بقلم: الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي

الاستسلام الفلسطيني

إن الاستسلام الفلسطيني الذي دفع إليه تَسرُّب الوهَن إلى بعض الأنفُس، واليأس إلى بعض القلوب والشعور بالمرارة من تَخاذُل الكثيرين من العرب، وارتماء بعضهم في أحضان الأمريكان، وسُقوط السوفيت، والإحساس بالرعب من الوحش الأمريكي، وتحيزه لربيبته إسرائيل، واستطالة طريق الجهاد، وكثرة تكاليفه وضحاياه.. كل أولئك سارع بدفع عدد من القادة الفلسطينيين إلى قبول "السلام الأعرج" الذي عرضته إسرائيل تحت عنوان (الأرض مقابل السلام).

يَعنون أن تتخلَّى إسرائيل عن الأرض الفلسطينيَّة والسورية واللبنانية التي احتلَّتها عام 1967م في مقابل سلامها؛ بحيث لا يُناوشها أحد ولا يُنازعها.

باختصار: هذا القول يعني أن أرض العرب في مقابل سلام إسرائيل، أي يَرُدُّونَ إلينا أرضنا المحتلَّة لينعموا بالسلام.. معنى هذا: أن الأرض التي أخذوها بقوَّة السلاح وبالدم والعنف أمست مِلكًا لهم، وأمسى لهم الحقُّ عليها، وهم يتنازلون عنها لِيَفُوزُوا بالسلام!! وقبِل العرب المفاوضات على هذا الأساس الأعوج، وأعطوا إسرائيل السلام، ولكنها لم تُعطِهم شيئًا، باعت لهم (الترام)!! كما تحكي الحكايات عن القاهري الماكر والصعيدي الساذج.

ما معنى "سلام" يَترُك المشاكل الكبرى الأساسية كلها معلَّقة.. مُشكلة القدس، مُشكلة الاستيطان، مُشكلة اللاجئين، مُشكلة الحدود.. هذه المشكلات الخطيرة معلَّقة مؤجَّلة، لا تُبحث إلا في نهاية المفاوضات، ولم يَسأل أحد، وإذا لم نتَّفق عليها في النهاية فماذا يكون الموقف؟! والحقيقة أن هذه المشاكل كانت معلَّقة ومؤجَّلة عند العرب، ولم تكن مؤجَّلة ولا معلَّقة عند الصهاينة، فقد أعلن إسحاق رابين عشيَّة توقيع الاتفاق في (أُوسلو) قائلاً ومصرِّحًا: جئتكم من أورشليم (القدس) العاصمة التاريخية والأبدية الموحَّدة لشعب إسرائيل!!

وكذلك لم يُؤجل موضوع الاحتلال، بل ظلَّ مُستمرًا في أكثر من مَكان في فلسطين، إلى أن فجَّرته المُحاولة الصريحة الجريئة بإنشاء مغتصبة (هارحوما) في جبل أبو غنيم، وكذلك في رأس العامود في القدس الشرقية، ولا يَزال الاحتلال يتوسَّع ويَنمو، في حين لا يُسمح للفلسطينيين أهل البلد وأصحاب الدار، بأي نُمو أو توسُّع، وكم رأينا بأعيننا البيوت تُهدم على مَرْأًى ومَسمع؛ لأن إسرائيل لم تَسمح بها ولن تَسمح يومًا.

إن الفلسطينيين اليوم أدركوا أن إسرائيل تَخدعهم وتلعب بهم، وأن انسحابها الجزئي المحدود جدًّا لم يكن إلا خدعةً كبيرةً، وأنها تستطيع أن تَعود إلى احتلال المواقع التي أخلتها في ساعات قلائل، وأن زمام الأمور كلها بيديها، وأنه لا حوْل لهم ولا طوْل، وأن السلطة التي منحتها إسرائيل لهم سلطةٌ وهميَّة، هدف إسرائيل منها: أن تَضربَ الفلسطينيين بعضَهم بعض، وأن تُسلِّط بَعضَهم على بعض، وأن يكون بأسَهم بينهم شديدًا، لتقف هي متفرِّجةً على صراع الأخ مع أخيه، وأن بندقية الفلسطيني لم تَعُدْ مُوَجَّهةً إلى صَدْرِ غاصب أرضهم بل إلى فلسطيني مثله، وهذا مُراد إسرائيل، ولمَّا لم يتحقَّق لإسرائيل كلَّ ما تُريد طلبت بصراحة من السلطة تدمير حماس، وتَحطيم كل قوة لها، وإعانة إسرائيل عليها، وهذا شرط ضروريٌّ اليوم للعودة للجلوس على مائدة السلام المزعوم.

إن إسرائيل ماضيةٌ في خُطتها وإصرارها على تَهويد القدس، وهي خُطةٌ ليست بنت اليوم ولا وليدةَ الأمس، وقد حدَّدت هدفها ورسمت سياستها، ومارست تنفيذها بمحاصرتها بالمغتصبات، والعمل الدائب على تفريغها من أهلها العرب مُسلمين ومَسيحيين ووضع العوائق والعقبات في سبيل نموهم وامتدادهم عمرانيًّا وبشريًّا، والوقائع كلها شاهدةٌ قاطعةٌ، والعرب لا يَملكون إلا الشجْب والاحتجاج والاستنكار، وهذه كلها لا تُجدي فتيلاً، ولا تُحيي قتيلاً، ولا تشفي عليلاً.. لقد احتجَّ العرب على مستوطنة أبو غُنيم، واحتجُّوا على احتلال بيت رأس العامود، ولكنَّ احتجاجاتهم ذهبت أدراج الرياح.. لم يَبْقَ من شيء تَخافه إسرائيل إلا الشباب الذين حَمَلوا رؤوسَهم على أكفِّهم، بائعين أرواحهم لله، لا يُبالون أوَقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم، مِن الذين أقلقوا إسرائيل بعمليَّاتهم الاستشهاديَّة، وقذفوا الرُعب في قلوب أبنائها، وأَطاروا النوم من أجفانهم، ولا يَفِلُّ الحديد إلا الحديد.

لهذا قامت إسرائيل- على أعلى مستوًى فيها- بالانتقام من هؤلاء الأبطال، فقتلت الدكتور الشقاقي، والمهندس يحيى عيَّاش، وشرعت أخيرًا في قتل خالد مَشعل بسلاح كيماويٍّ متطوِّر، وفي بلد معاهد لهم هو الأردن؛ ليعلم الجميع أن هؤلاء قوم لا عهدَ لهم ولا ذمَّة، كما قال تعالى في أسلافهم: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمْ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾ (الأنفال: 56).

وهم من قديم يَقتُلون كل مَن يقف في طريقهم أو ينتقدهم، أو يكشف أحابيلهم، من مدنيين وسياسيين ومفكِّرين، فقد قتلوا اللورد موين، وقتلوا الكونت برنادوت، وقتلوا المفكِّر الإسلامي الدكتور إسماعيل الفاروقي وزوجته أشنع قتلة، هذا ما تقوله الوقائع، ولا يزالون يُهدِّدون ويَتوعَّدون كلَّ مَن يَقول كلمة لا تُعجبهم، حتى الرسائل الأكاديمية أو البحوث العلمية التي تتحدث عن مذابح النازيِّة معهم وتُحاول أن تُبيِّن حجمها الحقيقي لا يُسمح لها أن تَبرُز وترى النور، حتى إن كاتبيها يَتعرَّضون للمُساءَلة والمحاكمة بل المضايقة والإيذاء والتهديد، وآخرهم المفكِّر الفرنسي المَعروف روجيه جارودي.

إن الذين ظلُّوا يَحملون روح الشعب الفلسطيني المُجاهد، وعِناد مقاومته، واستعداده للتضحية، إنما هم تلك الفئة المؤمنة التي وَهَبَتْ حياتها وكل ما تملك من نفس ونفيس، لتحرير الأرض المقدَّسة ومسجدها الأقصى.. إنما هم أبناء حركة المقاومة الإسلامية حماس وإخوانهم وأعوانهم في الجهاد المقدَّس، ومَن يَشدُّ من أزرهم من أبناء الشعب.

إنهم الذين باعوا أرواحهم لله ليشتروا الجنة، ولقد ابتُلوا وأُوذُوا وسُجِنُوا وعُذِّبوا في سبيل الله، فصبروا وصابروا ورابطوا.. ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحَبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِريِنَ﴾ (آل عمران: 146- 147).

وظني أن الاستسلام الذي جُرَّ إليه الفلسطينيون لن يستمرَّ، فقد طفح الكيلُ، وبلغ السيلُ الزُّبَى، وأوشك الصبر أن يَنفد، وحينئذ لا يكون أمام هؤلاء إلا عَودة الانتفاضة الشاملة أشد وأقوى مما كانت، ويفرِض الواقعُ الجديد نفسهَ، وتنضمُّ السلطة إلى الشعب، ويَقف الجميع في وجه العدو صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص، وصَدَقَ الشاعر:

إذا لم يكن إلا الأسنَّة مَرْكَبٌ    فما حيلَةُ المُضطَرِّ إلا رَكُوبُها

العجز العربي

أما العجز العربي الذي نَراه ونَلمَسه، فليس هو بالقدر الذي لا مَهرب مِنه، إنما هو أمرٌ طارئ لا بدَّ أن يزول، وأَظْهر أسباب هذا العَجْز هو التفرُّق الذي أصاب دول العرب منذ شرخ (كامب ديفيد) واتفاقيته التي أخرجت الشقيقة الكبرى- مصر- من المعركة المصيريَّة للأمَّة، وقد استغلَّ في ذلك تخلِّي العرب عن مِصر، وعدم وقوفهم معها ومعاونتهم لها، وقد خاضت أربع حروب من أجل فلسطين كَلَّفتْها الكثير من المال والرجال.

وزاد هذا التفرُّق بعد (حرب الخليج) الثانية التي مزَّقت العرب شرَّ مُمزَّق، وخسروا فيها تضامنهم ووحدة مواقفهم، كما خَسروا أموالهم حتى استدانت البلاد الغنيَّة، بل خَسر كثير منهم حرية إرادتهم واستقلال قرارهم، إلى حد احتلال أراضيهم.. كان هذا كله بضربةٍ واحدة- ضربة معلم كما يقال- وكان الرابح الوحيد في ذلك هو إسرائيل وأمريكا وحلفاءَها، الذين تخلَّصوا من أسلحتهم القديمة في أرضنا، وجرَّبوا أسلحتهم الجديدة في شُعوبنا، وهَدموا ديارَنا بفلوسنا وبطلبنا، وخرَّبوا بيوتَنا بأيدينا، ليعُودوا فيُشيِّدوها من جديد بأموالنا أيضًا.

وقد انقسم العالم العربي في هذه القضية انقسامًا لم يَحدث مثله في قضية أخرى، لِمَا فيها من تداخل وتعقيد، فإن الذي يَرفض التدخل الأجنبي كأنما يُؤيد الاحتلال العراقي للكويت، والذي يَقبل التدخل العسكري الأمريكي والغربي لتحرير الكويت كأنما يُؤيد تدمير العراق، ويُساند الاحتلال الأجنبي للمنطقة!! وضاع الرأي الوسط الذي يُنكر الاحتلال ويطالب بالجلاء، كما ينكر التدخل الأجنبي المكثَّف المُسيطر.. سواءً بسواء، وهو ما نادت به مجموعاتٌ من أهل العلم والفكر من المصريين نشروا بيانهم على صفحات (الأهرام) وغيره (ضمن المقال الأسبوعي للكاتب الكبير الأستاذ فهمي هويدي).

المهم أن العالم العربي منذ ذلك اليوم المشئوم قد تَصدَّع بنيانه، ولم يَجد من يُرمِّمه إلى اليوم، رغم مناداة كثير من العُقلاء بوجوب تخطِّي هذه الأزمة، التي لا يَجوز أن تَحْكُمَنا عُقْدتُها أبد الدهر، وهو ما يَفرضه الدين والقومية، والأخلاق والمصلحة المُشتركة، بل ما يَفرضه وجودنا ومصيرنا، إن أردنا أن يكون لنا وجودٌ ومصيرٌ في هذا العالم، الذي لم يَعُد فيه مكان للكِيَانات الصغيرة، ولا للكيانات المتفرِّقة والمُبعثَرة؛ ولهذا رأينا المتفرِّقين تاريخيًّا يتَّحدون ويَتَنَاسَوْن الماضي ونزعاته وحروبه وثاراتهِ؛ استجابةً لنداء المصلحة المُتبادَلة كما هو شأن الاتحاد الأوروبي.

ولكننا نرى اليوم بشائِرَ لا يمكن تَجاهُلُها، وهي وقوف العالم العربي كله ضد الولايات المتحدة التي تُريد توجيه ضربة عسكرية للعراق.. إنَّ هذه الوقفة ضد التألُّه الأمريكي تدلنا على أن هذه الأمَّة لن تموت.

الوهن الإسلامي

وإذا كان العجز العربي عرضًا لا يَدوم، فكذلك الوهَن الإسلامي، إنه أمرٌ يَعرِض للأُمَمِ كما تعرض أمراض للجسم الصحيح، لا يلبث أن يُعالَج منه ويُشفى، وكم أصابت هذه الأمَّة من آفاتٍ وأمراضٍ في أدوار من التاريخ، حَسِبَ أعداؤها أنها لن تَبرأ منها وأنها هي القاضية والقاتلة، ولكنها خرجت كما يَخرج الذهب من النار أشدَّ صفاءً وأكثر لمعانًا.

وحسبنا من ذلك غزوات الصليبيين من الغرب، وهجمات التتار من الشرق، في فترة ضعفٍ من الأمَّة، وتَفرُّقٍ بين أقطارها، وغفلةٍ من حُكَّامها، حتى سقطت قلاعُها أمامهم أول الأمر، وتَحكَّموا في رقاب أهلها، وأقاموا لهم ممالك وإمارات، وبقي المسجد الأقصى أسيرًا في أيدي الصليبيين تسعين عامًا كاملةً، ثم هيَّأ اللهُ رجالاً لم يَكونوا من جنس العرب ولكن عرَّبهُم الإسلام، منهم التُركي مثل عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود، والكردي مِثل صلاح الدين الأيوبي، وغيرهم مثل سيف الدين قطز، والظاهر بيبرس من قادة المماليك، فعاد الصليبيون يجرُّون أذيال الخيبة، ودخل التتار في دين الله أفواجًا.

وفي العصر الحديث احتل الاستعمار الغربي الزاحف ديار الإسلام من إندونيسيا إلى المغرب، وحسِب جنرالاته العسكريون وزعماؤه السياسيون- ومن ورائهم المنصِّرون والمُستشرقون- أن هذه الديار قد دانت لهم إلى الأبد، حتى إن بعضهم اعتبروها جزءًا من أوطانهم كما في الجزائر، ثم ما لَبِثَ الإسلام- الذي يَدينون به- أن أَيْقَظَهم من رُقود، وحرَّكهم من جُمود، ونفخ فيهم من روحه، فكانت معارك التحرير في كل بلد، وكان للدين القَدَحُ المُعَلَّى في الإيقاظ والتحريك والتجنيد والتجميع، وآخر ملحمة مع الاستعمار كانت ملحمةَ ثورة التحرير الجزائرية من سنة 1954 حتى نالت استقلالها سنة 1961م.

لقد نبَّهنا الرسول المُعلِّم على سبب الوَهَن الذي يُصيب الأمَّة، وبيَّن أنه سببٌ نفسيٌّ أخلاقي، وذلك في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان: "يوشك أن تتداعى عليك الأمم من كل أُفقٍ، كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أَمِنْ قلَّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولَيَنزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن.. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت".. هذا هو سر الوهن، وعِلَّتُه حبُّ الدنيا وكراهية الموت.

فإذا غَيَّرَت الأمة ما بنفسها، ولم تَعُدْ الدنيا أكبرَ همَّها ومَبْلَغَ عِلْمِها، ولم تَعُدْ تبالي أوَقعت على الموت أم وقع الموت عليها.. هنالك يغيِّر الله ما بها، ويبدِّل حالَها من ضعف إلى قوة، ومن ذلة إلى عزَّة، ومن هزيمة إلى نصر وتمكين، وأرى بشائر ذلك قد بَدَتْ وتَجلَّت في هذه الصحوة الإسلامية المعاصرة التي جدَّدت العقول بالمعرفة، والقلوب بالإيمان، وأثَّرت في شباب الأمة- ذكورًا وإناثًا- تأثيرًا يُشبه تأثير الغيث في الأرض الهامدة، حتى إذا نَزل عليها الماءُ اهتزت ورَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج.

وقد بيَّنا في دراسة سابقةٍ لنا (رسالة الُمبشِّرات بانتصار الإسلام، وهي الرسالة الثامنة من رسائل ترشيد الصحوة) أن الأُمة المسلمة تملك مُقومات القوة والرقيِّ والسيادة من الثروة البشرية (مليار وثلث من البشر) والثروة الماديَّة (مِن سهول وجبال ومعادن وبحار وأنهار.. إلخ) والثروة الحضارية (من خلال موقعها في مُلتقى القارات، ومنبت الحضارة ومَهبط الرسالات. في أرضها نبتت الحضارات الفرعونية والفينيقية والآشورية والفارسية)، بالإضافة إلى الحضارة الإسلامية العربية، وفيها نشأت الرسالات السماوية الكبرى.. اليهودية والمسيحية والإسلام.. هذا إلى الثروة الروحية الكبرى التي تتميَّز بها دون الأمم، فهي وحدها التي تملك رسالة الشمول والتوازن والعمق المتمثِّلة في رسالة الإسلام، وقد بدأت بعض شعوب هذه الأمَّة وأقطارها في النهوض ومحاولة كسر حاجز التخلُّف الذي وُضِعت فيه الأمة زمنًا طويلاً، وإن مع اليوم غدًا، وإن غدًا لِناظره قريب.

التفرد الأمريكي

وأما التفرُّد الأمريكي بالنفوذ والهيمنة على العالم؛ حَيْث غَدَتْ هي القطب الأوحد والعلم المُفرد في توجيه السياسة الدولية، وَفْقَ مصالحها وأهوائها، وتسخير الأمم المتحدة وأجهزتها ومؤسساتها لخدمة أهدافها ورغباتها، التي لا يَجوز لأحدٍ الخروج عنها أو التمرُّد عليها وإلا كان العقاب له بالمِرصاد اقتصاديًّا وسياسيًّا بل وعسكريًّا عند اللزوم.. أقول: هذا التفرُّد ليس قدرًا مفروضًا على البشرية يجب أن تتقبَّله طوعًا أو كرهًا، صوابًا أو خطأً، عدْلاً كان أو جَوْرًا، إنما هو وَلِيدُ ظروف مُعيَّنة مرَّت بالعالم قابلة لأن تتغيَّر.

ومن سنَّة الله أن القوي لا يظلُّ قويًّا أبدَ الدهر، وأن الضعيف لا يظلُّ ضعيفًا أبد الدهر، وكم رأينا من قويٍّ أصابه الضعف، وضعيفٍ أدركَتْه القوة، وكم من عزيزٍ ذل، وذليلٍ عزَّ، وفي التاريخ الحافل وفي الواقع الماثل نماذج وأمثلة لا تَخفى، كما أن مِنْ عَدْل الله تعالى وحكمته في خلقه ألا يَدع قوةً واحدةً تتحكَّم في خلقه، وتفرض عليهم سلطانها رغَبًا ورهَبًا، بل من سُنَّته تعالى التدافُع بين الناس؛ حيث يدفع ظلم بعضهم ببعض، وشرَّ بعضهم ببعض، وإلا لتسلَّط عليهم الطغاة والجبَّارون فأهلكوهم، أو ساموهم سوء العذاب، يقول تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 251)، وقال سبحانه: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجَدُ  يُذْكَرُ فِيهًا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا﴾ (الحج: 40).

وعلى ضوء هذه السنَّة قام الاتحاد السوفيتي الشيوعي عدَّة عقود بمُدافعةِ التجبُّر الأمريكي- الأوروبي- الرأسمالي، وأدَّى ذلك إلى قدرٍ من التوازنِ استفادت منه الشعوب الضعيفة والأوطان المهضومة، وإن كان كل من الطرفين الشيوعي والرأسمالي ظالمًا في نفسه، ولكن الله يَدفع ظالمًا بظالم، كما قال الشاعر:

وما من يدٍ إلا يدُ الله فوقها                  ولا ظالم إلا سَيُبلى بظالم!!

ومن هنا كان المسلمون قديمًا يَدْعون الله قائلين: اللهم أشغل الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين، ومن الأمثال المأثورة: إذا اصطلحت الهرَّة والفأر خربت دكان البقَّال، فمن مصلحة البشر- وخصوصًا الضعفاء منهم- اختلاف الأقوياء الظالمين وتَعَارُض مصالحهم، وليس من مصلحتهم أن يتَّفقوا، فإن اتفاقهم نِقمة واختلافهم رحمة، كما ليس من مصلحتهم أن يَنفرد أحدهم بالقوَّة، ويَزول خُصومه من الميدان.

وبمقتضى هذه السنَّة لا بد أن تَظهر قوَّة أو قوى جديدة أخرى تنازع أمريكا وتُغالبها وتُدافعها؛ حتى لا تُفسد الأرض، وربما كان من دلائل ذلك: الاتفاق الروسي الصيني الأخير والشهير، الذي يُؤذن ببروز قوة جديدة، ربما لم تتكامل الآن كل أدوات قدرتها التي تُنافس بها أمريكا، ولكنها- على الأقل- تَملِك قوةً عسكريةً وبشريةً هائلةً في مقابل التفوق التكنولوجي والاقتصادي الفارع الذي تتمتَّع به الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا كان من شأن التفرد الأمريكي ألا يستمر فكذلك شأن التحيُّز الأمريكي الدائم لإسرائيل، فهو موقف غير أخلاقي وغير إنساني وغير مبرَّر، وأحسب أن الشعب الأمريكي المُضلَّل عن الحقيقة بصنع الإعلام المكثَّف الذي يُوجِّهه ويُسيْطر عليه اللوبي اليهودي في أمريكا سيأتي يومٌ تنكشف فيه الغشاوة عن عينيه، ويرى الحقيقة مجرَّدةً بلا تَمْوِيه ولا تزييف، ويومئذ لن يكون مع الظالم ضد المظلوم، ولا مع الغاصب ضد المغصوب، ولا مع اللص ضد صاحب الدار.

الغياب العالمي

وكذلك يُقال في الغياب العالمي، فهو- في الواقع- أثرٌ للتسلُّط الأمريكي على العالم بسيف المعز وذهبه، وعدم وجود زعماء أقوياء يقولون كلمة الحقِّ، ولا يَخافون لومة لائمٍ، ولا ظُلم ظالم، فقد بات العالم قريةً عُمدتُها رئيس الولايات المتَّحدة، ووزير الدفاع الأمريكي هو شيخ خفرائها، ووزير الخارجية الأمريكي هو شيخ البلد فيها، حتى أوروبا لم يَعد لها تأثيرٌ يُذكر في سياسة العالم وقضاياه الكبرى، وإن حاولَت بعض دولها أن يكون لها موقفٌ متميز عن أمريكا، كما نرى فرنسا أحيانًا.. أما كتلة (عدم الانحياز) فلم يعد لها علمٌ مرفوع، ولا صوتٌ مسموع.

إن العالم الذي رَبَا عدد سكانه على ستة مليارات أصبح أحجارًا على رُقعة الشطرنج تُحركها أصابع أمريكا حيث تشاء، لا تُبالي بفيلٍ ولا حصان ولا (طابيه)، بل لا تعبأ بوزير ولا ملك، فهي تُحْيي منهم من تشاء وتُميت من تشاء، وقتما تشاء.. هل سيبقى العالم لعبة في يد أمريكا إلى الأبد؟! مُستحيل..!! وهل يَستمر هذا الغياب العالمي طويلاً؟! ما أظن ذلك.

إن الظروف المساعدة لإسرائيل- عالميًّا وإسلاميًّا وعربيًّا وفلسطينيًّا- لن تَبقى إلى الأبد، فالدهر قُلَّب، والدنيا دُول، ودوام الحال من المحال، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140).

ومن المُبشِّراتِ العاجِلة ما قضت به محكمة العدل الدولية في قضية (لو كربي) التي اتُّخِذت ذريعةً ضدَّ ليبيا، وقد كان حكم المحكمة صفعةً للولايات المتحدة وبريطانيا، وانتصارًا للجمهورية الليبية؛ مما يُوحي بأن في الزوايا خبايا، وأن في العالم رجالاً أحرارًا لا يُشتَروْن ولا يَخافون.. ربما انتقدنا بعض رجال السياسة، واتَّهمونا- نحن علماء الدين ورجال الفكر الإسلامي- بأننا (رومانسيون) نعيش في مثاليات، ونسبح في بحار الأماني والأحلام، ولا نرضى بالواقع، وقد قال عليٌّ بن أبي طالب لابنه: إياك والاتكال على المُنى، فإنها بضائع النَّوْكَى (الحمقى)، وقال الشاعر:

ولا تكن عبد المُنى، فالمُنى             رؤوس أموال المفاليس!!

وأودُّ أن أقول لهؤلاء: إن من شأن الإنسان الحي أن يتخيَّل وأن يحلُم، وعلى قدر هِمّة المراء وطموحه تكون أحلامه صغرًا وكبرًا، وما لنا لا نحلم، وقد حلم اليهود قبلنا بإقامة دولتهم، وقد أقاموها في ديارنا، ولم يكن هناك أي شيء على الأرض يدلُّ على ذلك، وقد عاشوا حتى غدت أحلام الأمس حقائق اليوم.. فما علينا إذا حلمنا بالانتصار على عدوِّنا، واستعادة أرضنا وحقِّنا؛ حتى تكون أحلام اليوم حقائق الغد، ولا سيَّما حقائق الوجود، ووقائع التاريخ، وسُنن الله في الكون كلها تُؤيدنا.. كل ما ينقصنا هو إرادة الصمود والتحدَّي، والتحرر من اليأس والضعف، والثورة على الرضا بالهون، والعيش الدون، والقدرة على أن نقول بمِلءِ فِينَا، وبأعلى صوتنا: لا ثم لا.

إننا إذا قلناها- مجتمعين- صارخةً مدويِّةً، عاليةً متحدِّيةً، ستُزلزل قلوب أعدائنا ويكون لها ما بعدها.. إن كل ما نُريده اليوم أن ننتصر على ضعف أنفسنا، وأن نستعيد ثقتَنا بالله تعالى، ونستجيب لقول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ واللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: 35).

توصيات

نحن- المسلمين- دعاة سلام، ولسنا هُواةَ حرب، ولكنا نخوض الحرب مستميتين للدفاع عن أنفسنا وكياننا ومقدساتنا؛ لأن حربنا عندئذ في سبيل الله، وهذا شأن أهل الإيمان أبدًا: ﴿الَّذِيْنَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ (النساء: 76)، وإذا انتهى اللقاء بيننا وبين خصومنا بغير معركة- كما في غزوة الخندق- كان تعليق القرآن: ﴿وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ (الأحزاب: 25)، وقرآننا يقول بعد ضرورة الالتجاء إلى القتال: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (الأنفال: 61).

ولكن إسرائيل لم تَجْنَحْ للسلم يومًا؛ لأن هذا ضد طبيعتها وتكوينها، وكيف يَجْنَحُ للسلم مَنْ قام كيانه على الدم والعنف والاغتصاب والعدوان؟! وهي تعمل اليوم جاهدةً لتفريغ القدس من أهلها.. مسلمين ومسيحيين؛ لتملأها بالمغتصبين القادمين من الغرب والشرق، ومن هنا كانت مسألة المعتدين مرفوضةً دينًا وخلُقًا وقانونًا وعُرفًا، فلا يَفُلُّ الحديد إلا الحديد، وما اغْتُصِبَ بالقوة لا يُرَدُّ إلا بالقوة، وفي ضَوْء ذلك نوصي بما يلي:

1- يجب أن تعود "ثورة المساجد"- التي سُمِّيَتْ بعد ذلك "الانتفاضة"- والتي أجبرت إسرائيل على الاعتراف بمنظمة التحرير، وساقتها إلى الجلوس معها للتفاوض، وأن تعود بأقوى مما كانت.. مسنودةً من جميع الفلسطينيين.. سلطةً وشعبًا، ومؤيدةً من جميع العرب وجميع المسلمين وجميع الأحرار والشرفاء في العالم.

إن إسرائيل هي الإرهابي الأكبر في العالم.. إنه إرهاب الدولة أو دولة الإرهاب.. إنها الدولة التي قننت الظلم والتعذيب وهدم البيوت، وانتهاك حقوق الأفراد والأسر، والسبيل الوحيد للشعب الفلسطيني هو (المقاومة).

من حق كل شعب أن يُقاوم المحتل الغاصب بكل ما يستطيع من قوة، وإذا كان مناحم بيجن قد رفع شعار: أنا أُحَارب إذن أنا موجود!! فإن الشيخ أحمد ياسين رفع شعارًا مضادًا: أنا أُقَاوم إذن أنا موجود!! وسَيَغْلِب حقُّ "أحمد ياسين" باطلَ "مناحم بيجن".

2- يجب رفض ما سمى "التطبيع" مع إسرائيل على كل صعيد، سياسيًّا، أو اقتصاديًّا، أو اجتماعيًّا، أو ثقافيًّا، فلا يجوز التبادل الدبلوماسي مع إسرائيل، ولا التعامل الاقتصادي مع إسرائيل، ولا فتح مكاتب لإسرائيل، ولا يَحِلُّ لمسلم السفر إلى إسرائيل، ولو بدعوى الصلاة في "المسجد الأقصى"، فإنما يشد المسلم رحاله إلى هذا المسجد حينما يتحرر من سلطان اليهود.

يجب أن نرفض اختراق العقل العربي والإسلامي بأي صورة، وأن نقاوم غزو (الإسرائيليات الجديدة) لثقافتنا الإسلامية والعربية، وأن نتمسك بهويتنا خالصةً لا تشوبها شائبةٌ.

3- يجب إعادة "المقاطعة" الاقتصادية لإسرائيل، واستمرارها حيةً فعالةً، وتوسيعها لتكون مقاطعةً عربيةً إسلاميةً، فلا يحل لمسلم أن يبيع لها أو يشتريَ منها، وهذا واجب الدول الإسلامية وواجب الأفراد المسلمين، ويجب على كل مسلم أن يعلم أن أي دينار أو درهم أو جنيه أو ريال يذهب إلى إسرائيل يتحول إلى صاروخ أو قنبلة أو رصاصة، تقتلنا بها أو تهددنا بها إسرائيل، بل يجب أن تتسع هذه المقاطعة لتشمل كل من يساند إسرائيل، خصوصًا أمريكا التي تقف بكل قوتها مع إسرائيل، ويجب على المسلمين كافةً مقاطعة البضائع الأمريكية، ابتداءً بالطائرات ومرروًا بالسيارات، وانتهاءً بالهامبرجر والبيتزا والكولا والسجائر ونحوها.

4- يجب أن يَعْلُوَ العرب والمسلمون على خلافاتهم، وينسَوا معاركهم الجانبية، ويقفوا صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، فالمعركة كبيرة، لا يجوز أن تشغلنا عنها النزاعات الصغيرة، وقد قال الشاعر: إن المصائب يجمعن المصابينا!!

فكيف بأم المصائب: إسرائيل، وغطرستها واستكبارها في الأرض؟! وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف: 4).. يجب أن نقاوم كل محاولة لتمزيق الأمة أكثر مما هي ممزقة، وأن نسعى إلى توحيد الكلمة في ضوء كلمة التوحيد، فإن لم نستطِع الارتقاء إلى أفق التوحيد فلنسْعَ إلى التقريب، وذلك أضعف الإيمان.

لا مجال لإثارة الخلافات الدينية سنةً وشيعةً، ولا الخلافات العرقية عربًا وأكرادًا، أو العرب والبربر، ولا الخلافات الأيديولوجية يمينًا ويسارًا، ولا الخلافات الطبقية: أغنياءَ وفقراءَ.. يجب أن نركز على مقاومة الخلاف بين الفصائل الفلسطينية بعضها وبعض، فالجميع في خندق واحد، هو مواجهة الاحتلال والعدوان الصهيوني.

وما أروعَ ما قال الشيخ "أحمد ياسين" في قطر: إذا قاتلتنا السلطة الفلسطينية فلن نقاتلها، وإذا آذتنا فلن نَرُدَّ السيئة بمثلها، سنكون كخير ابني آدم حين قال له أخوه: لأقتلنك، قال: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينْ﴾ (المائدة: 28).

5- يجب أن نعلم بوضوح "إسلامية المعركة"، فالقدس ليست مجرد شأن فلسطيني، بل ولا مجرد شأن عربي، بل هي شأن إسلامي؛ ولهذا نرفض ما يُرَدَّدُ أحيانًا من أن الفلسطينيين هم أصحاب الشأن، ولا ينبغي أن نكون ملكيين أكثر من الملك؛ فالقدس شأن الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، ولو أن الفلسطينيين تخاذلوا وسلموا في شأنها، لوجب على مسلمي العالم أن يرفضوا ذلك، ويقاموا الفلسطينيين أنفسهم، وكما لا يجوز أن يقال: إن مكة والكعبة والمسجد الحرام هي شأن سعودي لا يَخُصُّ سائر المسلمين، فكذلك يقال عن القدس الشريف والمسجد الأقصى.

6- يجب أن نسعى لتأسيس "هيئة إسلامية شعبية عالمية" من أجل إنقاذ القدس، فلو كان لنا خليفةٌ مُبَايَعٌ من المسلمين، يُجَسِّدُ وَحْدَتَهُمْ، ويَقُودُ أمتهم- كما كان عليه حال الأمة أكثر من ثلاثة عشر قرنًا- لَنَادَى في المسلمين: أن هُبُّوا لتحرير الأقصى، لاستجاب الملايين لندائه، وأقبِلوا بكثافة لتواجهوا قوة إسرائيل، وأسلحة إسرائيل، ولنقتل منهم ألوفًا أو عشرات الألوف، ولكنها لن تستطيع أن تقتل كل المجاهدين، وتواجه كل المسلمين.

فإذا لم تكن لدينا خلافةٌ تملك حق التوجيه والأمر، فليكن بديلنا عن ذلك "مؤتمرٌ عالميٌّ لعلماء المسلمين" يُدْعَى إليه، بعيدًا عن تأثيرات السياسة المحلية والتوجيهات الرسمية، ليقول كلمته، ويوجه بيانه إلى الأمة، وينشئ هذه الهيئة العالمية المنشودة: "هيئة إنقاذ الأقصى".

7- وعلى هذه الهيئة أن تنشئ "صندوق القدس" صندوقًا شعبيًّا إسلاميًّا عالميًّا، يساهم كل المسلمين- بل كل الأحرار الشرفاء- من أقصى الأرض وأدناها بما يقدرون عليه، والقليل على القليل كثير، وذلك لإنقاذ القدس والمسجد الأقصى، ومواجهة خطط إسرائيل الجهنمية في إقامة المغتصبات، والترحيل الصامت لأهل القدس، والحفر المتواصل تحت المسجد المبارك، والتدمير المرتقب للمسجد الأقصى.

نتوجه بهذه التوصيات إلى كل الفلسطينيين.. سلطةً ومعارضةً، وإلى كل العرب.. مسلمين ومسيحيين، وإلى كل المسلمين.. عربًا وعجمًا، وإلى كل الشرفاء والمنصفين وأعداء البغي في الشرق والغرب؛ ليساندونا في معركتنا العادلة، وليقفوا مع قوة الحق، لا مع حق القوة.. وإن الحق لمنصور ولو بعد حين، وقد قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47).

------

* لخصت هذه المادة مع بعض التصرف من كتاب فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي- أمد الله في عمره- بعنوان "القدس قضية كل مسلم".