حق أخيك في مالك

اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين، وكما يقتضي النكاح حقوقاً يجب الوفاء بها قياماً بحق النكاح. كما سبق ذكره في كتاب آداب النكاح. فكذا عقد الأخوة، فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء وبالإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف وذلك يجمعه ثمانية حقوق:

1- حق أخيك في مالك

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى"، وإنما شبههما باليدين لا باليد والرجل لأنهما يتعاونان على غرض واحد، فكذا الأخوان إنما تتم أخوتهما إذا ترافقا في مقصد واحد فهما من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السراء والضراء والمشاركة في المآل والحال وارتفاع الاختصاص والاستثمار. والمواساة بالمال مع الأخوة على ثلاث مراتب:

أدناها: أن تنزله منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك، فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة.

الثانية: أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال قال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه.

الثالثة: وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك وهذه رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضاً، كما روي أنه سعى بجماعة من الصوفية إلى بعض الخلفاء فأمر بضرب رقابهم وفيهم أبو الحسن النوري فبادر إلى السياف ليكون هو أول مقتول فقيل له في ذلك فقال: أحببت أن أؤثر إخواني بالحياة في هذه اللحظة، فكان ذلك سبب نجاة جميعهم قي حكاية طويلة، فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين، فقد قال ميمون بن مهران: من رضي من الإخوان بترك الإفضال فليؤاخ أهل القبور.

وأما الدرجة الدنيا فليست أيضاً مرضية عند ذوي الدين، روي أن عتبة الغلام جاء إلى منزل رجل كان قد آخاه فقال أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف، فقال خذ ألفين فأعرض عنه وقال آثرت الدنيا على الله أما استحييت أن تدعي الأخوة في الله وتقول هذا، ومن كان في الدرجة الدنيا من الأخوة ينبغي أن لا تعامله في الدنيا. قال أبو حازم: إذا كان لك أخ في الله فلا تعامله في أمور دنياك وإنما أراد به من في هذه الرتبة.

وأما الرتبة العليا: فهي التي وصف الله تعالى المؤمنين بها في قوله: "وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" أي كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض، وكان منهم من لا يصحب من قال: نعلي، لأنه أضافه إلى نفسه. وجاء فتحي الموصلي إلى منزل لأخ له وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته فأخبرت الجارية مولاها فقال: إن صدقت فأنت حرة لوجه الله سروراً بما فعل. وجاء رجل إلى أبو هريرة رضي الله عنه وقال: إني أريد أن أؤاخيك في الله فقال: أتدري ما حق الإخاء? قال: عرفني، قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني، قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد? فاذهب عني. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل: هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه? قال: لا قال: فلستم بإخوان. ودخل قوم على الحسن رضي الله عنه فقالوا: يا أبا سعيد أصليت? قال: نعم، قالوا: فإن أهل السوق لم يصلوا بعد، قال: ومن يأخذ دينه من أهل السوق? بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم! قاله كالمتعجب منه. وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم رحمه الله وهو يريد بيت المقدس فقال: إني أريد أن أرافقك، فقال له إبراهيم: على أن أكون أملك لشيئك منك: قال: لا، قال: أعجبني صدقك، قال: فكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله إذا رافقه رجل لم يخالفه وكان لا يصحب إلا من يوافقه، وصحبه رجل شراك فأهدى رجل إلى إبراهيم في بعض المنازل قصعة من ثريد ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شراك وجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشراك? قال: ذلك الثريد الذي أكلته إيش كان? قال: كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة. قال: اسمح يسمح لك. وأعطى مرة حمارًا كان لرفيقه بغير إذنه رجلاً رآه فلما جاء رفيقه سكت ولم يكره ذلك. قال ابن عمر رضي الله عنهما أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: أخي فلان أحوج مني إليه فبعث به إليه فبعث ذلك الإنسان إلى آخر فلم يزل يبعث به من واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. وروي أن مسروقًا أدان دينًا ثقيلاً، وكان على أخيه خثيمة دين قال: فذهب مسروق فقضى دين خثيمة وهو لا يعلم وذهب خثيمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم، ولما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس فقال عبد الرحمن: بارك الله لك فيهما فآثره بما آثره به، وكأنه قبله ثم آثره به وذلك مساواة والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة. وقال أبو سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها لي لجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له. وقال أيضًا: إني لألقم اللقمة أخاً من إخواني فأجد طعمها في حلقي.

ولما كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي رضي الله تعالى عنه: لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين. وقال أيضًا: لأن أصنع صاعًا من طعام وأجمع عليه إخواني في الله أحب إلي من أن أعتق رقبة. واقتداء الكل في الإيثار برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه دخل غيضة مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين أحدهما معوج والآخر مستقيم فدفع المستقيم إلى صاحبه، فقال له: يا رسول الله كنت والله أحق بالمستقيم مني فقال: "ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من النهار إلا سئل عن صحبته هل أقام فيها حق الله أم أضاعه".

فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر يغتسل عندها فأمسك حذيفة بن اليمان الثوب وقام يستر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اغتسل ثم جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب وقام يستر حذيفة عن الناس فأبى حذيفة وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تفعل فأبى عليه السلام إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما اصطحب اثنان قط إلا كان أحنهما إلى الله أرفقهما بصاحبه"، وروي أن مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائبًا فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت سرير الحسن فجعل يأكل فقال له مالك: كف يدك حتى يجيء صاحب البيت، فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل، وكان مالك أبسط منه وأحسن خلقاً فدخل الحسن وقال: يا مويلك هكذا كنا لا يحتشم بعضنا بعضًا حتى ظهرت أنت وأصحابك.

وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة كيف وقد قال الله تعالى: "أو صديقكم" وقال: "أو ما ملكتم مفاتحه" إذ كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض له التصرف كما يريد، وكان أخوه يتحرج عن الأكل بحكم التقوى حتى أنزل الله تعالى هذه الآية وأذن لهم في الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء.

-----------
من كتاب "إحياء علوم الدين" (في حقوق الأخوة والصحبة) للإمام أبي حامد الغزالي