لا يختلف اثنان في أن كل المخلوقات عاقلة وغير عاقلة، متحركة أو ساكنة، لا تستطيع أن تقوم بواجبها المنوط بها بمفردها، وإنما لا بد لها من عون الآخرين.

فالمجموعة الشمسية لا تقوم بواجبها من توفير الضوء، والدفء، والطاقة، إلا إذا توحدت، وتعاونت.

يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى الناس ما يوعدون..." (أخرجه مسلم في صحيحه)، ذلك أن كل نجم يملك من الطاقة ما يساوي طاقة النجم الذي يقابله، كما أنه يتمتع بجاذبيةٍ تساوي جاذبية النجم الذي يقابله، وهذان أعني تساوي الطاقة، والجاذبية، هما اللذان يحدثان التوازن، بين النجمين وهكذا سائر النجوم، فإذا أراد رب العزة إنهاء العالم أسقط نجمًا، فتسقط باقي النجوم في نفس اللحظة، وتكون النهاية.

ولا يعترض أحد أننا نرى شهبًا تسقط، ولا ينهار العالم، والجواب أن الله لا يريد إنهاء العالم الآن، يجعل نجمًا بديلاً مكان النجم الذي يسقط رحمةً منه، وتكرمًا وفضلاً.

ومثل المجموعة الشمسية مجموعة الحيوانات والطيور والزواحف والحشرات، والميكروبات والفيروسات والجراثيم لا تستطيع أن تقوم بواجبها المنوط بها بمفردها، وإنما لا بد من عون الآخرين والإنسان ليس بدعًا من هذه المخلوقات، وإنما هو مثلها لا يستطيع أن يقوم بواجبه المنوط به، وهو العبودية لله عز وجل المتمثلة في عمارة الأرض، وفق منهاج الله، ودعوة النائمين والكسالى والغافلين، للمشاركة في هذه العمارة بالحكمة والموعظة الحسنة، وحماية هذه العمارة من إفساد المفسدين وضلال الضالين، لا يستطيع الإنسان القيام بهذا الواجب وحده إلا إذا أعانته قوى أخرى خارجية، بل إنه لا يستطيع أن يقوم بواجبه نحو الحفاظ على حياته إلا إذا تعاونت كل حواسه وقواه مع بعضها البعض، فاليد تؤدي دورًا، والرجْل تؤدي دورًا، واللسان يؤدي دورًا، وهكذا باقي حواسه وقواه.

وانطلاقًا من هذه المقدمة تأتي مقدمة ثانية، وهي أن الإنسان لا يتحد مع غيره، ولا يعطيه عونه وتأييده كاملاً إلا إذا أحس منه حسن الخلق نحوه، بمعنى أنه لا يؤذيه بأي صورة من صور الإيذاء، بل يتحمل إيذاءه ويصبر عليه، بل يعفو مع المقدرة على الانتقام، بل يُحسن إليه بأي صورةٍ من صور الإحسان المادي أو المعنوي، أو هما معًا، كما قال ربُّ العزة سبحانه: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾ (فصلت)، وإلا إذا أيقن أنه بحاجةٍ إلى إعانة غيره له، وإلا إذا تمَّتْ معرفة هاتين الحقيقتين بين الناس جميعًا بكل الأساليب والوسائل الممكنة.

وتحقيقًا لهذه الشروط الثلاثة حُسن الخلق، واليقين بالحاجة إلى الغير، وشيوع معرفة ذلك بين الناس جميعًا بني الشرع الحنيف الوحدة الإسلامية التي ثمرتها التعاون والتكافل بين المسلمين، فربنا رب العزَّة سبحانه:

1 - يُعرِّفنا بذاته العلية معرفةً حقيقيةً من خلال كتابه وسنة نبيِّه، وأنه المُعين للخلائق جميعًا المؤمن، والكافر، الصالح والطالح، العاقل وغير العاقل، وأن عونه قسمان عون عام، وهذا مبذول لكل الخلائق- لا سيما العقلاء حتى وإن أساءوا- أمر كتبه ربّ العزة على نفسه، فقال: ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119)﴾ (طه) وعون خاص، وهذا لا يُعطي إلا للمؤمنين الصالحين بشرط أن يحافظوا على الفرائض، وأن يواظبوا على النوافل، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)﴾ (البقرة).

وقال في الحديث القدسي"مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه..." (أخرجه البخاري في صحيحه).

وبعبارةٍ ثانية فإنه تعالى لا يعطينا عونه الخاص إلا بدعائه، ومناداته على الدوام، غير أن دعاءه قسمان قسم أدنى وهو الطلب، والسؤال بأن نقول له "اهدنا"، وقسم أعلى وأرقى وهو الثناء والمحمدة، كأننا ونحن نثني على الله نقول له قد أيقنا أنك ترعانا، وتسعى في حوائجنا التي نعلم والتي نجهل، وقد فوَّضناك تفويضًا كاملاً في ذلك، وما علينا إلا الثناء عليك والحمد لك والاعتراف والشكر. وفي الحديث القدسي "مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين..." الحديث.

وقد جمع الله لنا القسمين من الدعاء معًا في سورة الفاتحة التي نكررها في كل ركعةٍ من ركعات الصلاة؛ حيث نذكر الله ونُثني عليه ونطلب منه عونه، وتأييده المباشر بقولنا: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)﴾ (الفاتحة).

2- عرَّفنا بأنفسنا وأننا من تراب، ولولا النفخة الربانية ما كنَّا شيئًا فقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20)﴾ (الروم)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)﴾ (الحج).

والمقصود من ذلك أننا سواء، فلا داعي للإعجاب بالنفس والغرور والتكبر، والاستعلاء، والتجبر، بل لا بدَّ من الوحدة ثم التعاون.

3- عرَّفنا برسالتنا؛ حيث قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ (الذاريات)، وأن هذه الرسالة تستوفي العمر كله ولا تنتهي، كما أن المكلف بها لا يستطيع أداءها وحده بل بمعاونة الآخرين، وخيرٌ له أن يعرف طريق الوحدة والتعاون وأن يعمل على تحقيق ذلك.

4- عرَّفنا بالمنهج، وأنه واحد، حيث الإسلام دين الأنبياء والخلائق جميعًا.. ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾ (آل عمران)، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85)﴾ (آل عمران)، وأن الاختلاف إنما هو في بعض الشرائع تبعًا لحالة كل قومٍ أو كل جماعة، حتى إذا أخذت الشرائع صورتها كاملةً على يد الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- كان هو خاتم النبيين، وتنزَّل عليه قول ربِّ العزة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3)، وما دام المنهج واحدًا فلا بد من الوحدة، والتعاون، والتكافل، ولا داعي للفرقة والتناحر.

5- عرَّفنا بالقدوة التي نقتدي ونتأسى بها، فالأنبياء جميعًا والمرسلون صنعهم الله صناعةً خاصة، واجتباهم، واصطفاهم، فقال: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)﴾ (الأنعام)، وقال: ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ (47)﴾ (ص).

وأمر محمدًا- صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بالأنبياء والرسل السابقين لا سيما إبراهيم، فقال: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)﴾ (الأنعام)، ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (123)﴾ (النحل)، وما دامت القدوة واحدة، فلا بدَّ من الوحدة، والتعاون.

6- عرَّفنا بالكون الذي نعيش فيه، وعلاقته بنا، وعلاقته بربنا، أما علاقته بنا فهو في خدمتنا ما لم نعص الله، فإن عصيناه تمرَّد علينا، وأما علاقته بربنا، فهو الخضوع، والانقياد.. ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)﴾ (الرحمن)، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾ (الإسراء)، والمقصود من وراء هذا التعريف أن نُحسن التعامل مع الله حتى يظل الكون مسخرًا لنا لا يتمرد علينا فيدوم عونه، وتأييده لنا ونتفرغ للوحدة، والتعاون والتكافل فيما بيننا.

7- عرَّفنا بالملائكة وأنهم مع رقيهم الخُلقي، ومكانتهم عند ربهم مسخرون لخدمتنا، وحتى تدوم هذه الخدمة لا بد من دوام الطاعة والاستقامة.

إذ في الحديث: "طهروا هذه الأجساد طهركم الله؛ فإنه ليس عبد يبيت طاهرًا إلا بات معه ملك في شعاره لا ينقلب ساعةً من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك، فإنه بات طاهرًا" (أخرجه الطبراني)،
وفي الحديث: "إن العبد إذا خرج من بيته ناويًا طاعة الله وُكِلَ به ملك معه شعلة من نور يظله بها، ويظل يسدده من حين يخرج حتى يرجع، ما يجد بابًا من أبواب الخير إلا ينهزه نحوه، ولا يجد بابًا من أبواب الشر إلا ويزجيه عنه" الحديث.

8- عرَّفنا بأعدائنا الذين يمكن أن يفسدوا علينا حياتنا بزرع بذور الفرقة والشقاق، وتغذيتها، حتى تنبت وتنمو، وتورق وتثمر، وتكون العاقبة القعود عن أداء واجبنا، وأول هؤلاء الأعداء الدنيا، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)﴾ (فاطر)، والقرين الجني.. ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)﴾ (الزخرف)، وأعوان القرين الجني من شياطين الإنس والجن، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾ (الأنعام)، والهوى قال تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص: من الآية 26)، ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾ (القصص).

9- عرَّفنا بواجبنا نحو بعضنا البعض من الحب والتراحم، والتكافل والتزاور والمساواة، بل الإيثار، والسعي لحل المشكلات إن وقعت بكل الطرق والأساليب الممكنة التي لا تتعارض مع مبادئ الشرع الحنيف، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾ (النساء)، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾ (الحجرات).

وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ مسلم من الشر أن يحقر أخاه المسلم..." الحديث، والمقصود أننا حين نحرص على الالتزام بهذه الواجبات سيكون الحب، وتكون الوحدة، والتعاون والتكافل.

10- عرَّفنا بالعلل والأمراض التي تُصيبنا نفسيًّا من الشبهات، والشهوات، وكيف نتخلص منها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)﴾ (المعارج)، وتبع ذلك بيان العاقبة والمصير في الدنيا والآخرة.

بهذه المبادئ العشرة وضع لنا رب العزة قواعد الوحدة وأسسها، وأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يعلِّمها الناس، وأن يربيهم عليها، وأن يظل يتعهدها ويرعاها حتى لا تضيع، فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)﴾ (آل عمران).

وقد قام النبي- صلى الله عليه وسلم- بذلك خير قيام، فعلَّم وربَّى، وتعهد، وأول التعهد إقامة دولة تحمي ذلك، وترعاه بكل الأساليب والوسائل المشروعة حتى كان أفضل جيل عرفته البشرية منذ نشأتها على ظهر هذه الأرض إلى اليوم، وإلى قيام الساعة، وكانت حضارةً زاهرةً نبتت على العهد النبوي، ونمت وترعرعت في عصر الصحابة فمن بعدهم، وأفاضت على غيرها من الحضارات لا سيما الغربية في أوروبا، وأمريكا لا بشهادة الأصدقاء وحدهم، بل بشهادة الأعداء، ومن هؤلاء يكفينا قول جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): "لولا المسلمون في الأندلس ما كانت أوروبا اليوم".

ولا يخفى علينا أن المتربصين بهذا الدين أخذوا يكيدون له منذ ظهوره بكل الأساليب والوسائل التي قدروا عليها، ويملكونها، ولم يكن المسلمون ليستجيبوا لمؤامرات هؤلاء وهم على هذه الحال من التعليم والتربية، والتعهد، فما الذي جعل المسلمين تتغير حالهم هذه، حتى ضاعت حضارتهم، ومجدهم الذي عرف عنهم؟

عدة حقائق

الحقيقة الأولى: إشراكهم مرجعيات أخرى مع المرجعية المعصومة، بحيث تحاكم الناس إلى هذه المرجعيات مع المرجعية المعصومة، ولا ضيرَ ما دامت لا تتعارض مع هذه المرجعية المعصومة، لكنهم للأسف أشركوها حتى مع التعارض، ثم تلا ذلك، تأخير المرجعية المعصومة، وتقديم المرجعيات الأخرى بخيرها وشرها.

وترتب على ذلك ما يلي:

1- جهلهم بالله، وبالتالي الإعراض عن عونه، بل طلبه ممن لا يملكه ولا يستطيعه، وكانت النتيجة الخذلان، والفرقة، والقطيعة، والفشل.

2- جهلهم بحقيقة أنفسهم بحيث برز الإعجاب بالنفس، والغرور والتكبر، والاستعلاء وبالتالي الفرقة والقطيعة.

3- جهلهم برسالتهم، والوسيلة التي تعين على أدائها، والتعلق بوسائل أخرى لا تجدي نفعًا، أو لا تسمن ولا تغني من جوع.

4- جهلهم بحقيقة الكون، وكيف يدوم عطاؤه وخيره.

5- جهلهم بحقيقة الملائكة حتى عبدوهم من دون الله، الأمر الذي جعل هؤلاء الملائكة، على الناس، بدل أن كانوا معهم، يدعون لهم ويؤيدونهم.

6- جهلهم بحقيقة الأعداء حتى دخل الأعداء في الأمة، وتمكَّنوا منها.

7- جهلهم بحقيقة العلل والأمراض التي تصيبهم نفسيًّا، وكيفية التخلص منها، بل لقد عالجوها بما يؤججها، ويذكيها.

8- جهلهم بواجباتهم نحو بعضهم البعض، فضاعت الآداب والعلاقات الاجتماعية الإسلامية، وحلت محلها علاقات وآداب مبنية على عقائد أو أيديولوجيات أخرى تتعارض مع الإسلام.

الحقيقة الثانية: إغراق الأمة بالديون نتيجة انغماسها في الدنيا وعدم العناية بمواردها، وقلة هذه الموارد عن الوفاء بحاجة الأمة؛ الأمر الذي فتح الباب لرهن الأمة، ومن ثمَّ إشاعة الفرقة.

الحقيقة الثالثة: إسقاط دولة هذه الحضارة باعتبارها راعية للوحدة، وحراسة حقوق الأمة في دمها، وعقلها، ودينها، وعرضها، ومالها، تارةً بالحروب، وتارةً بالعمالة وشراء الذمم، وتارةً بالنفاق، حتى سقطت الدولة والتي كانت تُعرف بالخلافة الإسلامية، وقُسِّمت الدولة إلى أكثر من ستين دولة، لكل منها نظامها، ومنهجها، وأساليبها، ووسائلها التي كثيرًا ما تتعارض مع بعضها البعض.

الحقيقة الرابعة: إغراق الأمة بثقافاتٍ أخرى غير ثقافتها من إشاعة العُري، والتهتك، والخمر، والزنى، والربا، ونحو ذلك، واستجابة نفر من الأمة لهذه الثقافات.

الحقيقة الخامسة: الحيلولة بين الأمة وبين عودتها إلى ثقافتها بكل الأساليب والوسائل الممكنة، تارةً بتشويه الثقافة الإسلامية، وتارةً باتهامها بالإرهاب، وتارةً بالحروب، وتارةً بالعمالة، وتارةً بالنفاق، وتارةً بالمقاطعة، وتارةً بالإيقاع بينهم، وبين بعضهم البعض، وقد لخَّص ذلك كله رب العزَّة حين قال: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)﴾ (آل عمران).

وهكذا انتهت الفُرقة إلى سقوط الحضارة الإسلامية، والحيلولة دون العودة إلى هذه الحضارة، فكيف نُعيد للأمة وحدتها من جديد، وكيف تقوم هذه الوحدة بتجديد الحضارة الإسلامية، وإمساكها بزمام الحياة؟

1- أن يتم تعريف الأمة بالمبادئ العشرة التي قدمنا، والتي هي محور ومرتكز الوحدة.

2- أن يُربَّى كل فرد في الأمة على هذه المبادئ لتكون الأساس الذي تبنى عليه الوحدة.

3- أن يحسِّن كل فرد صلته بالله حتى يحبه الله، ويحبب فيه أهل السموات والأرضين.

4- أن يُعاد التأكيد على العلاقات الاجتماعية، ويعمل على تنميتها ومراجعتها أولاً بأول، وخطوة بخطوة.

5- أن يؤكد على الوحدة على مستوى الأسرة والمدرسة والنادي والنقابة، والجمعية، والرابطة، والجامعة، والمعهد، وهكذا في المؤسسات.

6- أن نُجرِّب الوحدة على مستوى الأنشطة البسيطة من الاقتصاد والإعلام، والتعليم والدفاع والتخطيط.. إلى الأعمال والأنشطة الكبيرة كالقيادة والحكم وهكذا.

7- أن نكون على حذرٍ من الوقوع في شباك المتآمرين على هذه الأمة.

8- أن تفتح الأعين على العملاء، ويتم تنبيههم إلى خطر ما هم عليه، فإن تابوا وإلا أُنذروا وقوطعوا وعزلوا اجتماعيًّا.

9- أن يُوضع في الحسبان أن ذلك لن يتم في يومٍ وليلة، وإنما يحتاج إلى زمن طويل، وجهد كبير، وتضحيات، وصدق وإخلاص، وعزيمة وعون دائم، من رب العالمين، هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

-------------

* من تراث العالم الجليل د. السيد محمد نوح