بقلم: أحمد حسن الزيات

كان الإسلام المهاجر من مكة الجاهلية لا يزال خافض الجناح في يثرب؛ وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا يزالون تحت البلاء: يمتحن الله صبرهم بالألم، ويختبر إيمانهم بالفتنة، ليمحص الذين يجتبيهم لنشر الدعوة، ويَعْلم الذين يصطفيهم لجهاد الرسالة؛ فالقرشيون يُوَثّبون عليهم القبائل، واليهود ينصبون لهم الحبائل، والمنافقون يدسون لهم الغدر في الملَق. فلما أذن الله لدينه أن يعود ولمجده أن يسود ولنوره أن يتم، أرسل جنوده الثلثمائة إلى وادي بدر، يتعاقبون على سبعين نِضوًا من أباعر المدينة، ويستعينون بصبر المجاهد على القلة، وبعزة المؤمن على الذلة، وبعفة الزاهد على الفاقة؛ ويسيرون في استغراق الصوفي المدَلَّه إلى ما وعدهم الله من إحدى الطائفتين: العِير أو النفير، وإحدى الحُسْنَيَيْن: النصر أو الشهادة؛ ولكن العير الذي يفهق بالثراء الضخم نجا به أبو سفيان على الساحل، فلم يبق إلا مكة الغاضبة لثروتها وسطوتها ودينها قد نزلت بالعُدْوة القصوى من الوادي مع أبي جهل! تسعمائة وخمسون من فلذات كبدها أرسلتهم في الخيل والحديد يجيشون على محمد بالغِل، ويفورون على صحبه بالحفيظة، ويرون الإسلام في هذا العدد القليل والمظهر الهزيل قد أمكنهم من نفسه، ودلهم على مصرعه.

التقى الجمعان في صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان، وكان المسلمون على فقرهم وضرهم ثلث المشركين، وكان المشركون على كثرتهم وعُدَّتهم صفوة قريش، فموقف الإسلام من الشَّرك كان يومئذ موقف محنة. كان بين العُدْوتين في بدر مفرق الطرق، فإما أن يقود محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك. وقفت مدينة الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب!! فكان طريق وعَقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان! فأما أن يتمزق تراث الإنسانية على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر؛ وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذه الطريق، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه الموقعة! (اللهم هذه قريش قد أتت بخُيلائها تحاول أن تكذب رسولك! اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَدَ في الأرض!) ذلك كان دعاء الرسول أمام العريش ووجهه إلى القبلة، ويداه إلى السماء، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه فيرده الصِّدِّيق ويقول: بعض هذا يا نبي الله فأن ربك منجز وعده! وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل الوعد بالنصر، وجاءت البشرى بالجنة، فغاب المسلمون في إشراق عجيب من الإيمان، لا يرسم في أخيلتهم إلا الحُور، ولا يصور في عيونهم إلا الملائكة؛ وقذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر، وانجاب القَتَم الكثيف عن النور الوامض من ربوع يثرب، وانكشفت المعجزة الإلهية عن انتصار ثلثمائة على قرابة ألف!!

موقعة بدرٍ الكبرى لا تذَكر بخطتها وعدتها ونفقتها وعديدها في تاريخ الحرب، فلعلها في كل ذلك لا تزيد على معركة بين حيين في المدينة؛ إنما تذكر بنتائجها وآثارها في تاريخ السلم، لأنها كانت حكما قاطعاً من أحكام القدَر غيَّر مجرى التاريخ، وعدَّل وجهة الدنيا، ومكَّن للعرب في دَوْرهم أن يبُلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسة العلم.

لم يكن النصر فيها ثمرة من ثمار السلاح والكثرة، ولكنه كان ثمرة من ثمار الإيمان والصدق؛ والإيمان الصادق قوة من الله فيها الملائكة والروح، وفيها الأمل والمثَل، وفيها الحب والإيثار، فلا تبالي العَدد ولا ترهب السلاح ولا تعرف الخطر!

بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوة في بدر والقادسية واليرموك؛ وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية الجديبة والعروبة الشتيتة عمرانا طبق الأرض بالخير، وملكا نظَّم الدنيا بالعدل، ودينا ألَّف القلوب بالرحمة.

بهذا الشعور القدسي الذي يحس وينهض ويقود، وبهذا اليقين النفسي الذي يجاهد وينتصر ويسود، وقف الشباب المصري الباسل من دخلاء الجيش، موقف البدريين من كفار قريش، يشقون بهتافهم أذن الأصم، ويقرعون باحتجاجهم ضمير المصِرِّ، ويجدعون بثباتهم أنف المستكبر! لا ينكلون أمام الرصاص، ولا يرهبون وحشة السجن، ولا يجزعون عند الفاجعة. وعاطفة الوطنية كعقيدة الدين: فناء في الغيرية، واندماج الجمعية، وتوجيه الأمل الطموح إلى المقصد الأعلى؛ وأجمل ما في وطنية الشباب المصري اليوم، هو أجمل ما كان في عقيدة الشباب العربي أمس: اتحاد قائم على الألفة، وتضامن مبني على الوحدة، ومزاج مركب من الشعور الدافق والإيمان الصادق والتفكير المنظم.

إن اليوم السابع عشر من رمضان سيظل يومًا مشهودًا في تاريخ الأمة العربية بنزول القرآن وغلبة الحق، وفي تاريخ الأمة المصرية بنصرة الشباب ووحدة الأحزاب وعودة الدستور.