من المخاطر التربوية سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات التي قد تنتج عن الدعوة والتغيير السلمي وطول الطريق في التعامل مع أذى الظالمين والمتجبرين ذاك الخطر المهلك والمرض القاتل وهو هو أشد فتكا بالفرد والجماعة والمجتمع ألا وهو مرض اليأس، وسنرى في هذي الكلمات البسيطة كيف أن رسول الله استطاع بالتربية السليمة أن يواجه تلك المخاطر ويتجنّبها، بل يحولها إلى إيجابيات، وكيف أن هذه التربية الفاضلة والمتابعة الدقيقة للأحداث فور وقوعها، خرجت الجماعة المؤمنة من أزمتها بسلام، وثبت أمثال خبَّاب رضي الله عنه، وثبت المسلمون، ومرت الأيام الصعبة، وصارت ذكريات، وبقي الإيمان؛ بل اشتد وقوي، وهو درس من أعظم الدروس النبوية؛ حيث نقل المسلمين في كلمات قلائل من مستضعفين معذبين مضطهدين إلى ملوك للدنيا، ينتظرون اللحظة التي يتسلمون فيها مقاليد حُكْم العالمين!

نتيجة الضغوط العنيفة التي يعاني منها بعض الصحابة، وفي بعض لحظات ارتفاع حدة الابتلاء، نجد أن اليأس قد يتسرب إلى بعض النفوس بالفعل، ويمكن ملاحظة أن لغة حوارهم صارت تحمل لونا غير مقبول من ألوان فقدان الأمل؛ وهنا كان لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وقفة حاسمة تعالج الموضوع بدقة، وتمنع في الوقت نفسه تفشي مرض اليأس في نفوس الآخرين، فاليأس -فيما أعتقد- من الأمراض المعدية! التي يمكن أن تنتقل بسهولة من إنسانٍ إلى آخر، وما لم يلتفت المربي والداعية بسرعة إلى ذلك فإن آثاره يمكن أن تكون وخيمة.

يقول سيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قفُلْت لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ، فَقَالَ.: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"

ولعل هذه الآثار الكبيرة لمرض اليأس هي التي دفعت رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى القيام برد فعل قد يستغربه بعضنا؛ وذلك في موقف من مواقف هذه المرحلة الصعبة، وهو موقفه من خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه عندما جاءه يطلب منه الدعاء بتحقيق النصر؛ فقد كان طلب خباب رضي الله عنه شرعيا لا حرج فيه؛ لكن يبدو أن نبرة كلامه، وطريقة تعبيره، جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهم من الموقف أمورا لم يصرح بها خبَّاب رضي الله عنه، وهذا دفعه إلى التفاعل مع الموقف بهذه الصورة، ولنراجع الموقف كما ذكره خبَّاب رضي الله عنه، ثم نذكر تعليقنا عليه.

ووجه الاستغراب في رد فعله صلى الله عليه وسلم أنه غضب! وقد تبين لنا غضبه من عدَّة أمور؛ منها: تغيير جلسته صلى الله عليه وسلم، واحمرار وجهه، وضربه بالمثل لأناس مروا في ظروف أشد من التي يمر بها الصحابة رضي الله عنهم، وتصريحه بأن الصحابة تستعجل!

إننا أمام وقفة تربوية مهمَّة.. إن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع إلى أنه اشتم رائحة اليأس في كلام خبَّاب رضي الله عنه، وشعر بأنه يستبطئ النصر، وأنه لا يكاد يرى النور الذي وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي بعد الظلمة، وكل هذه أدواء خطيرة للغاية، فالأمر إذن يحتاج إلى وقفة حاسمة.

إننا لا نختار وقت النصر، ولا نفرض على الله عز وجل وقتا معيا يرفع فيه البلاء عنا، ولا نحدد بأي طريقة يمكن لنا أن نعبد الله عز وجل؛ بل الأصل أنه هو سبحانه الذي يحدد لنا كيف نعبده، وقد علمنا كيف نعبده في الضراء بالصبر، وكيف نعبده في السراء بالشكر، وهو سبحانه وتعالى لا يعجل بعجلة عباده، إنما يفعل ما يراه خيرا لهم، وهو لا يسأل عما يفعل، بينما البشر يسألون.

هذه معان عميقة يحتاج كل مسلم إلى أن يستوعبها بشكل مباشر واضح، دون محاولات للتجمل أو التخفيف، فإن العلاقة بيننا وبين الله عز وجل واضحة جدًّا، فهو الرب ونحن العبيد، وهو المالك ونحن المملوكون، وهو القوي الذي لا يحتاج إلى أحد، ونحن الضعفاء المعتمدون عليه سبحانه في كل دقائق حياتنا.. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون تعاملنا مع اختياره لنا سبحانه وتعالى.

ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الموقف؟ إن غضبه صلى الله عليه وسلم لم يخرجه عن أسلوبه التربوي الراقي؛ إنما أوصل رسالته واضحة إلى خبَّاب وإخوانه رضي الله عنهم في منتهى السلاسة والأدب، وبشكل مفهوم مقنع، وقد تناول في رده من الوسائل التي ترفع من درجة الثبات عند المؤمن إذا تعرض لهذه الظروف القاسية.. ومنها :

أولا: تعظيم قدر الله عز وجل في القلوب، ومعرفة العلاقة السوية بين العبد والرب؛ فهي علاقة طاعة وتسليم دون ضجر أو تأفف، فيقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيتم أمر الإسلام، ويعز الدين، وينشر الأمن في البلاد، ويوسع في أملاك المسلمين حتى تدخل فيه اليمن من شرقها إلى غربها؛ ولكن كل ذلك في الوقت الذي يريده سبحانه وتعالى، دون نظر إلى عجلة عباده أو قلة صبرهم، كما يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤمن في حال التمكين يظل محتفظا بتوقيره وتقديره لله عز وجل؛ فمع انتشار الأمن والأمان، ومع اتساع الملك والسلطان فإن الرجل المسلم يسير ولم يذهب الخوف من الله من قلبه: "لا يَخَافُ إِلَّا اللهَ". فهذه علاقة مستمرة عند أصحاب الإيمان العميق.

ثانيا: زرع الأمل في قلب خبَّاب رضي الله عنه ومن معه من المستضعفين، فيقسم ولا يحتاج إلى قسم صلى الله عليه وسلم- ولكن ليزرع هذا المعنى زرعا في قلوب المظلومين؛ هذا الأمر لابد له من تمام، وهذا الدين لابد له من اكتمال، وهذه الأمة لابد لها من بناء، ونحن لا نتحدث عن انتشار قيم وأخلاق وعقيدة فقط؛ إنما نتحدث عن ملك وحكم وسيادة؛ فهذه المساحات الشاسعة من الصحراء بين حضرموت وصنعاء ستكون "محكومة" بالإسلام، وسيسير فيها المسافرون آمنين، فلا قَطْع للطريق، ولا اعتداء على الحرمات، ولا تخويف، ولا ترهيب.

ثالثا: التعلم من دروس التاريخ علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبَّابًا رضي الله عنه ومن معه من المؤمنين دروس التاريخ، واختار موقفا مشابها لحالتهم، ووضح لهم مدى صبر المؤمنين سابقا، وكانوا من البشر مثلنا، فإذا تحملوا هذه الآلام فنحن نقدر على هذا التحمل، وإذا ثبتوا في مثل هذه المواقف فلن نعذر نحن إذا تنازلنا، وإذا انتظروا الفرج حتى أتى الله به في الوقت الذي يريد، فلن يقبل منا أن نستعجل! إنها التجربة التاريخية المشابهة، التي تجعل الأمر الصعب شيئا مقبولا مستساغا يمكن تطبيقه، وهذه عظمة دروس التاريخ.

رابعا: نصيحة مجرب وعالم كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من فم رجلٍ جرب كل هذه الأزمات التي يحكي عنها خبَّاب رضي الله عنه، وعاش مع صحابته هذه الظروف الصعبة، وتعرض معهم للإيذاء المعنوي والجسدي، وعانى هو وأهله من معاناة الجنود نفسها، فكان الكلام مقنعا جدا، ووقعت الكلمات في قلب خبَّاب رضي الله عنه، وآتت أكلها بسرعة؛ لأنها تخرج من قلب صادق إلى قلب صادق، فنعمَ المعلم، ونعم المتعلمين!

ونتيجة هذه التربية الفاضلة والمتابعة الدقيقة للأحداث فور وقوعها، خرجت الجماعة المؤمنة من أزمتها بسلام، وثبت خبَّاب رضي الله عنه، وثبت المسلمون، ومرت الأيام الصعبة، وصارت ذكريات، وبقي الإيمان؛ بل اشتد وقوي، وهو درس من أعظم الدروس النبوية؛ حيث نقل المسلمين في كلمات قلائل من مستضعفين معذبين مضطهدين إلى ملوك للدنيا، ينتظرون اللحظة التي يتسلمون فيها مقاليد حُكْم العالمين!

ومع قوة الدرس النبوي فإن المسلم في هذه الظروف، وتحت هذا الضغط الرهيب، قد يتسلل اليأس إلى قلبه مرة ثانية، مع كامل تقديره لله عز وجل؛ ولكن للنفس طاقة، وللجسد قوة احتمال؛ ولذلك قد يقع المسلم فيما وقع فيه قبل ذلك، فيحتاج إلى تذكير جديد، وتوعية مستمرة، وهذا ما حدث مع خباب رضي الله عنه مرة ثانية! وقبل أن يستغرب أحدنا شكوى خباب رضي الله عنه للمرة الثانية علينا أن نراجع من كونه كان يعَذب بالإلقاء على الفحم الملتهب! فهذا -والله أعلم- أشد أنواع العذاب، وهو العذاب الذي اختاره الله عز وجل للكافرين في الآخرة، وحذر المؤمنين من استعمال هذا النوع من العذاب تحديدا مع الحيوانات والهوام.

عَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَاضِعٌ يَدَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَدْعُو اللهَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَدْ خَشِينَا أَنْ يَرُدُّونَا عَنْ دِينِنَا؟ فَصَرَفَ عَنِّي وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ أَقُولُ لَهُ فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِّي، فَجَلَسَ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا، فَوَاللهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَ المُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ لَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ، اتَّقُوا اللهَ، فَإِنَّ اللهَ فَاتِحٌ لَكُمْ وَصَانِعٌ".

إن هذا لموقف جديد! قد يظنّ بعضهم أنه الموقف السابق ذاته؛ لكونه حدث مع الصحابي نفسه، ولكون المثل المضروب متشابها، وهو موقف جديد والذي نلاحظه في هذا الموقف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يرد ثلاث مرات؛ لأنه رد قبل ذلك، وكان بإعراضه يريد لخبَّاب رضي الله عنه أن يتذكر الرد النبوي بنفسه، ثم لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من الرد، فقال هذه الكلمات القوية، وأمر خبَّابًا رضي الله عنه بالتقوى والصبر، وبشره بالفتح والنصر، ولقد علا تحذيره في هذه المرة حتى لا يستسهل الصحابة هذه الشكوى، فتصبح عادة عندهم، وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفضه، ويخشى من شيوعه بين المؤمنين.