نهض الغرب في القرون الأخيرة نهضة واسعة، وتسابق أبناؤه في كشف مكنونات الأرض وحسن الانتفاع بها، فاستجابت الأرض لهم، وأعطتهم بعض أسرارها، فتفوَّقوا على غيرهم وامتلكوا مفاتيح التقدم والثروة.

وفي المقابل نجد أن أمة الإسلام قد خيَّم عليها الجهل والظلام والتخلف, وانتقلت تدريجيًّا من مصاف الأمم المتقدمة إلى مؤخرتها.

أصبحت أمتنا أضعف الأمم، وباتت مطمعًا للجميع, حتى اليهود الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة قد استأسدوا علينا وسامونا سوء العذاب.

هذا الوضع المرير حدا الكثير من أبناء الأمة على المناداة بضرورة التركيز على الأسباب المادية، والسعي إلى نفس الاتجاه الذي سلكه الغرب كي نصل إلى ما وصلوا إليه، فهل هذا التصور فقط يصلح لكي يكون سبيلاً لنهضة الأمة الإسلامية؟

الوضع الخاص بأمة الإسلام

إن كان الغرب بسعيه في الأرض واستفادته من خيراتها المتاحة للجميع قد نجح في امتلاك زمام التقدم والحضارة, فإن هذا لا يعني أن نسير مثلهم في نفس الطريق، ونعطي ذلك الأولوية المطلقة؛ وذلك لجملةٍ من الأسباب:

أولاً: أن الله تعالى قد اختصَّ الأمة الإسلامية بنعمةٍ عظيمة, لم يختص بها أمةً معها على وجه الأرض ألا وهي رسالة الإسلام التي تُعد بمثابة رسالة هداية للبشرية جمعاء ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: من الآية 143).

هذه المزية العظيمة التي تجعل من أمتنا خير أمة أخرجت للناس، وتضعها على رأس الأمم الأخرى، مرتبطةٌ بمدى تمثُّل الرسالة في الأمة، وبمدى تبليغها إياها لسائر الناس؛ فإن لم تفعل ذلك عاقبها الله- عزَّ وجلَّ- بعقوبات كثيرة كي تفيق من سباتها وتقوم بواجبها، وسيستمر العقاب طالما استمرَّ الإعراض عن القيام بذلك الواجب، وهذا هو التشخيص الحقيقي لواقعنا المرير.

فنحن الآن في مظانِّ الغضب والعقوبة الإلهية بسبب خيانتنا للأمانة، ومهما اجتهدنا في تحصيل الأسباب المادية فلن يُرفع عنا العقاب أو الذل والهوان إلا إذا عدنا إلى ديننا أولاً.. ألم يقل صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (صحيح، رواه أبو داود عن ابن عمر وصححه الألباني في صحيح الجامع، 423).

ولقد كان ثمة أمة في الماضي خانت الأمانة ولم تبلغ الرسالة, فحدث لها مثل ما يحدث لنا الآن من عقوباتٍ حتى يرجعوا, فلمَّا أصروا على غيهم سلب الله منهم الأمانة وحمَّلها لنا، تلكم هي أمة بني إسرائيل ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (البقرة: 211).

ثانيًا: أن مصدر رفعة وعزة الأمة الإسلامية مرتبط بمدى علاقتها بربها، ومدى دخولها في دائرة معيَّته وكفايته ﴿وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 139).

ويتمثل ذلك جليًّا في قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام؛ فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".

وفي المقابل فإن مصدر رفعة الأمم الأخرى في الدنيا يكون على قدر امتلاكها للأسباب المادية "فقط"؛ لأنها لم تُكلَّف بما كُلِّفنا به، ومن الخطأ بمكان أن نسعى إلى الرفعة من خلال تقليدهم والسير وراءهم ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا﴾ (النساء: من الآية 139).

ثالثًا: أن باب الأسباب المعنوية نملكه دون غيرنا من الأمم الكافرة بالله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ (محمد: 11).

فكيف نترك سر تفوقنا؟! كيف نترك ما اختصنا الله به ونبحث عما في أيدي الآخرين؟! كيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ونعطيه الأولوية؟! ألم يقل سبحانه: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ (آل عمران: 13).

رابعًا: لو أُغلق أمامنا باب الأسباب المعنوية، وتساوينا مع الكفار في السباق نحو امتلاك الأسباب المادية، فستكون النتيجة لصالحهم لا محالة؛ فكما قال الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تُنصرون على عدوكم بطاعتكم لله ومعصيتهم له؛ فإذا عصيتموه تساويتم".

هذا من ناحية.. ومن ناحيةٍ أخرى فنحن حين نترك الأسباب المعنوية ونعتمد على الأسباب المادية فقط, فإننا نتعرض للعقوبة من الله بالخذلان وتعسير الأمور, بينما هم لن يعاقبوا مثلنا وإن كانوا أكثر منا معصيةً، ولِمَ لا وقد خُنَّا أمانة عظيمة ائتمننا الله عليها دون غيرنا.

وهذا ما أكده عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما- قبل تحرُّك جيش المسلمين لملاقاة الفرس في القادسية بقوله: "ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلَّط علينا؛ فرُبَّ قوم سَلَّط الله عليهم من هو شرٌّ منهم، كما سَلَّط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار(1).

خامسًا: نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب المادية بالقدر المتاح أمامنا لإقامة الستار الذي يتنزل من خلاله قدر الله ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60)، ولسنا مطالبين أمام الله عز وجل بأكثر مما نقدر على تحصيله من تلك الأسباب.

وفي الوقت نفسه فقد طالبنا الله- عز وجل- بالأخذ بالأسباب المعنوية كلها؛ من توبةٍ وتذللٍ وانكسارٍ إليه، واستعانةٍ به، وتوكلٍ مطلق عليه، وليس لنا عذر في تركها، وكيفَ لا وهي متاحة أمامنا جميعًا، ولا يوجد ما يحول بيننا وبين الأخذ بها، وهذا هو ترتيب دعاء المجاهدين ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 147).

تأمَّل معي قوله تعالى وهو يخاطب نبيه ويرشده إلى الاهتمام بالأسباب المعنوية، وأنها هي السبب الرئيسي لاستجلاب النصر: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160)﴾ (آل عمران).

سادسًا: لو افترضنا أن الأسباب المادية هي التي تحسم الصراع، وتعيد لنا مجدنا السليب، فالوضع القائم يؤكد أن أعداءنا لن يسمحوا لنا بامتلاكها بالقدر الذي يجعلنا نتكافأ معهم أو حتى نقترب منهم؛ فلقد أحكموا قبضتهم علينا من كل جانب، وظهر استعلاؤهم واستكبارهم وطغيانهم بصورة لم يسبق لها مثيل، ولا أمل لنا إلا في الله بأن يكون معنا فيحسم الصراع لصالحنا ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾ (الرعد: من الآية 11).

فالله وحده هو القادر على أن يهزمهم رغم تفوقهم علينا ماديًّا، وهو القادر على قلب ميزان القوة تمامًا، ولعل ما حدث في غزوتي بدر والأحزاب أكبر دليل على ذلك.

ولكن الله عز وجل لن يكون معنا إلا إذا فعلنا ما يرضيه من إخلاص له في التوجه والاستعانة، ومن طاعةٍ لأوامره، ومن جهاد في سبيله وتضحية من أجله، ومن تقديم حبه على كل المحابّ الأخرى، ومن بذل الجهد والأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامنا ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: من الآية 55).

سابعًا: تاريخ أمتنا يؤكد هذه الحقيقة؛ فأمة العرب التي كانت قبل الإسلام في مؤخرة الأمم لم تنتقل إلى مقدمتها بفضل امتلاكها الأسباب المادية وتفوقها بها على غيرها؛ بل لأنها دخلت في دائرة المعية والرضا الإلهي، فأوفى الله بعهده معها، وملَّكها الأرض ودحر الممالك الأخرى من فرس وروم, والذين كانوا يمتلكون من الأسباب المادية ما يفوق ما عند الأمة الإسلامية بأضعاف الأضعاف ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ﴾ (التوبة: من الآية 111).

ويزداد هذا الأمر تأكيدًا عندما ننظر إلى المعارك الإسلامية، خاصةً في العصور الأولى التي كانت الأمة فيها قريبة من الله تتمتع بحمايته ونصرته وكفايته.

ففي هذه المعارك- كبدر واليرموك والقادسية- كانت الأسباب المادية عند الكفار تفوق أضعاف أضعاف ما عند المسلمين، ومع ذلك انتصر المسلمون انتصارات باهرة.. لماذا؟! لأن الله كان معهم ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ (الأنفال: من الآية 17).

فعندما يكون الله مع الفئة المؤمنة فلا قيمة أبدًا لكثرة الكافرين عددًا أو عدة ﴿وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 19).

وفي المقابل فإن التاريخ ينبئنا بأنه عندما يُخِلُّ المسلمون بالشروط التي يريدها الله منهم ليُنزل عليهم نصره فإن الهزيمة ستكون حليفهم وإن كانوا أكثر عددًا وعُدَّةً من أعدائهم، ولنا في غزوة حنين- عند بدايتها- أكبر مثال على ذلك ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ (التوبة: 25).

بل إنه في إحدى المعارك، معركة العِقَاب (2)، وكانت بين المسلمين في الأندلس في عهد دولة الموحدين وبين النصارى؛ فقد بلغ فيها عدد جيش المسلمين- كما تقول بعض الروايات- خمسمائة ألف مقاتل، ومع ذلك فقد هُزموا هزيمة منكرة، وذبح منهم عشرات الآلاف؛ وذلك بسبب اتكالهم على قوتهم، وكثرة خلافاتهم فيما بينهم.

هل نترك الأسباب المادية؟

قد يقول قائل: ولكن هل معنى هذا أن نترك الأسباب المادية ونتجه إلى الأسباب المعنوية التي نعرفها ولا يعرفها غيرنا؟!

لو تركنا الأسباب المادية المتاحة أمامنا لظللنا في أماكننا كما نحن ولن نتقدم قيد أنملة؛ فكما قيل سابقًا فإن الأسباب المادية المتاحة هي التي تُقيم الستار وتهيئ التربة لنزول القدر الإلهي، أما الأسباب المعنوية فهي التي تستكمل إقامة الستار وتمنحنا مزية التأييد الإلهي دون غيرنا؛ فالإعداد المادي ضروري- وبالقدر المتاح أمامنا- والإعداد المعنوي لا غنى لنا عنه إن أردنا أن تعود إلينا عزتنا ومجدنا السليب، ولم لا وهو الذي يُرجِّح كفتنا على غيرنا، فضلاً عن أنه قبل ذلك هو مهمة وجودنا لتحقيق عبوديتنا لله عز وجل؟!

إذن فالمقصد من هذا كله هو إعادة ترتيب الأولويات، وعدم مقارنتنا بالغرب، وأن نوقن بأن علاقتنا بالله هي سر تقدمنا، فإن انقطعت وتخلى الله عنا صار أعداؤنا أفضل منا وإن فقناهم عددًا وعُدَّةً؛ لأننا حينئذ نكون مغضوبًا علينا، ألم يقل سبحانه لبني إسرائيل من قبل ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ (طه: من الآية 81)؟! ولقد هوينا إلى القاع بالفعل, وصرنا تحت أقدام الكفار بسبب غضب الله علينا؛ لأننا خُنَّا أمانته.