بحث فقهي اقتصادي

أولاً: النصوص في تحريم الربا:

جاء القرآن الكريم بتحريم الربا، ونهى الناس عن التعامل به، وبيَّن أنه ضار بهم غير مفيد في التعامل، بل يجلب عليهم وعلى أموالهم النقص والبوار، وأنهم سيحاسبون على هذه المعاملة في الآخرة كذلك، وينعى على الأمم التي تعاملت به من قبل.

1- فالآية الكريمة في سورة آل عمران تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)﴾ (آل عمران).

'2- والآية الكريمة في سورة النساء تبيِّن أن اليهود نُهوا عن الربا، ولكن أكلوه وتعاملوا به، فعاقبهم الله عليه؛ فذلك قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)﴾ (النساء).

3- وفي سورة الروم يقول القرآن: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ (39)﴾ (الروم).

4- ولا خلاف بين العلماء في أن من آخر آيات القرآن نزولاً آيات الربا في سورة البقرة، وقد عرضت له بشيء كثير من التفاصيل والتحديد، وتلك هي قول القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)﴾ (البقرة).

أخرج البخاري عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا. وأخرج البيهقي عن عمر مثله. قال في الإتقان: والمراد بها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)﴾ (البقرة). وعن أحمد، وابن ماجه عن عمر: (من آخر ما نزل آية الربا). وعن ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر فقال: "إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا".

وقد ورد من طرق كثيرة أن بين نزول هذه الآيات وبين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم واحدًا وثمانين يومًا، وفي بعضها تسع ليال.

وإنما أوردنا هذه الروايات؛ ليعلم أن هذه الآية هي التي تقيد ما سبقها من الآيات التي لا تحديد فيها.

وقد وردت الأحاديث الكثيرة بالنهي عن الربا، والتنفير منه، وبيان أضراره، ونهي المسلمين عن التعامل به؛ وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الربا: آكله وموكله وشاهديه وكاتبه" من حديث البخاري ومسلم، وهو من السبع الموبقات، كبائر المعاصي في حديث آخر، وهكذا.

ثانيًا: تحديد المعنى الشرعي للربا

من النصوص السابقة لفظًا وروحًا، نعلم أن تعريف الربا في الإسلام هين واضح، لا جدل فيه، وهو "ما زاد على رأس المال"، وسمه بعد ذلك ما شئت: سعر الفائدة، أو الربا، أو ثمن الأجل؛ فتلك أسماء لا تغير حقيقة المسمى، وذلك مأخوذ من قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: من الآية 279).

وأكد هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع- وهي من آخر خطبه وبياناته-: "ألا وإن كل ربا موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب".

وروى ابن جرير عن السدي: أن الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب عم النبي، ورجل من بني المغيرة سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو، هم: بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة: من الآية 278).

وأخرج عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمر بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كبير، فأتاهم بنو عمر يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن رضوا وإلا فأذنهم بحرب".

فها نحن نرى أن كل ما زاد على رأس المال قد وضع، ولم يجز للمقرض أن يأخذ إلا رأس ماله فقط.

وأما الاحتجاج بقيد الأضعاف المضاعفة في آية آل عمران، فهو احتجاج في غير موضعه؛ فإن ذلك تصوير للظلم الفاحش في الربا، ولم يرد به تحديد معناه، على أن آية البقرة آخر الآيات نزولاً فالتحديد لها، وقد جرى عليها عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وهم أعرف الناس بمدلولات القرآن؛ فلا محل بعد ذلك للجدل والخلاف.

ثالثًا: الصور التطبيقية المنصوص على أنها ربا

وردت النصوص في عدة صور بأنها ربا محرم شرعًا؛ فمن هذه الصور:

1- القرض بالزيادة على رأس المال، وهو: ربا الجاهلية المنصوص عليه في الآيات الكريمة، والمعبر عنه في كتب الفقه الإسلامي: (أَنظِرني أزدْك) فهذا ربا محرم بالإجماع، وقد سبق دليله، ولعل هذا هو الربا الشائع الآن في المعاملات الاقتصادية العصرية.

2- النقص في المال في نظير تقريب الأجل، وهو المعبر عنه في عرف الفقهاء "ضع وتعجل" وهو محرم كذلك، وقد مر الخلاف فيه عن بعض الفقهاء.

3- الربا في البيع، وفيه تفصيل.

‌أ- الأصناف التي نص على أنها ربوية ستة، جمعها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينًا بعين. فمن زاد أو ازداد فقد أربى".

ويشير إليها كذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء" أي إلا يدًا بيد.

‌ب- هل لا يكون الربا في البيع إلا في هذه الأصناف على اعتبار أنها منصوص عليها أم يكون في غيرها قياسًا عليها؟ وهل علة القياس والتحريم الكيل والوزن والجنس أم بعض هذه؟ أم يعتبر معها الطعم والادخار أو لا يعتبر ذلك؟ كل هذا موضوع خلاف مفصل في كتب الفقه الإسلامي.

‌ج- يحرم في الأصناف الستة، وكل ما يلحق بها- عند من ألحق بها غيرها- (النَّساء) وهو التأخير في التقابض بالإجمال، والدليل على ذلك حديث عمر رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة".

‌د- ويحرم في هذه الأصناف الستة، وما يلحق بها- عند من ألحق بها غيرها- التفاضل، وهو:

الزيادة في المقدار من غير تأجيل عند الجمهور من الفقهاء، ودليلهم في ذلك حديث عبادة، وأحاديث أخر كثيرة. وخالف في ذلك ابن عباس، وبعض أهل الفقه مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا في النسيئة"، ثم صح عنه أنه رجع عن رأيه هذا، وتبع رأي الجمهور في القول بتحريم التفاضل.

هـ- لفقهاء المسلمين في بيان الأصناف والعلل والملحقات، وما إلى ذلك؛ تفصيلٌ واسعٌ، وأظن أن هذا النوع من التعامل ليس كثير التداول الآن في صور المعاملات العصرية.

4- بيوع الآجال: ومنها أن يبيع الرجل نقدًا بثمن، وإلى أجل بثمن أكثر منه، أو أن يبيع السلعة بثمن إلى أجل، ثم يشتريها نقدًا بثمن أقل منه في صور كثيرة مفصلة في كتب الفقه.

وهذه البيوع محل خلاف في الحكم بين فقهاء المسلمين؛ فمنهم من اعتبرها ربا، واستدل بحديث عائشة رضي الله عنها، وقد قالت لها امرأة: "يا أم المؤمنين إني ابتعت (أي اشتريت) من زيد عبدًا على العطاء بثمانمائة درهم، فاحتاج إلى ثمنه، فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، قالت: أرأيت إن تركت وأخذت الستمائة دينار؟ قالت: نعم فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف"، ومنهم من اعتبرها بيعًا لا ربا فيه ولا حيلة، وأخذ بالقياس، ولم يثبت عنده حديث عائشة.

ملاحظة: ولعل ما يجمع كثيرًا من الصور التطبيقية المنصوص عليها ما ذكره بعض الفقهاء من أن أصول الربا في الإسلام خمسة:

أنظرني أزدك- ضع وتعجل- والتفاضل- والنَّساء- وبيع الطعام قبل قبضه.

رابعًا: صور تطبيقية لم ينص عليها:

وهناك صور أخرى للتعامل لم ينص عليها، أوجدها اتساع العمران، وتشابك المصالح، واستبحار الاقتصاد عند الأفراد والأمم.

مثال ذلك: صناديق التوفير، وما يؤخذ من الفائدة عن الأموال المودعة فيها، وشركات التأمين، وسلفيات الصناعة والتجارة والزراعة، وقطع السندات والكمبيالات، وهكذا.

من هذه الصور: مثل هذه الطرائق التي أوجدتها الحضارة الحديثة، منها: ما هو ربا لا شك فيه فهذا يحرم قطعًا، ويبحث عن وسائل أخرى تؤدي فوائده، وتخرج عن نطاق التحريم، ومنه: ما هو موضع شبهة قد يكون بيعًا، وقد يكون شركة، وقد يكون إجارة، وقد يكون ربا، وباب التطبيق والاجتهاد واسع كل السعة في الإسلام.

وهناك أصل جليل ينتظم كثيرًا من فروع الحياة وشئونها في كل نواحيها هو: إباحة النظر في المصالح المرسلة للإمام، وتقرير ما يناسب حال الناس منها، ويحظر ما يتعارض مع هذه المصالح في حدود القواعد الشرعية العامة.

مثال هذه المحدثات وأنواع التعامل الجديدة تختلف فيها أحكام الأفراد قطعًا بحسب ما عندهم من سعة العلم.

ولأجل أن ترتكز على أساس من المصلحة العامة لا بد من تأليف لجنة فنية من علماء الشريعة والاقتصاد تقلب وجوه الرأي، وتطبق هذه الطرائق على ما عندها من العلم، ثم تصدر للناس حكمًا يكون هو المعول عليه والمأخوذ به.

خامسًا: تبرير نظرة الإسلام للربا وبيان حكمة التحريم

ليس الإسلام الدين الوحيد الذي انفرد بتحريم الربا، بل سبقته في ذلك الشرائع القديمة، وقد جاء القرآن مشيرًا إلى هذا بالنسبة لليهود، فقال: ﴿وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ (النساء: من الآية 161)، وأن كل القوانين الحديثة التي أباحته قد اشترطت فيه عدم الفحش والزيادة البالغة؛ مما يدل على شعور المقنن بما في الربا من حيف وإرهاق.

وإذا عرفنا أن المهمة الأولى للأديان هي: تزكية النفوس وتطهير الأرواح، والبعد بها عن حدة الانغماس في المادة، وعن الأخذ بمقاييس المادة وحدها؛ فليس يعيش الإسلام آلة مادية، لا عاطفة لها ولا روح بها، بل هو روح وإنسانية قبل أن يكون جسمًا ولحمًا ودمًا؛ ولهذا عُنيت الشرائع بالنفس البشرية كل العناية ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس)، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)، ومن العبث أن نفرض الحياة البشرية مادة، لا تسمو إلا بالأرقام وقواعد الميكانيكا.

إذا عرفنا هذا، عرفنا أن الإسلام لا يقيس الأمور في تشريعه بالمقياس المادي فقط، بل يضع في حسابه كذلك المعنى الروحي الإنساني الذي تهذب به النفوس وتسمو به الأرواح، وما من شك في أن النزول عن فائدة رأس المال للمحتاج إليه مقاومةٌ للنفس وتهذيبٌ لها، وإيثارٌ للمعنى الإنساني العام عن المعنى الفردي الخاص، ويقابله كذلك النزول عن شيء من المال الخاص للفقير المحتاج دون مقابل مادي؛ تطهيرًا وتزكية كذلك.

ففرض الزكاة وتحريم الربا مقاومةٌ للمعنى المادي في النفس البشرية، وإيثارٌ للإنسانية العامة على الفردية الخاصة.

قد يكون في ذلك شيء من الغرم المادي، وإن كان في هذا نفسه نظر، ولكن ليكن هذا؛ فإن ما يربحه الإنسان من تزكية نفسه وكسب قلب أخيه أفضل عند الشريعة من هذه الدريهمات التي يبيع لها أسمى العواطف بين بني البشرية: الرحمة والحب.

ولهذا لم يقف الإسلام- كما قدمت- عند حد تحريم الربا؛ بل أوصى بالانتظار حتى يجد المدين السعة فيسدد ما عليه، بل أوصى بما هو أكثر من ذلك: أن يتصدق الدائن برأس المال على المدين الذي لا يجد سبيلاً إلى السداد؛ فذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)﴾ (البقرة)، فالذين يعيبون الأديان في تحريم الربا غافلون عن مهمة الأديان في إصلاح البشرية والسمو ببني الإنسان.

والذين يريدون منها أن تنزل على حكم الجشع المادي في نفوس الذين لم يتهذبوا بعد، يريدون منها أن تنزل لهم عن أهم أعمالها في الحياة، وأن تعارض الحكمة في وجودها، ومثلهم في ذلك كمثل الذي يريد من الطبيب أن يدع المريض، بل أن يمرض مثله؛ لأن الداء قد أخذ من جسمه مأخذه.

هذا من الوجهة الروحية البحتة، ثم نعود فنلقى بعض نظرات على حكمة تحريم الربا من الوجهة المادية.. فماذا نجد؟

1- أنه يحمل على التواكل والكسل؛ فإن من الناس من يجعل كل عمله في الحياة الإقراض بالربا.

2- ونجد: أنه يعطل النقد عن التداول، وكثرة تداول النقد في السوق هي روح النشاط الاقتصادي.

3- ونجد: أنه غير عادل؛ فإننا نفرض المدين رابحًا دائمًا، وبذلك نبرر ما نأخذ من زيادة على رأس المال، ونقول: إنها بعض الربح الذي جاء عن هذا المال، فليس في ذلك ظلم، مع أن هذا المدين قد يخسر بسبب العمل في هذا المال؛ فكيف يكون الموقف إذن؟ وهل من العدل أن نأخذ منه الفائدة في الوقت الذي سيدفع هو الخسارة الكاملة؟

4- ونجد: أنه يلقي العداوة والبغضاء في النفوس؛ فيساعد على الجريمة والثورة.

هذه بعض الأضرار المادية الملموسة، فضلاً عن انحطاطه بالمعنى الإنساني إلى هذا الدرك الواطئ من دركات المادة البحتة؛ فهل يعيب إنسان بعد هذا على الشرائع السماوية أنها حرمت الربا؟! أم من العدالة أن نعيب على البشرية المقيدة بالشهوات والأطماع أنها عاجزة عن السمو إلى هذه النظرات الكريمة؟!

سادسًا: كيف نعالج داء الربا مع عدم الاختلال الاقتصادي؟:

يتصور كثير من الاقتصاديين-ولهم بعض العذر- أن من المستحيل أن يسير النظام الاقتصادي على غير أساس الفائدة، وحجتهم في ذلك؛ تركز كل الأعمال الاقتصادية الحالية على هذا النظام، وارتباط بعضها ببعض؛ مما يجعل من المستحيل على دولة من الدول أن تخرج على هذا النظام.

هذا كلام له دليله العملي القائم، ولقائليه بعض العذر؛ لأنهم ألفوا هذا النظام، ولكن هل من الصواب أن يعتقد الناس أن أي نظام من النظامات لا يمكن تغييره مهما ترسخت أصوله وتثبتت قوائمه؟ فكم من النظم خرجت عليها الإنسانية، واستبدلت بها غيرها، وظروف الحياة قُلَّب، وليس هذا في النظام الاقتصادي وحده؛ بل هو في كل شئون الدنيا من سياسية واجتماعية واقتصادية، بل وفي النظريات العلمية الكونية التي تعتمد على الأرقام والتجارب المحسوسة؛ فهل يقال بعد هذا: إن نظام الفائدة في الاقتصاد لا يمكن العدول عنه؟ ومتى رضي العقل البشري بهذا العجز واستكان إلى هذا الخمول؟ وما خلق إلا ليجاهد ويكافح في سبيل الحق والخير، وتلك مهمته وخاصته.

أعتقد أنه لمن الممكن الميسر أن يعالج النظام الاقتصادي العام علاجًا يشفيه من داء الربا، لا أقول: إن جريمة الربا ستُمحى من نفوس البشر؛ فإنه متى كانت هناك بشرية فهناك جرائم ولا بد، حتى يتطهر الناس بالروحانية الكاملة، فسيظل- مهما كان من علاج- أفراد يرابون، ولكني أقول: إن النظام العام في الاقتصاد يمكن أن يقوم على غير أساس الربا (الفائدة) إذا صدق العزم، واقتنع الاقتصاديون بشناعة هذه الجريمة.

لقد كان نظام الاسترقاق ضرورة بشرية في عرف الإنسان، وما كان يشعر أحد بانحطاطه بالإنسانية وبخسه قيمتها، وما كان يجرؤ مشرع على أن يمسه أو ينال منه؛ حتى هذه الأدمغة الكبيرة من الفلاسفة لم تستطع إلا الاعتراف به وبضرورته، حتى جاء الإسلام فحاربه، وسد منافسه، ووقف في طريقه، وقامت الدول الحديثة تحاربه كذلك؛ فنجحت، وتحررت نفوس وأرواح، وتطهرت الإنسانية من عار لصق بها منذ القدم.

ولكن الإنسانية التي تحررت من قيود الاسترقاق الأدبي وقفت أمام عبودية المال وشهوة المال، ورضيت بهذه القيود الربوية الثقيلة ولم تتحرر منها بعد؛ فلو هيأ الله للإنسانية أمة فاضلة توقظ ضميرها، وتفتح عينها على فظاعة هذا الجرم الشنيع، وتأخذ في محاربته بالحزم لاعتدل النظام الاقتصادي العالمي ولم يختل التوازن.

ولا نذهب بعيدًا؛ فقد وضع الإسلام علاج ذلك بالزكاة، ولأمر اقترن الربا بالزكاة في كثير من الآيات القرآنية، فليؤخذ من مال الزكاة وصندوقها ما يغني المقرضين عن الربا.

وعلاج فني آخر يراه بعض الاقتصاديين: ذلك أن المهيمن على السوق الاقتصادية في نظامنا الحديث؛ المصارف المالية، وهي التي تعتمد أكثر ما تعتمد على الفوائد إيداعًا وإقراضًا، وفي وسع هذه المصارف أن توظف معظم ودائع العملاء في الأسهم، فتستفيد وتفيد، وتربح لنفسها ولعملائها وتقاسمهم هذا الربح، وتفيد السوق الاقتصادية فائدة جمة، وتستطيع المصارف أن تجد من أبواب الإيراد، وخدمة الاقتصاد ما لا يقع تحت حصر لتوظيف الأموال في التجارة والصناعة، والعمولة والوساطة في بيع المحاصيل، وبيع العملة الأجنبية، وصرف الشيكات، وتأجير الخزن، وحفظ الودائع وغيرها، وهذا من حيث إفادة نفسها وعملائها.

ومن حيث الإقراض للمحتاجين للمال؛ ففي وسعها أن تتخذ لهذا الإقراض بصورة تجعله من صلب الشركة، أو من باب العوض، أو نحو ذلك، وبهذا تستغني تمام الاستغناء عن نظام الفائدة.

وبعد، فحسبنا دليلاً على فساد التعامل بالفائدة هبوط سعرها، وبخاصة في أيام الكساد النسبي حتى صارت اليوم في بنك إنجلترا 2 في المائة، وذلك مما يخفف بعض أضرار الربا، ويجعل الناس لا يشعرون بها شعورًا قويًّا، ولكن الإسلام لا يعرف أنصاف الحلول، بل هو حازم فيما يريد، عملي يواجه الأحكام في صراحة ووضوح؛ فهو يحرم الربا من أساسه، وإن كان ذرة على حمل.

ولا شك أن تعامل المصريين بالربا، وبخاصة مع الأجانب منهم قد أضر بالدولة والأفراد ضررًا نشكو منه مر الشكوى.

وإنا لنأمل أن يثابر أساتذة الاقتصاد على درس هذه الموضوعات دراسة وافية شافية؛ حتى يرفعوا عنا هذا الكابوس الربوي، ويقدموا بذلك لأمتهم وللعالم كله أجلَّ الخدمات.