قلنا وما بُهْمْ؟ (أي ما معنى هذه الكلمة) قال: ليس معهم شيء. فيناديهم نداء يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب: - أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحدٌ من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصها منه، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى أقصها منه حتى اللطمة. قلنا: كيف؟ وإنما نأتي الله عراةً غرْلًا بهمًا؟ قال: بالحسنات والسيئات".

وها هو صحابي آخر يرحل من المدينة إلى مصر في وسائل كانت وما زالت صعبة وشاقة، ومع ذلك فعزيمتهم أقوى من كل المشقات، فالدابة هي الجمل، ومع ذلك انطلق هذا الصحابي الجليل من المدينة إلى مصر ليتأكد من رواية حديث.

أخرج البيهقي وابن عبد البر عن عطاء بن أبي رباح أن أبا أيوب الأنصاري رحل إلى عقبة بن عامر يسأله عن حديثٍ سمعه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يبق أحد سمعه منه غيره. فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري- وهو أمير مصر- فخرج إليه فعانقه ثم قال له "ما جاء بك يا أبا أيوب"؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن. فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن ستر مؤمنًا في الدنيا على كربته ستره الله يوم القيامة"، ثم "انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعًا إلى المدينة. فما أدركته جائزة مسلمة إلا بعريش مصر.

إنه الجهاد في جميع ميادين الحياة لصبغها بصبغة الإسلام ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138)﴾ (البقرة)، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت)؛ ولذلك اعتبرهم المصطفى صلى الله عليه وسلم قدوةً لنا ولجميع الأجيال من قبلنا ومن بعدنا إلى يوم القيامة.

أخرج ابن عبد البر عن عرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقيل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه مَن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة".
(أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وأبو داوود بإسناد جيد).

هذه باقة ورد وزهر وروح وريحان تملأ الأفق وتزين تاريخ البشرية وترفع من قيمة الإنسان وتشرف البشرية، فأين نحن من هؤلاء الأبرار؟ أين نحن من جهادهم وتضحياتهم وصدقهم؟ أين نحن من الرصيد المذخور الذي تركوه لنا؟ فهل نُقبل من جديدٍ على هذا النبع الصافي، وعلى الرحيق المختوم، وعلى الوفاء والصدق؟.. نرجو ذلك إن شاء الله.. ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
------
مقال من تراث عضو مكتب الإرشاد الشيخ محمد عبد الله الخطيب بتاريخ 30 مايو 2009