الأستاذ سيد قطب كان يقول في كلمته: إننا لا يجب أن نهتم كثيرًا بالخطب، ولا ننشر الدين بالخطب، ولهذا فسأكلمكم وأنا جالس؛ لأني لا أريد أن أكون خطيبًا، ولا أحب أن أكون خطيبًا. يا إخوان..

كنا زمانًا في المدرسة الثانوية، وحيث لم تكن هناك وقتها احتفالاتٌ بالعام الهجري بدرت عندنا فكرةٌ من الغيظ من الاحتلال.. فكرة نتنفس بها في جانبٍ من جوانب الحياة.. فقلنا نحتفل بالعام الهجري، وبعد تعبٍ أجبنا إلى أن نحتفل بهذا العيد، ثم مرت أيام وأنا فكرت: ما الذي استفدناه من الاحتفال بالعام الهجري؟! وجدت أولاً أنه لا فائدةَ لهذا الاحتفال بالمرة.. ندخل الاحتفال عُصاةً ونخرج منه عُصاةً، يعني مثلاً كنَّا ندخل بغير صلاة المغرب ونخرج ولم نصلِّ العشاءَ، وكنا ندخل ولا عِلْمَ لنا بآيةٍ واحدةٍ من القرآن، ونخرج بنفس الحال ولا نعرف آيةً واحدةً من القرآن.

كنا ندرس القانونَ في مدرسة الحقوق ولا نشعر بأنه ينقصنا شيء، وما كنا نشعر بأنَّ هناك دينًا اسمه الإسلام يستوجب علينا أن ندرسَ شريعةَ الإسلام على اعتبار أنَّها قانونٌ حيٌّ، على اعتبار أنها قانون لازم للحياة.. فما فائدة هذه الاحتفالات؟! وبقينا على هذه الحال، وكلما مرَّ الوقت قلَّ أملي في هذه الاحتفالات؛ لأنَّ الكلام الذي يُقال فيها "يدخل من أُذن ويخرج من أُذن"، ولا نتقدَّم به شيئًا.

أليس هذا هو الحق؟! نعم هو الحق وهو الواقع، وجاءت أحداث بالبلد أمَّلنا فيها خيرًا فلم ينتج عنها خير، إلى أن وقعتُ على دعوة الإخوان المسلمين، فعلمت أنَّ هذا قبسٌ من نور، وأنَّ هذا النور يوشك أن يهدي الناسَ كما هداهم أوَّل الأمر.

يا إخوان..
إنَّ دعوةَ الإخوان المسلمين ليست شيئًا جديدًا.. إنها الدين الخالص.. الدين الذي ليس فيه كتب لمطالعتها ليلاً ونهارًا ونرجع إليها.. إنها قولٌ بسيطٌ جدًّا: لا إله إلا الله محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.. إنها الأخلاق.. إنها الفطرة السليمة.. إنها شيء عملي نعمله كل يوم.

وقد نظرنا حولنا فوجدنا أنَّ الإخوانَ المسلمين أوجدوا في البلد حياةً.. أوجدوا في البلد طائفةً من الشباب استعدَّت بالروح وبالجسم وبالمال لافتداء الدين والوطن، ووجدنا أنَّ هذه الفئةَ ثابتةٌ لا تتكلَّم، لا تهتف باسم أحد، ولا تعظِّم شخصًا ولا تحيِّي إنسانًا، إنما تحيِّي الله سبحانه وتعالى، تحيتهم هتاف لله سبحانه وتعالى، عاملين منيبين طيبين يتوجهون لله بالعمل الطيب، ويعملون في صمت وسكون، إلى أن أتت الأحداث فأثبتت أنهم جنود الله حقًّا.

الدعوة الإسلامية دعوةٌ تشمل الحياةَ كلَّها.. تدخل على الإنسان.. تغيِّر من عقيدته كما غيَّرت عقيدة عبدة الأوثان وعبدة الناس.. تدخل في قلوب الناس فتنير بصائرهم.. تدخل في قلوب الناس فتريهم الحقَّ حقًّا والباطلَ باطلاً.. تريهم الحق فيتبعونه وتريهم الباطل فيجتنبونه، هذه هي دعوة الإخوان المسلمين التي نتحدث عنها، ونقيم هذا الاحتفالَ في الحقيقة لا لنقول لهم العام الهجري فحسب، إنما لنُبيِّن شيئًا من حقيقة دعوة الإخوان المسلمين، ولا أريد أن أطيل في هذا الأمر، إنما أريد أن نرجع إلى يوم الهجرة فقط لأعرض بعض اعتباراتٍ نستفيدها من الهجرة.

يا إخوان..
الحاجة الأولى التي نستفيدها من كلام أخي عبد المعز وكلام أخي سيد.. استفدنا أنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- منح الدعوةَ كلَّ وقتِهِ وكلَّ روحِهِ وكلَّ جسمِهِ وكلَّ مالِهِ إن كان عنده مال.

فيا أيها الإخوان.. لا تظنُّوا أنَّ كلامي لكم تملقٌ، إنَّ أمامكم الشيء الكثير الذي يجب أن تفعلوه، ولا تظنوا أنَّ مَن انتسب إلى دعوة الإخوان المسلمين قد بلغ منها حظه حقًّا، يجب على من يدخل الدعوةَ أن يهبَهَا ويمنحَهَا كلَّ وقتِهِ وكلَّ جهدِهِ وكلَّ مالِهِ وكلَّ نفسِهِ، فلا نكتفي بالحضور إلى الشعبة فيمكث الواحد فيها طول النهار، إنما يجب أن يمنحَ الدعوةَ كل وقته، وليس معنى كلامي الواحد يدور في الشوارع ينادي بدعوة الإخوان المسلمين، ولا أن ينصرف عن أعماله ولا يجعل له من سبيل إلا الكلام عن دعوة الإخوان المسلمين، ولكن أقول مع ذلك إنه يجب أن يمنحَ دعوةَ الإخوان كلَّ وقته وكلَّ جهده وكلَّ ماله وكلَّ نفسه، وذلك بأن يحقق في نفسه وفي عمله وفي سائر النشاط الذي يعمله في يومه معاني القرآن العظيم.

يجب أن يمنح الواحد هذه الدعوة يمنح هذا الدين كلَّ الوقت ليحققَ المثلَ الأعلى الذي بيَّنه القرآن، ونحن في هذا الطريق لنا مثل أعلى، وفينا من هو مثل أعلى، وفينا من يصلح، وفينا من لا يطيق، ولكن كلنا يريد الوصولَ لله سبحانه وتعالى، وكلنا يريد الصعودَ إلى جبلٍ.. فمنا من يصل إلى القمة، ومنا من يصل إلى منتصف الجبل، ومنا من يظل في السفح، ومنا من يبدأ، لكننا جميعًا لنا وجهةٌ واحدةٌ هي وجهة الله ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: من الآية 3).

فيا أيها الإخوان..
الدين الخالص يقتضينا في التجارة وفي الزراعة وفي معاملتنا للناس، التلميذ في مدرسته، الزارع في زرعه يعبد الله بإتقان عمله ويعبد الله بأن يفكر دائمًا في الله حين يعمل العمل، فيعمله لوجههِ تعالى.. إذن نكون قد منحنا الدعوةَ كلَّ وقتنا وكلَّ جهدنا وكلَّ مالنا، فلا يدخل على الحياة زَيف منها، ولا يدخل علينا الغرور من أي جانب من جوانب أنفسنا، فيجب علينا دائمًا أن نكون مستغرقين في دعوة الله سبحانه وتعالى كما كان رسول الله- عليه السلام- مانحًا كلَّ وقتِهِ بالليلِ والنهارِ، كل حاجة.. كل عمل من أعماله كان خالصًا لوجهه تعالى في تجارته.. في نشاطه.. في كل عمل من أعماله.. كان خالصًا لوجهه تعالى، وكان يؤدِّي هذا الواجبَ عن طيب خاطرٍ وهو شغوفٌ به، فيجب كذلك أن يكونَ لنا في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ، وأن نتَّجه إلى الله العلي العظيم بكلِّ أنفسنا وكل قلوبنا وبكل أرواحنا وبكل ما نملك ونعمل لهذه الدعوة، وبذلك يمكن أن نقول إننا أدَّينا شيئًا نلقى الله به بوجهٍ حسنٍ.

يا أيها الإخوان..
الدعوة كما سمعتم يا إخواني لا تزال كما كانت في أول الأمر، تحفُّها العقبات وتحفها الصعاب، وأراكم حين تشمون طعمَ العافيةِ تطمعون في هذا وتفكرون أنكم وصلتم إلى شيءٍ كبيرٍ.. فأنا أتمنى لكم الشدائد حتى تستحقوا أن تكونوا الإخوان المسلمين.

فنسأل الله أن يُديمَ علينا الشدائدَ حتى يُدِيم علينا الإيمانَ الكاملَ، فلا نستطيع أن نمضي في دعوتنا إلى الله إلا إذا أيقنَّا أننا أمام عقباتٍ كثيرةٍ وصعوباتٍ جمَّةٍ ويجب أن نجتازها.. والصعوبات والعقبات تتجدَّد كل يوم، ليس فقط اليوم، وليس فقط صعوبات وعقبات إبراهيم عبد الهادي، إنما ما زال أمامنا الكثير من هذه الصعوبات والعقبات، فيجب علينا أن نفكِّرَ في ذلك، ويجب علينا أن نكونَ مستعدِّين لذلك، ودعوة الإخوان المسلمين لا تحتاج إلا إلى يقظتهم، ولا تحتاج إلا إلى عنايتهم بعد عناية الله بطبيعة الحال؛ لأنَّ دعوةَ الإخوانِ المسلمين أصبحت من الدعوات العالميةِ التي لا يمكن لشخصٍ من الأشخاص أن ينالَ منها. إنَّ دعوة الإخوان لم تَعُدْ دعوةَ جماعةٍ أو جمعيةٍ في مصر يقال لها الإخوان المسلمون؛ إنما أصبحت دعوةً عالميةً.. دعوةً يعرفها المشرق والمغرب، دعوةً ينتظرها الناس جميعًا شرقيهم وغربيهم.. دعوةً ينتظرها المسلمون لإنقاذهم من كل ما هم فيه من بلاء.. ينتظرونها في مراكش وفي تونس وفي المغرب الأقصى وفي ليبيا وفي خليج العرب وفي إندونيسيا وفي تركيا وفي باكستان وفي كل مكان ينتظرون دعوة الإخوان المسلمين.. ويعتقدون أنه لا سبيل لإنقاذهم إلا بالإخوان المسلمين، فإذا كان هذا هو اعتقاد الناس فيكم، وإذا كان هذا أمل الناس فيكم فيجب أن تحققوا أمل الناس، ويجب أن تحققوا رجاء الناس، ويجب أن تهتموا بالدعوة وتتفانَوا فيها، وحينئذ لا يستطيع أن يمسكم أحد.

إنَّ دعوة الإخوان المسلمين ليست شُعَبًا وليست مكاتبَ إداريةً، وليست مكتبَ إرشادٍ، وليست حاجةً اسمها جماعة الإخوان المسلمين، إنما هي دعوةٌ أصبحت في القلوب، لا يمكن أن يحلّها إلا الله، قد تكفَّل لا بحلها ولكن بصيانتها، إنكم إن فعلتم كنتم مجاهدين في سبيل الله، والله تعالى وعد المجاهدين بالخير الكثير فقال ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: الآية 69) فإن فعلتم ذلك فلينصركم الله والله قد تكفَّل بالنصر؛ لأنَّ النصرَ ليس بالكثرةِ ولا بالقلةِ، وليس بيد مخلوق وإنَّما هو بيد الله تعالى في آيات القرآن الكريم جميعًا.

إنه اختصَّ نفسه بالنصر فلا يمنحه إلا لعباده العاملين إلا لعباده المتقين إلا لعباده الذين ينصرونه وينصرون دينه ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)﴾ (الحج)، فدعوة الإخوان المسلمين لم تصبح لعبةً في يد الناس، وإنما أصبحت حقيقةً في هذا البلد وحقيقةً في بلاد العالم الإسلامي، ولا بد من أن ننتصر ولا بد من أن ننال حقنا وواجبنا بتطبيق كتاب الله تعالى إن عاجلاً أو آجلاً.
-----
من تراث المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي - في الاحتفال بذكرى الهجرة بالمنصورة- المحرم 1373= سبتمبر 1953