حسبه ما كتب عنه.. كتب عنه كبار الكتاب في مصر.. وفي الخارج.. وكان من بينهم الكاتب الراحل "إحسان عبدالقدوس"، ورغم بعد الشقة بين "البنا" و"إحسان"، فلم يستطع أن يخفي إعجابه بـ"البنا"- رحمه الله- حتى قال عنه مقولته المشهورة: "لو عطس "البنا" في القاهرة لقال له الأخ في أسوان: يرحمك الله!".

ولقد كتبت عنه.. فما استطعت أن أزيد على ما كتب من قبل إلا كلمات قليلة.. (كتاب الدعوة والداعية- دار النشر الإسلامية- القاهرة).

ولقد طُلب إلي أن أكتب عنه، لكنني هذه المرة سأتبع أسلوبًا جديدًا.. بمشيئة الله سأكتب عنه من خلال آثاره أو من خلال ثماره! إن الشجرة قد تعجب الناظر أو الرائي، لكنه إذا اقترب منها وجدها بغير ثمر، أو وجد لها ثمار غير طيبة وغير يانعة، وإن الشجرة قد لا تعجب الناظر أو الرائى، لكنه إذا اقترب منها شاهد منها ثمارًا يانعة.. فإذا ذاق وجدها كذلك ذات مذاق جميل ولذيذ!

ولقد ضرب الإسلام مثلاً بشجرتين: قال في الأولي: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم: 23- 24)، وقال في الثانية: ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ (إبراهيم: 25).

فمن أي الشجرتين كان "البنا"؟ لعل ما كُتب يثبت أنه بشهادة الجميع شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، لكني من خلال ما أقول أبحث في الجزء الأخير: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، أبحث في الأصل من خلال الفرع، أو من خلال الثمار، ومن خلال بحث موضوعى هادئ لثمار "البنا" أقول بعون الله:

1- إن الشجرة لا تزال تثمر.. رغم مضى أكثر من سبعين عامًا.. وهو أمر غريب.

2- إن الثمر لا يقل كمًّا، ولا يضعف كيفًا، وهو ظاهرة جديدة تستحق البحث والاهتمام؛ إذ إن المتعارف عليه في عالم الطبيعة أنه كلما تقادم على الزرع الزمن قل ثمره وضعف نتاجه، لكن شجرة "البنا" عكس ذلك.. وأنا على ذلك من الشاهدين، ولا أزكي نفسي على الله.

3- ولقد شهدت من ثمار البنا أجيالاً ثلاثة عايشتها وعشت مع أكثرها سنوات! وأستطيع أن أقرر- بضمير القاضي، وحيدة الأستاذ، وعمق الباحث- ما يلي:

أ- أن الجيل الأول من ثمر "البنا"- رحمه الله- اتسم بالصدق والجهاد، فكان صورة حية لشعارات رفعها "البنا":

- الله غايتنا.. فجعل الله غاية له في كل عمله، بل كل حياته.. ولقد عشت مع هذا الجيل؛ ألمس الصدق في كل تصرفاته، وألحظ الإخلاص في كل حركاته وسكناته.

- الرسول قدوتنا.. يتحرون طريق الرسول- صلى الله عليه وسلم- قدر ما يستطيعون، ولقد شهدتهم في معسكر صنعته لهم الحكومة الظالمة، واستمر بضع سنين- بالنسبة لي- وانقلب السجن الذي أرادته الحكومة عذابًا.. إلى معسكر يمارس فيه منهج تربوي، وبرنامج إسلامي.. يتجدد يوميًّا، وشهريًّا، وسنويًّا، وكان من ثماره أخ دخل المعسكر لا يقرأ ولا يكتب، بلغ بعد عشرين عامًا من السجن أن يتخرج داعيًا، بل موجهًا للدعاة والأئمة في بلد عربي، وزرته ونزلت في بيته، ورأيت فضل الله عليه، بل على الدعوة من خلاله، وفي اليوم التالي نحر خروفين ليدعو كبار القوم، ومن بينهم المستشار السياسي لرئيس الدولة هناك!

- القرآن دستورنا.. ولقد حاولوا أن يتمثلوه في أنفسهم، وطالبوا بتطبيقه في بلدهم، ودفعوا الثمن لهذه المطالبة سنين طوالاً قضوها في السجون، ورجالاً كرامًا عُلِّقوا على أعواد المشانق، غير آخرين وقعوا صرعى تحت سنابك التعذيب، وتحقَّق فيهم- بفضل الله- قول الله: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).

- الجهاد سبيلنا.. وهنا تتحقق مع هذا الشعار الصفة الثانية لهذا الجيل المبارك، الذي حقق مع الجهاد الشعار التالي "الموت في سبيل الله أسمي أمانينا"، فرأينا هذا الجيل يتسابق إلى الجهاد في سبيل الله على أرض فلسطين، وعلى أرض القتال.. الأولى جهادًا لليهود المجرمين المغتصبين لأرض فلسطين، والثانية جهادًا للإنجليز المحتلين لأرض مصر منذ سبعين عامًا سابقة للجهاد، وكان جهاد هذا الجيل المبارك هو الأول من نوعه في تاريخ الاحتلال الإنجليزي لأرض مصر، الذي يحمل السلاح في وجه الإنجليز، والذي يذيقهم من أنواع النكال ما لم يذقه الإنجليز من قبل.. مما كان السبب الحقيقي لجلاء الإنجليز بعد ذلك ببضع سنين (حوالي خمس سنوات).

ب- أما الجيل الثاني؛ وهو من ثمار "البنا" كذلك.. فلقد اتسم بالجهاد والصمود، فقد تعلم الجهاد من الجيل السابق عليه، بما سمع منه أو عنه من نماذج كريمة ورفيعة! بيد أنه لم يجد الميادين التي وجدها الجيل السابق، ومن ثم كان جهاده في الداخل ضد ظلم وطغيان فُرض على أرض مصر.. وشهد الجيل الثاني حكم أكبر طاغية في العصر الحديث.. كان من سلالة الفراعين الذين قال كبيرهم يومًا: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: 29)، وبلغ الأمر أن هتف فقال: "أنا ربكم الأعلى"، وقال:

"ما علِمت لكم من إِلهٍ غيرِي"، الفرعون الصغير مقالة الفرعون الكبير.. فقال في الأولى: "لا يعلو صوت فوق صوت المعركة"، وكان يعني ألا يعلو صوت فوق صوته، وهي ترجمة حديثة لمقالة الفرعون القديم: "ما أريكم إلا ما أرى"، وقال بفعله دون قوله: "أنا ربكم الأعلى"، أو: "ما علِمت لكم من إِلهٍ غيرِي".

أما الصمود.. فكان في مواجهة التعذيب الذي أمر به وأشرف عليه الفرعون الصغير، وبلغت به الخسة والحقارة أن كان يذهب بنفسه إلى السجن الحربي، ليشهد- من خلف ستار- عذاب امرأة؛ هي السيدة الفاضلة "زينب الغزالي"- أمد الله في عمرنا وعمرها في صالح العمل (راجع كتابها الشهير: أيام من حياتي).

ولئن شهد الجيل الأول مثل هذا التعذيب، فقد شهد الجيل الثاني منه.. إلا أنه أظهر صمودًا جميلاً، رفض معه كل مساومة من خلال محاضرات (غسل المخ)، التي مارستها رموز فكرية أو دينية، وأحرجوا كثيرًا من خلال ردود ومناقشات الجيل الثاني، مما أفشل برنامج (غسل المخ)، الذي مارسه النظام الحاكم الآثم في ذلك الحين.

جـ- أما الجيل الثالث.. فأمره عجيب؛ حيث إنني أراه- بفضل الله- أقوى من الجيلين السابقين، وليس في ذلك مساس أو إنقاص من قدر الجيلين السابقين له، بل إنه إضافة إلى أفضالهما ونتيجة لمجهوداتهما، وإفادة من تجاربهما، وإذا كان الإنسان بفطرته وطبيعته لا يحب لإنسان آخر أكثر مما يحب لنفسه، إلا أن يكون ابناً أو حفيدًا، فإنه يسر له إذا وجده أفضل منه.. فإن الجيلين السابقين سعيدان بلا شك لهذه النيتجة.. إن الجيل الثالث امتداد لهما، وإن كان أكثر صمودًا.. مع صفتين أخريين ظهرتا بوضوح فيه، وإن كانتا كافيتين في الجيلين السابقين.

إن صمود هذا الجيل يظهر من مواجهته لألوان الاضطهاد المتمثلة في اعتقال أو سجن أو تعذيب.. ومع ذلك يبدو الواحد منهم كأنه ذاهب إلى نزهة؛ إذ يلقى ما يلقى بنفس راضية.. ويعود بعد ذلك إلى ما كان عليه.. أقوى يقينًا وأصلب عودًا!

أما الصفتان الأخريان، فهما: شموخ، ونصر.. أما الشموخ فقد ورثه من جيلين سابقين، وإن بدا فيه أكثر.. وأما النصر فهو ما أراه ليس رجمًا بالغيب، ولكن من خلال استشراف المستقبل، وهو علم حديث، فضلاً عن تعمق في أحداث الحاضر، ورؤية مبصرة لما جاء في آيات الله وأحاديث رسوله- صلى الله عليه وسلم- نستشرف منها قرب نصر الله: ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح: 27)، ﴿نَصْرٌ مِّن اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الصف: 13)، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف : 21)، "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار".

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.