من تراث الأديب د. جابر قميحة

نعم: كان فتحًا بكل ما تحمل كلمة "الفتح" من مضامين ودلالات، وما تعكسه من إيحاءات لقد كان فتحًا للعقول والقلوب والمشاعر، وتوجيهًا عمليًّا إلى الدين الحق، وظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قمة عليا في الرحمة والإنسانية. وقد حسم الله سبحانه وتعالى حتمية الفتح قبل تحققه واقعيًّا بعام، وذلك بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)﴾ (الفتح).

قال قتادة:.... وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأن رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. لتدخلن أي في العام القابل المسجد الحرام إن شاء الله، وقال ابن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي- صلى الله عليه وسلم- في منامه، خوطب في منامه بما جرت به العادة، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ولهذا استثنى، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)﴾ (الكهف).

وبدأ الزحف من المدينة إلى مكة في العاشر من رمضان سنة 8هـ، ودخل المسلمون مكة 21 من رمضان. ولنلق الضوء- فيما يأتي على المقدمات والمسيرة:

مع المسيرة الإنسانية

على مدى ثلاثة عشر عامًا ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قومه إلى الدين الحق، ولم يستجب إليه إلا القليل، وكان أغلبهم من الفقراء والعبيد والمستضعفين، وتحمَّل الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من الأذى ما يفوق طاقة البشر إلى أن أذن الله له وللمسلمين بالهجرة، وفي المدينة أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولةً تقوم على الحق والخير والأخوة والبر والرحمة والإنسانية، وكان بينه وبين قريش معارك ضارية، انتصر في أغلبها، إلى أن كان صلح الحديبية في العام السادس من الهجرة.. ومن نصوصه: قيام هدنة لعشر سنوات، وإعطاء الحق للقبائل في الدخول في حِلف أحد الطرفين؛ فدخلت قبيلة (بكر (في حلف قريش، ودخلت قبيلة (خزاعة) في حِلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قريشًا أغرت رجال (بكر) بـ(خزاعة)، وحرضتهم عليهم، واشتركوا معهم في قتل رجال من (خزاعة) غدرًا؛ فانطلق "عمرو بن سالم الخزاعي" إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنشد بين يديه شعرًا يشرح فيه غدر قريش وخيانتها ونقضها لعهد الحديبية، فقال: "نُصرت يا عمرو بن سالم".

وأمر- صلى الله عليه وسلم- بالزحف إلى مكة، فغادر الجيش الإسلامي المدينة في العاشر من رمضان سنة 8 هجرية، ودخل النبي- صلى الله عليه وسلم- وجيشه (الذي بلغ عشرة آلاف) مكةَ في 21 من رمضان.

 ومن المدينة إلى مكة نواكب أعمال الرسول- عليه السلام- وأقواله، فنجدها جميعًا- دون استثناء- تتدفق بالإنسانية الحانية، بعيدًا عن الصلف والغرور ومشاعر الانتشاء التي تستبد بالقادة في مواقف النصر، ونشير في هذه العجالة إلى بعض المواقف النبوية الإنسانية: 1- لقد كان ضمن الجيش الزاحف ما يُسمَّى بـ"الكتيبة الخضراء" أو "كتيبة الحديد"- وهي كما نسميها اليوم- "الكتيبة المدرعة"، وكان عليها "سعد بن عبادة" الذي أخذه شيء من الزَّهْو، فصاح: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحَل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا"، فغضب النبي- صلى الله عليه وسلم- وأعطى الراية لـ"علي بن أبي طالب"، وقال "لا يا سعد، بل اليوم يوم المرحمة، اليوم تُقدّس الحرمة، اليوم أعز الله قريشًا".

2- وبينما كان الجيش يزحف إلى مكة رأى (كلبة) تُرضع أولادها، فخشى أن يَسحقها الزاحفون دون أن يشعروا، فأمر "جعيل بن سراقة" أن يقوم حذاءها؛ حتى لا يعْـرِض لها أحد من الجيش ولا لأولادها، وأمر المسلمين أن يدخلوا مكة بروح الموادعة والرحمة والمسالمة بلا قتال.

3- ووسَّع الملاذ لمن يريد الأمان من المشركين فأعلن- صلى الله عليه وسلم- "من دخل داره فهو آمن، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

4- ودخل مكة في تواضع عجيب؛ حيث كان يركب ناقته القصواء وقد أحنى رأسه على رَحله تواضعًا، حتى كادت تمس لحيته الرحلَ من شدة التواضع، وهو يقول: "لا عيش إلا عيش الآخرة...".

 5- وأراد "فضالة بن عمير الليثي" أن يغتال النبي- صلى الله عليه وسلم- أثناء طوافه، فكشف الله للنبي خبيئته، وعفا عنه بعد أن أعلن إسلامه، ودعا له بالخير.

6- ورفض عرض "علي بن أبي طالب"- كرم الله وجهه- بأن تكون الحِجابة لهم، وقد انتزع "علي"- رضي الله عنه- مفتاح الكعبة من "عثمان بن طلحة"- سادنها في الجاهلية- فأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- المفتاح، وأعاده لـ"عثمان"، وأبقى سدانة البيت له ولقومه، وقال: "هاك مفتاحك يا عثمان، فاليوم يوم بر ووفاء"،

7- وأعلن العفو العام عن قريش بمقولته الكريمة المشهورة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

8- وأعلن في خطابه لأهل مكة أصولَ القيم الإنسانية العليا: "أيها الناس، لقد أذهب الله عنكم نخوة الجاهلية, وتعظمها بآبائها؛ فالناس رجلان: بَرٌّ تقيّ كريم على الله, وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب... ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ (الحجرات: من الآية 13)".

حقًّا، لقد كان فتح مكة فتحًا حقيقيًّا لآفاق من الخير والحقّ والبر والنور والإنسانية.

إنسانية شاملة أصيلة:

وحينما دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحًا كان مثالاً للبر والوفاء والعفو عند المقدرة، وفتح صدره لجميع من تحدثوا إليه، ومن الوقائع الطريفة في هذا المجال أن- سراقة بن مالك- الذي كان قد وعده النبي- صلى الله عليه وسلم- سواري كسرى وهو يلاحق الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر في طريق الهجرة، تحدث إليه سراقة مذكرًا إياه بما وعد فقال- عليه الصلاة والسلام-: "نعم هذا يوم وفاء وبر، أدنوه"، فأدنوه منه فأسلم، وسأله: "يا رسول الله إن الضالة من الإبل تغشى حياض ماء وقد ملأتها لإبلي فهل لي في ذلك أجر؟ إن تركتها تشرب من حياضي وليست ملكي". فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم في كل ذات كبد حرى أجر".

وكان- صلى الله عليه وسلم- يستطيع أن يضرب أعناق (مجرمي الحرب) من رءوس قريش، الذين قتلوا أصحابه، وصادروا أموالهم، وخانوا وغدروا، وألبوا عليه العرب، ولكنه- صلى الله عليه وسلم- كان منطقه الإنساني هو الحاكم والمهيمن.

وصفة الإنسانية في رسول الله إنما تمثل طابعًا متجذرًا أصيلاً شاملاً، ومنها تنبع قائمة القيم المحمدية: فهو رحيم, وصفه ربه بصفتين من صفاته إذ قال ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: من الآية 128), وهو القائل "من لا يرحم لا يرحم".

وهو الذي حَـرَم الأقرع بن حابس أن يوليه على أموال بني تميم؛ لأنه اكتشف أنه يقسو على أبنائه إذ قال حينما رأى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقبل الحسن بن علي: يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحدًا منهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلي لنا أمرًا".

وكان رحيمًا بالحيوان فقال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".

وكان حليمًا منطقه "اذهبوا فأنتم الطلقاء" و"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

وكان وفيًّا يذكر خديجة بعد موتها ويتحدث عنها بما يرفع من شأنها أمام زوجاته، ويحسن لكل من كانت تحبهم خديجة.

وكان متواضعًا حتى قال لرجلٍ ارتعش في حضرته: "هون عليك، فلست بجبارٍ ولا ملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد".

وقد ذكرنا آنفًا أنه لما دخل مكة كان يركب ناقته القصواء، وقد أحنى رأسه على رحله تواضعًا حتى كادت لحيتُه تمسُّ الرحل من شدة التواضع، وهو يقول: "لا عيش إلا عيش الآخرة".

ومن قبل كان يشارك أصحابه في حفر الخندق حتى كان الغبار يغطي وجهه الشريف، كما كان يشاركهم رجزهم، ويرفع صوته بالرجز معهم، وهو يشبه في وقتنا الحاضر الأغنيات العفوية التي يغنيها البناءون أثناء عملهم حتى يخففوا عن أنفسهم شدة العمل.

ويطول بنا المسار لو رحنا نستعرض قائمة القيم المحمدية، ولكنا نقول إنها طوابع نفسية وخلقية، وعقلية، وروحية نابعة من معين "الإنسانية" الأصيلة المتجذرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أدبه فأحسن تأديبه.