قصة ذي القرنين شعارها الواضح ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ وتدل على وجوب الأخذ بالأسباب وبيان أن ذلك ضروري للنهوض الحضاري للأمم، وقد قدم القرآن الكريم "ذا القرنين" أنموذجًا متجسدًا لربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائج واعتبر ذلك مقدمة لابد منها للنهوض والإنجاز الحضاري أضف إلى ذلك التوازن المدهش والخلاب في شخصية ذي القرنين سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقًا لتأييد الله وعونه.

﴿وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ وآتى الله لأجل ذلك ذي القرنين من كل شيء سببًا، آتاه الأسباب في كل جانب ومجال مطلوب. ومعنى الأسباب هي السبل إلى المعارف والقدرات والإمكانات والطاقات والتجهيزات الفعالة المؤثرة النافذة المعدة للوصول إلى هدف معلوم وغاية مقصودة.﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ فأتبع ذو القرنين وجود وتمام هذه القدرات والتجهيزات بالعمل الدعوي المخطط له فورًا ودون إبطاء. وكان عليه، بعد أن مكنه الله في وسط والأرض فأصلحها، ووجب عليه أن يتوجه إلى الأطراف، وأطراف أي دولة هي الأكثر تفلتًا وشططًا.

دعائم روحية وركائز تربوية في النهوض الحضاري

 سياسة العدل والإصلاح
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب والأُمم، ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا *﴾(الكهف: 87 88). إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة، وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين، وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم، فالمؤمن المستقيم يجد الكرامةَ والود والقربَ من الحاكم، ويكون بطانتَه وموضعَ عطفه وثقته، ورعاية مصالحه، وتيسير أموره، أما المعتدي المتجاوز للحد، المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض، فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة، ثم يرد إلى ربه يوم القيامة، ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى. ونظرا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها، وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكن بحاجة لإعلان مبادئه وسياسته في شرق الأرض، لأنها منهج حياة، ودستور دولة مترامية الأطراف، وسياسة أمم، فهو ملتزم بها أينما حل وارتحل.

عمران الأرض وتفجير الطاقات
رحلة ذي القرنين مع أصحاب السد تختلف عن سابقتها من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر، ومن حيث الأعمال التي قام بها، فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لنشر العدل ولكبح جماح الأشرار والمفسدين، بل قام بعمل عمراني هائل، أفاد البشرية جمعاء على مر العصور ولا تزال آثاره حتى الآن، وإلى أن يشاء الله أما الأرض فوعرة المسالك، وأما السكان ﴿وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا﴾ (الكهف: 93) فكأن وعورة لأرض قد أثرت في طبائعهم، وطريقة تخاطبهم مع غيرهم.ففي التفاهم والمخاطبة لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه، ولا أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه.
ونلاحظ من خلال السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات منها:
- قوم متخلفون ﴿لا يكادون يفقهون قولا﴾ إما أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى، لأنهم لم يطلعوا عليها، ولم يتعلموها، فهم منغلقون على لغتهم فقط. وإما أن الكلام لا ينفع معهم، لأنهم لا يفقهون، ولا يتفاعلون معه، ولا يتفاهمون مع قائله،لا يفعلون هذا لجفاء وغلظةٍ عندهم،أو لغفلة وسذاجة في طبيعتهم.
- هم قوم ضعفاء، ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج ومأجوج والوقوف في وجههم، ومنع إفسادهم. هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم، ومقاومة المعتدين، ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية، قوة ذي القرنين، حيث طلبوا منه حل مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.
- هم قوم اتكاليون كسالى، لا يريدون أن يبذلوا جهدًا، ولا أن يقوموا بعمل، ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين، وأوكلوا إليه حلها، أما هم فمستعدون لدفع المال له.

العمل الجماعي
لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة، فكان يدير العملَ بروحِ الجماعة، ويشترك بنفسه مع إشراك غيره، ويدل على ذلك ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشيرُ إلى روح الحماسة والحيوية والتعاون المشترك، قال تعالى: ﴿قَالَ مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا *آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا *﴾)الكهف: 95 96 (.لقد كان ذو القرنين حريصًا على مصلحة الناس، ناصحًا لهم فيما يعود عليهم بالنفع، ولهذا طلب منهم المعونةَ الجسديةَ، لما في ذلك من تنشيط لهم، ورفع لمعنوياتهم، ومن نصحه وإخلاصه لهم، أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون، فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سدًا، أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردمًا، والردم هو الحاجز الحصين، والحجاب المتين، وهو أكبر من السد وأوثق فوعدهم بأكثر ما يرجون.

العفة وتفجير الطاقات
لقد عفّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين، وشرع في تعليمهم النشاط والعمل، والكسب، والسعي، فقال لهم: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا *﴾(الكهف: 95) إنّ في هذه العبارة القرآنية معلَما بارزًا في تضافر الجهود، وتوحيد الطاقات، والقدرات والقوى.إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيعُ أن تفجر طاقات المجتمع وتوجيهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة. إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم والقوى المادية، ويأتي دور القيادة الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها. وإنّ أمتنا الإسلامية ملئ بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة والأموال المهدرة والأوقات المتبددة والشباب الحيارى وهي تنتظر من قيادتها في كافة الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع التنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف.

امتلاك أسباب القوة
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم، وإنما توريثهم أسبابَ القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين، لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم، ثم يهاجم ويهزمهم، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظالم، ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
ولم يأت ذو القرنين بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك، وإنما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم، ويتعلموا فنونَ الحماية، ويكسبوا خبرات، ويتدربوا على العمل الجاد المثمر، فيبنون السد بأيديهم، وهذا أدعى للحفاظ عليه،وإصلاحِهِ إنْ أصابه شيءٌ. إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلاء المستضعفون عاطلين، وهذا يلفتنا إلى أن عطاء الله سبحانه وتعالى عطاء إمكانات، وعطاء ذاتي في النفس.. عطاء الإمكانات هو ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل، والعطاء الذاتي في النفس هو القوة الذاتية داخلك، التي تعطيك طاقة العمل، وكثير منا لا يلتفت إلى عطاء النفس.. لا يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالًا كثيرة، وأنه لا يستخدمها، وأن لديه قوة تحمل بإمكانه أن ينتقل من مكانٍ إلى اخر.. وأن يعمل أعمالًا كثيرة.

إن ذا القرنين لم يستعن بجيشه ولا بأناس اخرين، إنما استعان بهؤلاء الضعفاء وطلب منهم أن يأتوه بالحديد، ثم بناء السد، بحيث وصل به إلى قمة الجبلين، ثم قام بصهر الحديد، وأفرغ عليه النحاس، ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج، بأنْ علمهم كيف يعينون أنفسهم، وكيف يبنون السد، وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء، وهم الذين يقيمونه، وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط، ليأخذوا الثقة بأنفسهم بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم، وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم، والإسلام ينهانـا أن نعود الناس على الكسل، أو نعطيهم أجرًا بلا عمل،لأن ذلك هو الذي يفسد المجتمع، فالإنسـاـن متى تقـاضى أجرًا بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبـدًا.

إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكَن له في الأرض، فقوى المستضعفين، وجعلهم قادرين على حماية أنفسهم من العدوان فلا يعتمدون على حماية أحد، ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين، بل نقلهم إلى ساحة العاملين فعندما تحرك القوم المستضعفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين وصلوا إلى هدفهم المنشود وغايتهم المطلوبة.

التواضع والشكر
ونقف مع ذي القرنين بعد أن أتمَّ بناء السد:نظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم، ولكنه ذكر الله فشكره، ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه. ذكر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله يعلمنا كيف يكون ذكر الله سبحانه، فإن من أعظم صور الذكر، هي أن يذكر العبد ربه عند توفيقه في عملٍ، فيستشعر أن هذا بأمر ربه، فيتواضع ويعدل، ويذكر، ويشكر كان بناء السدِّ رحمة من الله تعالى، وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه الله إياه، وتمكينه الذي مكنه الله له، استخدمه في مساعدةِ الناس، وتقديم الخير لهم، ومنع العدوان عنهم، فكان علمُه رحمة من ربه، وكان استخدامه له رحمة من ربه. كان القوم مهددين بيأجوج ومأجوج، معرضين لإفسادهم، ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد، فكان السدُ رحمة من الله لهم، وكان خلاصًا لهم وإنقاذًا بإذن الله، فلو لم يتمَ عمل ولا جهد ولا حركة، لما انقذوا أنفسهم من الخطر، لأن الإنقاذ لا يتم إلا بالعمل والجهد المتواصل وتكاتف الجهود والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *﴾ )الكهف 98(.

الأسباب التي اتخذها ذو القرنين للتمكين لدين الله عز وجل

أ - الدستور العادل:
إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته ولذلك ساق الناس والأمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل، فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش، وإنما عملهم بهذا المنهج الرباني، قال تعالى: ﴿قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ (الكهف: 87 : 88). وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه، وعلى فطنته وذكائه، وعلى عدله ورحمته، لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم، ليسوا على مستوى واحد، ولا على صفات واحدة، ولذلك لا يجوز أن يعاملوا جميعًا معاملة واحدة، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم الصالح، ومنهم الطالح، فهل يستوون في المعاملة؟ ذو القرنين: أما الظالم الكافر وسوف نعذبه لظلمه وكفره، وهذا التعذيب عقوبة له، فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا، ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.

ب - المنهج التربوي للشعوب:
إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع وكلف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا. إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجًا أساسيًا، وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى. إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعات هدية للمحسن ليزداد في إحسانه وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده، حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حد وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان.

 ج - الاهتمام بالعلوم المادية والمعنوية وتوظيفها في الخير:
قال تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ إنه شخص مكن له رب السماوات والأرض الخالق المدبر المتصرف في شؤون الكون، رب العزة والجبروت مكن له في الأرض وآتاه من كل شيء سببًا، وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض. مكن له في العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا. ومكن له في سياسة النفوس أفرادًا وجماعات تهذيبًا وتربية وانتظامًا. ومكن له في أسباب القوة من الاسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر.ومكن له في أسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة. ومهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين الحسنة التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾، ويبقى للتصور مجال وللخيال سعة لاستشفاف صورة هذا التمكن وأشكاله، وذلك من خلال المؤكدات العدة التي وردت في الآية الكريمة. لقد كان ذو القرنين على علم باخبار الغيب التي جاءت بها الشرائع، ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكئة لتبرير القعود والهوان، فقد بنى السد وبذل فيه الجهد، مع علمه بأن له أجلًا سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله.

 د - فقه إحياء الشعوب:
بالسعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة والحرص على مصلحة الناس، والنصح والعمل لهم فيما يعود عليهم بالنفع تنشيطا لهم ورفع لمعنوياتهم وبذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون والعفة عن أموالهم وخاصة المستضعفين، والشروع في تعليمهم النشاط والعمل والكسب والسعي والتعاون في محاربة الجهل والكسل والتخلف والتنسيق في استثمار المواهب الضائعة والطاقات المعطلة، والأموال المهدرة، والأوقات المبددة ، والشباب الحيارى.

 هـ - وجوب الأخذ بالأسباب
إن قصة ذي القرنين تدل على وجوب الأخذ بالأسباب وبيان أن ذلك ضروري للنهوض الحضاري للأمم، وقد قدم القرآن الكريم "ذا القرنين" أنموذجًا متجسدًا لربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائج واعتبر ذلك مقدمة لابد منها للنهوض والإنجاز الحضاري وبذلك لم يكتف القرآن بتأكيد موضوع السنن. والأسباب نظريًا، لقد مكن الله له في الأرض فأعطاه سلطانًا وطيد الدعائم ويسّر له أسباب الحكم والفتح وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع، وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا فيه في هذه الحياة ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ وتبين القدرة الفائقة لذي القرنين وما كان عليه من قوة وتمكين، ولكن بواسطة ما سنة الله من أسباب في هذا الكون، ووسائل تؤدي إلى غاياتها المراد منها، لتمثل بذلك أنموذجًا لكل مسلم يريد أن يسلك في هذه الحياة على هدي من الفهم لسنن الله في الخلق، وليتقين كل أحد أن التمكين في الأرض والسعادة في الآخرة، إنما يتحصل بأسباب ووسائط سواء المادي منها والمعنوي، من ما تحقق به ذو القرنين.

أخلاقيات أساسية في القيادة (ذي القرنين)
إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخلاق رفيعة ساعدته على تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة ومن أهم هذه الأخلاق:

كان جلدًا صابرًا على مشاق الرحلات، فمثلا تلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين، فالأعمال التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة، وإلى عقلية يقظة، وذكاء وقاد، وصبر عظيم وآلات ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك.
كانت له مهابة ونجابة يستشعرها من يراه لأول مرة، ولكنها ليست مهابة الملوك الظلمة الجبارين فعندما بلغ بين السدين ووجد القوم المستضعفين، استأنسوا به، ووجدوا فيه مخلصًا من الظلم والقهر الواقع عليهم فبادروه بسؤال المعونة فمن الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسدًا مثل المفسدين أو الظالمين، ومعه من القوة والعدة ما ليس لمثلهم.
كان قوي القلب جسورًا غير هياب من التبعات الضخمة والمسؤوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله سبحانه، فإن ما طلب من إقامة السد كان عملًا عظيمًا في ذاته، حيث أن القوم المفسدين كان من الممكن أن يوجهوا إفسادهم إليه وإلى جنوده ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ولا مدبر.
التوازن في شخصيته: فلم تؤثر شجاعته على حكمته، ولم ينقص حزمه من رحمته، ولا حسمه من رفقه وعدالته، ولم تكن الدنيا كلها -وقد سخرت له- كافية لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
كثير الشكر والتواضع : لأنه كان صاحب قلب حي موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين، بل نسب الفضل إلى ربه سبحانه وقال: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي﴾ (الكهف: 98).
كان مترفعًا عن مال لا يحتاجه ومتاع لا ينفعه، فإن القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين، عرضوا عليه الخراج، فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه.

ختاما
إن التوازن المدهش والخلاب في شخصية ذي القرنين سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقًا لتأييد الله وعونه، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة ، وهو تفضل من الله تعالى على عبده الصالح، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار.
وكذلك أكرمه الله بكثرة الأعوان والجنود وقذف الرعب في قلوب الأعداء وتسهيل السير عليه، وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها ، وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من الأرض، فكل هذه الأمور لا تعطي لشخص عادي، ولا يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ، إلا أن يكون مؤيدًا من الله، ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين.

لقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سببًا، وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض، وأسبابه من العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا، وفي سياسة النفوس أفرادًا وجماعات تهذيبًا وتربية وانتظامًا، وأعطاه من أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر، وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة، وقيل: مهما تصور من أسباب التمكين التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض. يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ (الكهف: 84).

لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى واستعداده لليوم الآخر، ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية. لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب، وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في كافة الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة في الارض شرقًا وغربًا، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معاديًا لأهل الكفران.