إن مجال التوكل واسع، ومتعلقه شامل لكل ما يطلبه الخلق ويحرصون عليه، من أُمور الدنيا، ومطالب الدين.

التوكل في أمر الرزق
ولكن كثيراً من الناس إذا ذكر "التوكل" لم يخطر في بالهم إلا "الرزق" فهو يتوكل على الله في أمر الرزق الذي ضمنه لعباده. كما ضمنه لكل دابة في الأرض: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (هود: 6). (وكأين من دابةٍ لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم، وهو السميع العليم) (العنكبوت: 60).

وإذا دعي إلى الإنفاق أنفق وهو مطمئن إلى أنّ الله سيرزقه خيراً مما أنفق، كما قال تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين ) (سبأ: 39).

وحين تحدث الإمام الغزالي في كتابه "منهاج العابدين" عن "العوارض" التي تعرض لسالك الطريق إلى الله، جعل في مقدمتها "الرزق" ووصف العلاج لها في "التوكل".
ولا ريب أن أمر الرزق قد أهم الناس وشغلهم، كما شغلهم أمر الأجل، بَيْد أن المتوكلين على الله قد فرغوا من هذين الأمرين، فقد اطمأنوا إلى أن الرزق مقسوم، والأجل معلوم، فلا يملك أحد أن ينقص من رزقهم مثقال حبة، ولا أن يُقدِّم أجلهم مقدار لحظة.
وهذا لا يعني أن يهمل السعي لرزقه، بل يسعى ويكدح، وهو مطمئن أن أحداً لا يأكل رزقه، كما لا يأكل هو رزق غيره، وأن ما أصابه من رزق لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

لقد جهل عرب الجاهلية هذا الأمر، فاقترفوا أشنع جريمة: قتلوا أولادهم بأيديهم شر قتلة، بأخبث دافع: من أجل إملاق (فقر) واقع، أو خشية إملاق متوقع، أي مخافة أن يطعموا معهم، ويزاحمهم في رزقهم، غافلين عن أن رزقهم يأتي معهم.

يقول تعالى في سياق ما حرَّم على عباده: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ، نحن نرزقكم وإياهم) (الأنعام؟: 151)، وفي سورة أخرى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ، نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً) (الإسراء: 31).
وقد أبطل الإسلام هذه الجريمة الشنعاء، وعلَّم الناس أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن خزائنه ملأى لا تنفد: (ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) (المنافقون: 7).

جريمة الجاهلية المعاصرة
ولكن الجاهلية المعاصرة -جاهلية القرن العشرين- طفقت تحيي بعض ما مات من الجاهلية القديمة، وتُخوِّف الناس من أمر الرزق، وتحرضهم على الإجهاض، إجهاض أطفالهم مخافة أن يطعموا معهم كما رأينا ذلك في أوراق مؤتمر السكان العالمي الذي انعقد في القاهرة (سبتمبر 1994 ).

أما المسلمون الأوائل، فقد أنسوا إلى وعد الله تعالى، وأيقنوا بصدقه، واطمأنوا إلى ضمانه، فلم يبخلوا ببذل الأموال، ولم يضنوا ببذل الأرواح، في سبيل الله.
عند تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك، تسابق الصحابة في الإنفاق والبذل، فجاء عمر بنصف ماله، وبحاء أبو بكر بماله كله، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (وماذا أبقيت لأهلك وعيالك)؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله!.
قيل لبعض المجاهدين في عصور الفتح: من يكفى أولادك من بعدك؟ قال: علينا أن نجاهد في سبيله كما أمرنا. وعليه أن يرزقنا كما وعدنا! وقيل لزوجة مجاهد من السلف: من أين تعيشين أنت وأولادك بعد ذهاب زوجك؟ قالت بكل ثقة: زوجي منذ تزوجته وعرفته، عرفته أكّالاً، وما عرفته رزّاقاً، فلئن ذهب الأكّال لقد بقي الرزَّاق!.

التوكل في أُمور الدنيا الأخرى
ورغم أهمية أمر الرزق لدى أكثر الناس، فهو ليس كل ما يطلب الناس من أمر الدنيا. فهناك من يطلب الزوجة، وهي من أهم ما يُطلب من دنيا الناس. وفي الحديث الصحيح: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة).
وهناك من يطلب الذُرِّية التي تكون له قُرَّة عين، وترثه من بعده، وهو مطلب مشروع دعا به الأنبياء والصالحون.
قال إبراهيم: (رب هب لي من الصالحين) (الصافات: 100).
وقال زكريا: (رب هب لي من لدنك ذريةً طيبةً، إنك سميع الدعاء) (آل عمران: 38).

وهناك من يطلب العافية، وهي أهم ما يطلب الأفراد لأنفسهم.
وفي الحديث: (سلوا الله العفو والعافية، فإن أحداً لم يُعط بعد اليقين خيراً من العافية).
وفي دعاء القنوت: ( وعافني فيمن عافيت ).
وهناك من يطلب الانتصار على عدو ظلمه، فهو يريد أن يشفي غلته بأخذ الله له. وهذا لا حرج فيه، فهو من طبائع البشر، وقد رخص الله للمظلوم أن يجهر بالسوء من القول في حق ظالمه، رعاية لحاله: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظٌلِم، وكان الله سميعاً عليماً) (النساء: 148).

وهذه كلها مطالب دنيوية مشروعة، ومن متعلقات التوكل على الله تعالى. فالمؤمن يتوكل على ربه أن يرزقه الزوجة الصالحة، والأولاد الصالحين، كما دعا بذلك عباد الرحمن: (الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعينٍ واجعلنا للمتقين إماماً) (الفرقان: 74). ويتوكل عليه حتى يمحه العافية، وينصره على ظالمه.

التوكل في أمر الدين
ولكن هناك ما هو أعظم من هذا، وهو من يتوكل على الله تعالى، حتى يأخذ بيده، ويعينه على سلوك الصراط المستقيم، ويثبته عليه، ويجعله من (الذين قالوا ربُنا الله ثم استقاموا) (فصلت: 30، والأحقاف: 13)، ويمنع عنه المشوشات وقواطع الطريق، من النفس والشيطان، والدنيا والناس. كما قال العبد الصالح:

بالنبل عن قوس له توتي

                إني بُليتُ بأربع يرمينني

يا رب أنت على الخلاص قدير

                إبليس والدنيا ونفس والورى

وهناك ما هو أعلى من هذه المرتبة في متعلقات التوكل، وهي: مرتبة من يتوكل على الله تعالى في إعلاء كلمته، ونصرة دعوته، وتأييد شريعته، وتبليغ رسالته، وجهاد أعدائه، والتمكين لدينه في الأرض، حتى يحق الحق، ويبطل الباطل، ويقوم العدل، وينقشع الظلم، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبذلك لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
--------
من كتاب "التوكل" لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي