بقلم: صادق أمين

لقد ظهر جليًا ما خلفته مدنية المادة، وحضارة المتع والشهوات من علل وأمراض في مجتمعاتنا، وما أحدثته من تخريب للأفراد والأسر، وانحسار لكثير من القيم، والأخلاق الإسلامية والمقاييس الربانية، وانتشار ألوان شتى من الفساد، وصار لزامًا على العقلاء والغيورين أن يبحثوا عن العلاج بعد تشخيص الداء.

ولما كان ضعف الإيمان، هو الذى أوصل إلى هذه الحال التى نشكو منها، فصار بديهيًا أن يتركز العلاج في بعث الإيمان في النفوس، فيطهرها من كل هذه العلل والأمراض، فنجد الفرد المسلم القدوة، ونجد البيت المسلم القدوة، ثم نجد المجتمع المسلم القدوة.

وسنعرض هنا إلى حقيقة الإيمان، وكيف أنه يعالج النفوس ويشفيها من كل هذه الأدواء:

الإيمان في الحقيقة هو الحياة بالنسبة للإنسان، وبغيره يكون كالميت: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ (الأنعام: من الآية122).

الإيمان يولد في نفس صاحبه معانى العزة والقوة، والثقة بالله والاطمئنان إلى جنب الله، والأمل في نصر الله، ودفاعه عن عباده المؤمنين، ورد كيد الظالمين عنهم ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية8). ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحج: من الآية38).

الإيمان يفجر في نفس المؤمن طاقات كبيرةً، تدفع صاحبها إلى الجهاد والتضحية، والصبر والتحمل،وعمل الخير، وتعينه عل تخطى العقبات، مهما طال الطريق، ومهما كثرت العقبات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ (آل عمران:200).

الإيمان ينير الطريق ويحقق الطمأنينة والراحة النفسية، ويباعد بين المؤمن والقلق والحيرة والهم والحزن، والتمزق داخل النفس ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28) . ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ (الحج: من الآية31). كنايةً عن التمزق الداخلي، وعن التيه والضياع.

الإيمان ينير الطريق لصاحبه، فيهتدي إلى الصراط المستقيم، ويتجنب الانحراف عنه ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام:153). ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الحديد:28).

الإيمان يحمى المؤمن من الوقوع في الحرام أو الشبهات، لأنه يولد في نفس صاحبه خشية الله، ومراقبة الله، والخوف من عقاب الله كما يولد الإخلاص لله، ويطهر النية من كل شائبة، ويبرئ صاحبه من أمراض القلوب التى تفسد الإخلاص، كالرياء والغرور، الكبر وحب الزعامة وحب الظهور.

والإيمان ينقى صاحبه من الأمراض الاجتماعية، كالأنانية وحب الذات، والحقد والحسد، والعادات الجاهلية، والعصبيات القبلية والإقليمية، وما يترتب عليها من صدامات وعداوات في كثير من الأحيان.

الإيمان يعصم صاحبه من المعاصي، وارتكاب الكبائر والفواحش ويمنعه من إيذاء الغير، سواء بالسب أو الغيبة أو النميمة، أو غير ذلك من صور الإيذاء، ويدعو إلى البر والإحسان، بين المواطنين، وإن اختلفت عقائدهم وأديانهم ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾ (الممتحنة:8).

ويدعو إلى إنصاف الذميين وحسن معاملتهم "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" ، فلا يدعو إلى فرقة عنصرية ولا إلى عصبية طائفية.

الإيمان يكسب صاحبه كل خلق فاضل، ولين الجانب وكظم الغيظ، والعفو عمن يسئ إليه من إخوانه ويدفع بالتى هي أحسن، ويكسب صاحبه فضيلة التواضع.

الإيمان يدفع صاحبه إلى برّ الوالدين والأقربين وصلة الأرحام وإكرام الضيف وحسن الجوار، والعطف على اليتامى والإنفاق على المساكين.

الإيمان يثمر المودة والرحمة، والحب والإيثار بين المؤمنين، ويحول دون الفرقة والتنازع ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: الآية71). ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾ (الحجرات: من الآية10)، وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم". ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر:9). ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (لأنفال:46).

الإيمان يدفع إلى الاهتمام بأمور المسلمين وقضاياهم، والدفاع عنهم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

الإيمان يقوى عزم المؤمنين ويزيل أي أثر للغثائية والوهن والشعور بالضعف، ويمنع الخوف من غير الله، ويدعو إلى حسن التوكل على الله ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 173-175).

الإيمان يصحح الموازين المادية، فلا يجعل الدنيا أكبر الهم، ومبلغ العلم فيتخفف المؤمن من جواذب الأرض التى تجعله يثّاقل إلى الأرض، عندما يدعى إلى النفير للجهاد، وتكون الشهادة في سبيل الله أسمى أمانيه، ويسخر كل ما أنعم الله به عليه من وقت ومال وجهد وعلم ونفس في سبيل الله، ويجعل المال في يده، لا في قلبه، وينفقه في سبيل الله.

الإيمان يحمي صاحبه من الوهن والاستكانة والضعف، خاصةً إذا حدثت هزيمة في معركة مع الأعداء ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا  اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾. ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 146).

التسلح بسلاح الإيمان هو العامل الأساسي لتحقيق وعد الله بالنصر والتمكين لعباده المؤمنين من الأخذ بأسباب إعداد القوة ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47). ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾ (النساء: 76).

الإيمان يثمر حب الأوطان ويدعو إلى العمل المنتج المتقن؛ للارتقاء بالوطن، وتحقيق الاكتفاء الذاتي . ويدفع إلى حسن استغلال الوقت في النافع المفيد، وتسخير ماله فيما يعود بالنفع والخير على الناس.

والإيمان والتقوى يجلبان الرزق الحلال الطيب ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ (الأعراف: 196) ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ  لاَ  يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: من 3،2 ).

الإيمان يولد الصبر والرضا، والاطمئنان إلى عدل الله، وأنه ليس بغافل عما يعمل الظالمون وأنه لهم بالمرصاد، ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم: 42) كما أن المؤمن يرضى بقضاء الله وقدره وإن بدا أنه شر ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ  لاَ  تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 216).

الإيمان عندما يتوفر في الزوج والزوجة يحقق لهما السعادة الزوجية الحقة، والمودة والرحمة، فيقيمان البيت المسلم القدوة وتنشأ الذرية الصالحة في هذا الجو الرباني.

الإيمان يزجر صاحبه من التجرؤ على الفتيا بغير علم، ويلزم صاحب الورع، والتحرز من التعالم، والخوض في شرع الله على غير تثبت، وقد وقع في هذا الأمر بعض الشباب حديثي العهد بالعمل الإسلامي.

الإيمان يبصر صاحبه بما تمليه طبيعة المرحلة، التى تمر بها الدعوة الإسلامية، من ضرورة العمل على إقامة الدولة والخلافة الإسلامية، وضرورة التعاون مع غيره من الصادقين العاملين؛ لتحقيق هذا الهدف العظيم ﴿وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الأنفال: 39).

الإيمان يدفع صاحبه إلى الوفاء ببيعته، وعدم التفريط في أدائها، أو النكث فيها، مهما طال الطريق، وكثرت العقبات ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا  بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾. (الأحزاب: 23).

والإيمان شرط لإتمام الصفقة الرابحة مع الله ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾. ( التوبة: 111).

الإيمان والتقوى يحميان المؤمن من نزغات الشيطان ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201).

الإيمان يحقق السعادة والحياة الطيبة في الدنيا ، والنعيم والنجاة من النار في الآخرة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ﴾ (البروج: 11).

والإيمان يجعل صاحبه في معية الله، ومن كان الله معه لم يفقد شيئًا، ومن تخلى الله عنه، لن يجد إلا الضياع والضلال. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ (النحل: 128). وفي آية أخرى ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 19).

هكذا نرى أثر الإيمان وعلاجه للعلل والأمراض، التى تثمرها المادية، وليس ما ذكرناه على سبيل الحصر. فإلى الإيمان الصادق وإلى العمل الصالح وإلى الربانية.