بقلم: صادق أمين

كان "زيد" وصديقه يعملان معًا في شركةٍ من الشركات، وكانا ممن يُحسبون على أصحاب التوجه الإسلامي من حيث المحافظة على أداء الصلوات، والالتزام إلى حدٍّ ما بضوابط الإسلام وهديه.

وفي يوم من الأيام، وبينما كانا يقومان بأداء عمل مشترك إذ حدث خطأ ما، كان زيد هو المتسبب فيه، فلامه صديقه على خطئه، وخاصةً أن وضعه في الشركة قد يتأثر بسبب هذا الخطأ، إلا أن زيدًا لم يعترف بخطئه، بل واعتبر أن صديقه هو المخطئ، وأراد أن يؤكد ذلك له فاقترح عليه أن يقوم (فلان) صديقهما بالتحكيم بينهما وتحديد المخطئ، فذهبا إليه وقصا عليه ما حدث، فكان قراره بأن زيدًا هو المخطئ.

استشاط زيد غضبًا واعتبر ذلك التحكيم "محاباة" لصديقه فطلب أن يحتكما إلى آخر، وتم له ما أراد ليكون قرار الحكم الثاني بأنه هو المخطئ.. ازداد غضب زيد وطلب حكما ثالثًا بعد أن اتهم الحكم الثاني أيضًا بالمجاملة والمحاباة لأنه تربطه بصديقه صلة قديمة و...، فذهبا للثالث ويستمع إليهما بإمعان ثم يكون حكمه مثل سابقيه بأن زيدًا هو المخطئ وعليه الاعتذار لصديقه... فهل رضخ زيد لهذا الأمر؟!

للأسف لم يحدث هذا بل ازداد غضبه واتهامه للجميع بمجاملة صاحبه ومحاباته، وأن هناك مصالح بينهم وبينه تدفعهم للانحياز له.

هذه قصة حقيقية، وليست من نسج الخيال، ليبقى السؤال: ما الذي يدفع زيدًا للتشبث بموقفه الرافض للاعتراف بخطئه- الظاهر البين- الذي لم يختلف عليه اثنان، وخاصةً أن اعترافه بخطئه لن يترتب عليه عقوبات تصيبه؟

هل لأنه لا يريد أن يظهر بمظهر المخطئ؟!

هل لأن نفسه تأبى عليه الاعتراف بذلك؟!

هل لأنه يعتبر هذا الاعتراف منقصة في حقه، وحطًّا من قدره؟!

بلا شك هناك سبب داخلي في ذات زيد دفعه لاتخاذ هذا الموقف الذي تكرر منه في مواقف كثيرة سابقة، فتشبثه برأيه، وعدم اعترافه بخطئه بهذه الطريقة يعكس خللاً في تعامله مع نفسه، فبدلاً من أن يقودها إلى التواضع وخفض الجناح للآخرين والاعتراف بالخطأ عند الوقوع فيه، والاعتذار عنه.. بدلاً من أن يقوم بذلك، حدث العكس فقادته نفسه إلى الشعور بالعزة الزائفة والتميز على الآخرين، فكان منه ما كان في الموقف السابق وغيره من المواقف المشابهة.

هذه للأسف ليست مشكلة زيد فقط، ولكنها مشكلة متكررة، قد نراها في أماكن كثيرة، ونشاهد معها آثارًا سلبية خطيرة.

من هنا تظهر قيمة وأهمية التعرف على النفس، وضرورة جهادها وتزكيتها.

ما النفس؟

من تعريفات النفس أنها مَجْمَع الشهوات داخل الإنسان؛ لذلك فمن طبيعتها أنها تطمح دومًا لتحقيق ما تهوى وترغب، وتريد أن يكون لها حظ ونصيب في كل عملٍ يقوم به الإنسان دون النظر إلى عواقب ذلك، كالطفل الذي يقوم بالضغط والإلحاحِ على أبويه للحصول على شيءٍ قد يكون فيه ضرره، فالنفس كما وصفها القرآن ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (يوسف: من الآية 53)، وهي لا تأمر بالسوء لحبِّ السوء في ذاته، ولكن ظنًّا منها بإمكانية تحصيل الشهوة منه.

ومن صفاتها أنها شحيحة تحب الاستئثار بكل شيءٍ فيه نفع لها ولو كان نفعًا محدودًا.. قال تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ﴾ (النساء: من الآية 128).

لديها القابلية للفجور والطغيان إذا تركها صاحبها بدون ترويضٍ وتربيةٍ ومتابعة؛ ولديها كذلك القابلية للاستكانة والتطويع إذا ما رُوضت وزكيت ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾ (الشمس).

أشد ما يُسعدها شعورها بالتميز عن الآخرين، وأشد ما يشقيها ويحزنها شعورها بالنقص عنهم.

وهي ميدان التكليف.. مَن يُزكيها يفلح ويفوز، ومَن يتركها دون ترويض يخيب ويخسر.. ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).

ويكفي في بيان قوة طغيانها عندما تُترك بدون تزكية وتربية ما فعلته مع قوم ثمود عندما أبت عليهم نفوسهم الإيمان بالآية العظيمة (الناقة)، بل ودفعتهم إلى قتلها ليحق عليهم العذاب الوبيل ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)﴾ (الشمس)، وكذلك ما فعلت بابن آدم عليه السلام ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾ (المائدة: من الآية 30).

أقسام هوى النفس

النفس تهوى وتميل دومًا إلى تحصيل الشهوات، وهذه الشهوات تنقسم إلى قسمين: قسم جليٌّ، وقسم خفيٌّ، فالشهوة الجلية: هي اللذة الناتجة عن الطعام والشراب و... إلخ.

أما الشهوة الخفية: فهي تلك اللذة الناتجة عن مدح الناس وثنائهم، وكذلك الشعور بالعلو والتميز على الآخرين، وارتفاع المنزلة عندهم، والتقدم عليهم.

ولأن النفس محبوبة، وما تدعو إليه محبوب نجد الكثير من الناس لا ينتبه لخطورتها، بل ويسترسل مع هواها في تحصيل الشهوات- وخاصةً الخفية- دون أن يُدرك أنه بذلك يخونها ويظلمها عندما يتبع هواها، ويساهم في طغيانها، ويقترف من أجلها الذنوب والمخالفات التي تستدعي وتستوجب العقاب الإلهي في الدنيا والآخرة ﴿وَمَا ظَلَمَهُمْ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: من الآية 33).

البعض قد يستشعر أهمية المعرفة، فينمي عقله بالعلوم النافعة، وقد ينتبه لقلبه فيتعاهده بالأوراد التي تزيد الإيمان، ولكنه ينسى أن بداخله مَن يتربص بكل أعماله ليأخذ نصيبه وحظه ولذته منها، فيتعرض بذلك عمله لخطر عدم القبول.. إنها نفسه التي بين جنبيه.

الشهوة الخفية:

إذن فالنفس هي العقبة الكئود بيننا وبين الله عز وجل، ولقد خلقها الله- عزَّ وجل- بهذه الصفات ليختبر مدى صدق عبوديتنا له، فلولا وجودها لما وجد العبد أي مشقةٍ في القيام بالطاعة، والإخلاص لله عزَّ وجل.

وشهوات النفس الجلية قد ضبطها الشرع وحددها من حيث الحلال والحرام والمباح والمكروه؛ لذلك فمن السهل على صاحب الإيمان الحي أن يلتزم- بعون الله- بهذه الضوابط.

أما الشهوات الخفية فمع تحذير الشرع الشديد من الاسترسال معها إلا أن الكثيرين لا ينتبهون إلى هذا التحذير ولا يتعاملون معه مثل تعاملهم الحذر والمنضبط مع الشهوات الجلية؛ وذلك لأن الشهوةَ الخفية ألذ وأحب إلى النفس من الشهوة الجلية.

ومن أهم الشهوات الخفية التي تُسكر النفوس، وتجعلها في حالةٍ من السعادة والنشوة: الشعور بالرضا عن النفس، والتميز عن الآخرين، وعلو المنزلة عندهم، وإذا أردت تخيل هذه المشاعر فما عليك إلا أن تتذكر حالك عندما تتعرض للمدح من غيرك.

ومن صور الشهوات الخفية التي تحرص عليها النفس: علو المنزلة عند الناس من خلال تحسين وتجويد العمل أمامهم، وذكر ما خفي من الأعمال الإيجابية لهم، كل ذلك قد يفعله المرء من أجل استنطاق مدحهم وثنائهم عليه، وعلو المنزلة عندهم، ومن ثم استجلاب الشعور بالرضا عن النفس.. وما أدراك ما شعور الرضا عن النفس وما فيه من لذةٍ وحلاوة!!.

وليس حرص المرء على إظهار عمله أو التحدث عنه هو وحده الذي يستجلب به مشاعر الرضا عن نفسه، بل هناك ما هو أخطر من ذلك لإمكانية ملازمته لكل عمل- في السر والعلن- ألا وهو إعجاب المرء بعمله أو إمكاناته، واستعظامه لهما.

هذا الأمر إذا ما تجاوب معه الإنسان واستسلم له فإنه يؤدي به إلى الغرور، والانخداع بنفسه ويؤدي به كذلك إلى الكبر والتعالي على الآخرين، ورفض الانصياع للحق والاعتراف بالخطأ، ويكفي أن إبليس رفض أمر الله عز وجل بالسجود لآدم بسبب تمكن هذا الأمر منه ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ (الأعراف: من الآية 12).

خطورة الرضا عن النفس والإعجاب بها

الرضا عن النفس والإعجاب بها من أمراض القلوب، وهو يحبط العمل الملازم له، ويُعرِّض صاحبه لمقتِ الله.. قال صلى الله عليه وسلم: "النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت"(1)، وقال: "من تعظَّم في نفسه، واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان"(2).

وهو من المهلكات التي تُهلك المرء، قال صلى الله عليه وسلم: "فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه"(3).

وقيل للسيدة عائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئًا؟ قالت: إذا ظنَّ أنه محسن.

والعُجب يؤدي إلى الخذلان وقلة التوفيق.. قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ (التوبة: من الآية 25).

وعندما توالت انتصارات خالد بن الوليد- رضي الله عنه- في العراق، بعث إليه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- برسالة يهنئه على النصر ويحذره من العُجب فقال له: "فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تُدَّل بعمل فإنَّ الله له المن وهو ولي الجزاء"(4).

---------------

الحواشي:

(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان- 7254

(2) صحيح، رواه الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وأورده الألباني في صحيح الجامع- 6157

(3) حسن: أخرجه الطيالسي عن ابن عمر، وأورده الألباني في صحيح الجامع- 3045

(4) الأخفياء لوليد سعيد باحكم ص 129- دار الأندلس الخضراء- جدة- نقلا ًعن تاريخ الطبري 3/ 385