كل حيٍّ يعيش، وليس كل من يعيش حيًّا.. يقول تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ (الأنعام: من الآية 122) والحياة التي نقصدها هي حياة القلب بالله ولله ومع الله.. بمعاني الخوف والرجاء والخضوع والاستعانة.. وهذه المعاني تحتاج من العبد أن يعرف ربه؛ فكيف نخاف مَنْ نجهل؟! وكيف نرجو مَنْ لا نعرف؟! إن المعرفة بالله سبحانه وتعالى هي التي تُحيي القلب بهذه المعاني الربانية، كالماء عندما يصادف أرضًا تمَّ استصلاحها للزرع والإنبات.

وقد تعرَّف ربنا تبارك وتعالى إلى عباده بصفاته وأفعاله.. بما حواه كتابه المقروء من آيات الخلق والإبداع، يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾ (الأعراف)، ويقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)﴾ (الرعد)، وبما أبدع في كتابه المنظور من آيات القدرة وأمجاد العظمة، وبما يحمله كتاب حياة العبد من رسائل ربانية عبْر أحداث وأقدار.. كشفت الأيام عن حكمته سبحانه وسعة رحمته بعبده في قضائه وقدره.. كما قال الشاعر عبد الرحيم البرعي رحمه الله:

               فكم لله من تدبير أمرٍ                  طوته عن المشاهدة الغيوبُ

              وكم في الغيب من تيسير عسرٍ        ومن تفريج نائبةٍ تنوبُ

              ومن كرمٍ ومن لُطفٍ خفيٍّ             ومن فرجٍ تزولُ به الكروبُ

              وما لي غيرُ بابِ الله بابٌ              ولا مولىً سواهُ ولا حبيبُ

              كريمٌ، منعمٌ، برٌّ، لطيفٌ                جميلُ السترِ للداعي مُجيبُ

وإذا تلمَّس العبد ما يزيده إحساسًا ومعرفةً بربه في القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وفي الكون الذي أتقن ربنا صنعه, وفي الحياة وتقلُّباتها؛ إذا تلمَّس هذا أنبتت المعرفة قربًا.. يُثمر المحبة.

حُسنى لا حسنة..

ومن نعم الله علينا أنه اتخذ أسماء وصفات, هي أبواب المعرفة, ودروب القُرب, ومفاتيح المحبة.. ذَكَرَها في كتابه, وعلَّمها بعضَ خلقه, واستأثر ببعضها في علم الغيب عنده.. ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (180) (الأعراف)، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)﴾ (طه).. وهي أسماء حُسنى وليست حسنة فقط؛ إذ لو كانت حسنة لكان هناك ما هو أحسن منها, لذلك هي (حسنى) فليس أحسن منها.. كيف وهي صفات رب العالمين؟!

ينابيع التوحيد

قد فاضت آيات القرآن الكريم بأسماء الله الحسنى, بل إن هناك سورًا سُمِّيت ببعض هذه الأسماء، مثل: النور, فاطر, غافر, الرحمن, الأعلى.. وخُتمت سورة الحشر بسبعة عشر اسمًا منها.

وكثير من الآيات يُختم بها في سياق سور القرآن, يحتاج إلى تأمل في موقعها من مضمون السورة ومعنى الآية.. اقرأ هذه الآيات, وعَدِّدْ ما فيها من أسماء, وتدبَّرْ مواطنها ومواقعها من المعنى ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)﴾ (الحج) ويبدأ بهذه الأسماء عددٌ من سور القرآن, بل إننا لا نبدأ التلاوة إلا بذكر ثلاثة منها: فنبدأ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم).

هيا ننعم بظلالها..

إن الناظر في معاني أسماء الله الحسنى يجدها كلها في مصلحة العباد؛ فالرحمن والكريم والبَرّ والتوّاب والصبور.. كل ظلال هذه الأسماء ومعانيها إنما هي لعباده سبحانه..

- فالمحتاج يدعو الكريم الوهّاب.

- والمذنب يرجو التواب الرحيم الغفور.

- والخائف يناجي المؤمن اللطيف.

- والمظلوم يعتصم بالمنعم القوي المتين.

فما من شدة تمرُّ بالعبد إلا ولها ما يكشفها من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا, واختلاف معانيها إنما هو لاختلاف أحوال العبد وتقلُّب أمره في الدنيا بين الخوف والرجاء, والرغبة والرهبة, وإذا لم يعرف العبد الاسم المناسب لحالته؛ عمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: "ألظُّوا (ألحُّوا) بياذا الجلال والإكرام" (رواه الترمذي).

- فكم من آمال حققها لنا!.

- وكم من مخاوف أمننا منها!.

- وكم من شرور وأمراض دفعها عنا!.. ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)﴾ (الجاثية).

فمن أولى من الله أن نرفع الصوت بتسبيحه؟!.. إنه الله الذي سبح له مافي السموت والأرض.

من أولى من الله أن ننفق في سبيله؟.. إنه مانح المال في الحياة ووارثه مع فناء الكون كله..

من الذي يلجأ إليه الحائر, ويستهدي به التائه؟.. إنه العفوّ الهادي..

من الذي يُنقَّّى له القلب وتخلص له النية؟.. إنه العليم بذات الصدور..

تقدير المعرفة محال

محالٌ أن تفي الله حقه طاعةً وعبادةً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحد يدخل الجنة بعمله! قالوا: ولا أنت يارسول الله؟ قال: ولا أنا, إلا أن يتغمدني الله برحمته"، والذي يقول هذا هو سيد ولد آدم, وأول شافع ومشفَّع, وخير من عَبَد وسَجَد, وصاحب لواء الحمد, وأول من تنشقُّ عنه الأرض يوم القيامة, وصاحب المقام المحمود والشفاعة العظمى للبشرية كلها, فما نقول نحن؟!! وصدق الله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 91).

بل محالٌ أيضًا أن نحيط به سبحانه معرفةً.. قد نعلم صفات الله عزوجل, أو نحيط بشيء منها علمًا, ونشعر بمدلولها أحيانًا.. ولكننا لا نستطيع أن نعيش وندرك مدلولات صفة واحدة من صفاته, فنأتي بحدودها, ونعرف مراميها؛ إذ كيف تدرك الصنعة صانعها؟!

فكل ذرة في الكون تتحرك بأمر ومقدار, وكل هَبَّةِ ريح لها مسار محدود, وتُحرِّك من الكائنات على البرِّ أو في البحر ما قُدَّر لها.. كل كائن في البحر مساره محسوب ومعلوم, كذلك كل كائن في الجوِّ أو على الأرض.. كل ما يقع في ظلمات الأرض أو رَحْب السموات أو في بواطن الجبال، يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (الأنعام: من الآية 59).

فهل عِلْمُ الله بسقوط ورقة يقف عند العِلْمِ بوقت سقوطها ومكان استقرارها؟! أم أن إحاطة الله بها تشمل حالها قبل استنبات شجرتها, وحالها قبل وبعد خروجها حتى سقوطها, وكيف سقطت، وبأي ريح, وأين استقرت, وما مصيرها بعد ذلك.. وهل سيأكلها إنسان أم حيوان أم حشرة, أم ستصبح هشيمًا بعد رحلة لايحيط بها إلا خالقها؟!

إن الواحد منا يأكل الرغيف ولا يدري من أي الأراضي تجمَّع, وقد تعاونت فجاج الأرض وآفاق السماء حتى يصل إليه.. إن أحد الصالحين- وهو يأكل- أمسك بحبَّة أُرز وقال لها: سبحان مَنْ يعلم مِنْ أي أرض أتيتِ! سبحان مَنْ يعلم مِنْ أي ماء شربتِ! سبحان مَنْ يعلم في أي مكان من جسدي تستقرِّين!.

كذلك علمه سبحانه بكل ما يتغير ويستجدُّ ويحدث في أجساد العباد.. سبحانه ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾ (الرحمن) فهل نستطيع أن نحدِّد أبعاد ومدلولات اسم الله "العليم"..؟!! إن ما نعلمه من هذه الصفة لا يساوي فيما نجهله شيئًا.. ومن رحمته بنا قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن: من الآية 16).

العاطفة تفتح أسرارًا

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُلهِم الحمدَ والثناء كما نُلْهم نحن النَّفَس؛ قال في حقه سبحانه: "لا أُحْصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، وعلمُنا يقف دون السياحة في صفة واحدة, فكيف ببقية أسمائه وصفاته؟! وكيف بالأسماء التي استأثر بها رب العزة في علم الغيب.. فلا يعرف الله سبحانه وتعالى حق المعرفة إلا الله جل وعلا.. ومع ذلك إذا استشعر القلب تعظيم مولاه ومحبته؛ تكشَّفت له من المعرفة بربه آفاقٌ رحبة، وأسرار عليا تُنْطق اللسان بالأعاجيب.

يروي سعيد الأزرق الباهلي أنه سمع امرأةً في الطواف تناجي ربها وتقول: "يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الأوهام والظنون، ولا يصفه الواصفون، يا عالمًا بمثاقيلِ الجبال ومكاييلِ البحار، وعددِ قَطْر الأمطار وورقِ الأشجار، وعددِ ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، يا مَن لا تواري منه سماءٌ سماء، ولا أرضٌ أرضًا، ولا جبلٌ ما في وعره، ولا بحرٌ ما في قعره.. أسألك أن تجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتمَه وخير أيامي يوم ألقاك، وخير ساعاتي مفارقةَ الأحياء، من دار الفناء إلى دار البقاء، التي تكرم فيها من أحببت من أوليائك، وتُهين فيها من أبغضت من أعدائك، أسألك إِلهي عافيةً جامعةً لخير الدنيا والآخرة، مَنًّا منك عليّ وتطوُّلاً يا ذا الجلال والإِكرام..

وبعد..

فربما يشعر العبد ببرد اليقين ونسمات الإيمان إذا نظر في الكون أو في حاله من نافذة القرآن الكريم, أو تردُّه تقلبات الحياة وعلوم الكون إلى الأنس بربه وكتابه.. ومع ذلك تبقى أسماء الله الحسنى وصفاته العليا أبواب المعرفة والقرب والمحبة..

إن ذكرها بركة, وتدبُّرها من الإيمان, ودعاء الله بها حياة للقلب..