قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ (الكهف: 28).

ذكريات..

أخي وحبيبي وقرة عيني.. يا من أذكرك فينشرح صدري، وتنبسط أساريري، وتعود بي الذكرى إلى أيامنا الجميلة التي قضيناها معًا في رحاب هذه الدعوة المباركة، كأني أسمع صوتك الشجي يتردد صداه في وجداني وأنت ترتل القرآن الكريم فتُبكِي الحاضرين، ويخيم علينا جوٌّ روحانيٌّ كأن ملائكة السماء تحفنا بأجنحتها، وتشف أرواحنا حتى لكأننا نحلق في الملأ الأعلى..

أتمثلك الآن يا أخي الحبيب وأنت تجلس بيننا في حلقة المسجد، وتقرأ أذكار المساء في رمضان، وأستعيد ذلك الشعور الرائع الذي كنت أحس به حينها، إذ تحوطنا قلوب الناس تعبيرًا عن حبهم العميق للإسلام الوسطي المعتدل، وارتباطهم الوثيق بالدعاة العاملين، وقد كان الناس يعدوننا منهم، أستعيد ذلك الشعور فتنتابني فرحة غامرة بنعمة الله وتوفيقه، وأتذكر كلماتك لي أن الدعوة إلى الله عِزٌّ وشرفٌ يختار الله لها من يشاء من عباده ويصطفيهم لهذه المهمة العظيمة ليسيروا على طريق الرسل والأنبياء، فيسري في نفسي شعور قوي يغالب العوائق، ويقهر الأعذار..

أتمثلك الآن يا أخي الحبيب.. وقد حضرت إلينا ذات يوم في موعد وأنت مريض فقلت لك: لماذا لم تعتذر؟ فقلت لي: إن شفائي في وجودي بينكم. وأتمثلك الآن يا أخي وقد أخطأ في حقك أحد إخواننا فذهبت إليه تصالحه وتطيّب خاطره وتعتذر إليه، وتقول: تخطئون فنعتذر إليكم، وتمرضون فنتألم أكثر منكم، وتأكلون فنحس بالشبع، وتشربون فنشعر بالري حتى أظفارنا.. كيف لا ورسولنا يقول: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" (رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم).

مشاعر..

أتَذْكُرُ يا أخي الحبيب هذه المعاني الجميلة التي غرستها فينا؟ لقد كنتُ أحب لقاءك، وأستريح إلى وجودي معك؛ لأنك كنت تذكّرني دومًا بالآخرة، وتعينني دومًا على طاعة الله، وتحضني دومًا على الالتزام بطريق الدعوة، وترغّبني كثيرًا في الجهاد والتضحية. نعم لقد كنتَ لي قلبًا كبيرًا، وعقلاً منفتحًا، وقدوة عملية، تعلمتُ منك الكثير، وبدأتُ حياتي الدعوية في صحبتك، لقد أرشدتَني إلى أعظم طريق، وكنتَ دليلي إلى أفضل الخير، وغرستَ في عقلي وقلبي أروع الأشجار والأزهار، وأهديتَني أعظم ما أحرزتُ في دنياي، إذ كنتَ لي عونًا كي أتاجر مع الله، وأبيع نفسي لله، وأسير مع أهل الله، في طريق الله.

واليوم يا أخي الحبيب.. أشعرُ بالوحشة الشديدة إليك، وأتألمُ لغيابك عني كأن عضوًا من أعضائي قد اقتطع مني بفأس قديم، لست أبالغُ في ذلك أدنى مبالغة، بل لعلّ كلماتي لا تصف مثقال ذرة من مشاعري؛ فشعوري لفقدانك إلى جواري في هذا الوقت العصيب، كشعور الأم الثكلى التي فقدت وحيدها، الشاب البار بها، وهي في أشد الحاجة إليه، وقد كبرت سنها، ورَقَّ عظمها، ووهنت قوتها، وتخلى عنها الغريب والقريب، وهل هناك أشد من الألم لغيابك عن الطريق التي مهدتها لي ولكثيرين غيري؟

أخي الحبيب.. لقد فقدت بغيابك الساعد والعضد، والظهر والسند، والرفد والمدد، لقد كنت لي أخًا وأبًا وشيخًا وأستاذًا ومعلمًا وقائدًا، فكيف لا أتألم لغيابك الآن؟ نعم يا أخي.. أفتقدك كثيرًا، وأحنُّ إليك كثيرًا، حنين الأرض المجدبة إلى الغيث، وأبتهل إلى الله تعالى كثيرًا أن تعود إلينا سالمًا غانمًا، فأنت صاحب القلب اليقظ، والعقل المتقد، والرؤية الثاقبة، واليد الحانية، والنفس الرقيقة، والشعور المرهف، والدمعة القريبة، والعظة المؤثرة، والتوجيه الحكيم. وكيف لا ورسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" (رواه البخاري ومسلم). هذا حق العامة؛ فكيف برفقة الدرب وصحبة الطريق وإخوة الإيمان وشقائق الروح؟

حقائق..

أخي الحبيب.. هيا نتذاكر ما تربينا عليه معًا، والذكرى تنفع المؤمنين، فلا يخفى عليك أن الدعوة إلى الله تعالى فريضة شرعية وضرورة بشرية، وهي شرف للمنتسبين إليها، والمنضوين تحت لوائها، وأن الله تعالى يصطفي لها من يشاء من عباده، وأن من طبيعة طريق الدعوة أنه وعر غير ممهد، وأنه مليء بالأشواك والعقبات، والتعاريج والمنعطفات، وينتشر على جانبيه اللصوص وقطاع الطرق، وأن السير فيه يحتاج إلى يقظة وحذر، وفطنة وتأهب، كما يحتاج إلى نَفَس طويل، وصبر جميل، وقوة نفسية عظيمة، نعم.. إن السير في هذا الطريق مخاطَرَة كبيرة، ولكنها تستحق؛ فالجائزة كذلك عظيمة؛ والجنة هي نهاية هذا الطريق بإذن الله تعالى لمن صدق سيره إلى الله وحده.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ" (رواه الترمذي وصححه الألباني). قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: "هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسَالِكِ الْآخِرَةِ, فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى طَرِيقِهِ, وَالنَّفْسَ وَأَمَانِيَّهُ الْكَاذِبَةَ أَعْوَانُهُ، فَإِنْ تَيَقَّظَ فِي مَسِيرِهِ, وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي عَمَلِهِ, أَمِنَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَمِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ، كما أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ صَعْبٌ، وَتَحْصِيلَ الْآخِرَةِ مُتَعَسِّرٌ, لَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى سَعْيٍ" (تحفة الأحوذي).

أخي الحبيب.. نعم يا أخي، إن الصراع بين الحق والباطل اليوم على أشدّه، والمعركة الحالية في أرجاء العالم الإسلامي معركة وجود ومصير، ولا يمكن تفاديها أو الفكاك منها أبدًا؛ حتى لمن يؤثر السلامة ويبتعد عن الميدان؛ فهي معركة مفروضة علينا نخوضها للدفاع عن الإسلام وشرف الأمة وهويتها ومقدساتها ومقدراتها؛ فالأعداء لا يرضون بأقل من الخضوع الكامل لهم، ولا يقبلون الإسلام الصحيح المعتدل المقاوم للظلم والتبعية بأي شكل من الأشكال، ولا بأي درجة من الدرجات؛ لأنهم يرونه تهديدًا وجوديًّا لهم، ومن ثم اتخذوا من القضاء عليه استراتيجية دائمة، واعتبروا ذلك مسألة أمن قومي لهم.

لقد كنا نقول منذ زمن: إن الإخوان أمل الأمة؛ إذ أخذوا على عاتقهم مسئولية إيقاظ الأمة وتعريفها بحقوقها وواجباتها ومكائد أعدائها، وتهيئتها للمقاومة والتحرر من كل سلطان أجنبي، واليوم في ظل هذا الواقع المختلط، والصورة الضبابية، والمحنة الشديدة أضحى الإخوان فعلاً وواقعًا أمل هذه الأمة في الخلاص، وأمل هذه الأمة في النهوض من جديد، فالإخوان - رغم الضربات التي تعرضوا لها - لا يزالون بفضل الله وتوفيقه رأس الحربة للمشروع الإسلامي، ولا يزالون في قلب الأحداث، وهم الآن طليعة الأمة في مقاومة الاستبداد والفساد، والظلم والطغيان، وطليعة الأمة في مقاومة الأجنبي الغاصب، وطليعة الأمة في الدفاع عن الأرض والعرض، وطليعة الأمة في الحفاظ على الهوية والمقدسات وثوابت الدين، وطليعة الأمة في إرشاد المجتمع وتوعيته وإيقاظه وحشد جهوده وطاقاته في التحرر والبناء.

أخي الحبيب.. لنا بيعة مع الله تعالى أن نعيش ما بقينا في هذه الدنيا وقفًا لله تعالى، وأن نقدم أرواحنا في سبيل الله إذا اقتضى الأمر ذلك، فحياتنا في سبيل الله، وموتنا في سبيل الله ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام: 162 - 163).. ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(التوبة: 111).. إن هذه البيعة لكي تنعقد وتتم وتمضي، ونستحق مقابلها الثمن الذي وعد الله به؛ فلا بد أن نفي نحن أولاً بشروط العقد التسعة المذكورة في الآية التالية مباشرة: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة: 112)، ولهذا أخي أتذاكر معك عهدي وعهدك وبيعتي وبيعتك.

دعوات..

اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت أن تؤلف بين قلوبنا وأن تجعلنا إخوة متحابين متآلفين، ولا تجعل للشيطان بيننا سبيلاً، واسترنا بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك. اللهم حببني إلى إخواني وحبب إخواني إليَّ وحببنا جميعًا إلى خلقك، وافتح لنا قلوب عبادك، واشملنا بحبك وعطفك يا أرحم الراحمين، اللهم حبب إلينا طريقك ودعوتك، ويسر لنا طاعتك، واجعلنا من أهلك وخاصتك، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم ارزقنا حسن التوكل عليك، ودوام الإقبال إليك، وخذ بأيدينا ونواصينا إليك، أخذ الكرام عليك، وردنا وإخواننا وأحبابنا إلى دينك وطريقك مردًّا جميلاً، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ومشايخنا ومعلمينا وإخواننا في الله وأصحاب الحقوق علينا وكل من أسدى لنا معروفًا أو خصَّنا بدعوة صالحة بظاهر الغيب، اللهم رد إلينا من ابتعد عنا من إخواننا، وأقم صفنا كما تحب وترضى يا رب العالمين.

اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة دينك وشريعتك؛ فوثق اللهم رابطتها، وأدم ودّها، واهدها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك، وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك، وأمتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير.