بقلم: الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي
 
القدس في الاعتقاد الإسلامي، لها مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ، اتفق على ذلك المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، فهو إجماعُ الأمَّة كلها من أقصاها إلى أقصاها.

ولا غرو أن يلتزم جميع المسلمين بوجوب الدفاع عن القدس، والغيرة عليها، والذَّودِ عن حِمَاها، وحُرماتِها ومُقدساتها، وبذلِ النفسِ والنفيسِ في سبيل حِمايتها، ورد المعتدين عليها، وقد اختلف المسلمون والعرب والفلسطينيون في الموقف من قضية السلام مع الصهاينة: هل يجوز أم لا يجوز؟! وإن جاز: هل ينجح أو لا ينجح؟!

ولكنهم جميعًا- مسلمين وعربًا وفلسطينيِّين- لم يَختلفوا حول عُروبة القدس وإسلاميتها، وضرورة بقائها عربيةً إسلاميةً، وفرضيَّة مقاومة المحاولات الصهيونية المستميتة لتهويدها، وتَغْيِير مَعَالمها، ومسْخ شخصياتها التاريخية، ومحو مظاهر العروبة والإسلام والمسيحيَّة منها، فللقدس قُدسيَّةٌ إسلاميَّةٌ مَقدورةٌ، وهي تمثل في حس المسلمين ووعيهم الإسلامي القِبلة الأولى وأرض الإسراء والمعراج وثالث المُدُن المعظَّمة، وأرض النبوات والبركات، وأرض الرباط والجهاد، كما سنبيِّن ذلك فيما يلي:

القدس قبل الاحتلال

أول ما تمثله القدس في حس المسلمين وفي وعيهم وفكرهم الديني أنها (القبلة الأولى) التي ظلَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه يتوجَّهون إليها في صلاتهم منذ فُرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة للبعثة المحمديَّة، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، وظلوا يصلون إليها في مكة، وبعد هجرتهم إلى المدينة ستة عشر شهرًا، حتى نزل القرآن يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، أو المسجد الحرام، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: 150).

وفي المدينة المنورة مَعلَمٌ أثريٌّ بارزٌ يُؤكد هذه القضيَّة، وهو مسجد القبلتين، الذي صلَّى فيه المسلمون صلاةً واحدةً بعضها إلى القدس، وبعضها إلى مكَّة، وهو لا يَزال قائمًا، وقد جُدِّد وتعهِّد، وهو يُزارُ إلى اليوم ويُصلَّى فيه، وقد أثار اليهود في المدينة ضجَّةً كبرى حول هذا التحوُّل، وردَّ عليهم القرآن بأن الجهات كلها لله، وهو الذي يُحدِّد أيَّها يكون القِبلة لمن يُصلِّي له: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إلى أن يقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِين هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ (البقرة: 142- 143)، فقد قالوا إن صلاة المسلمين تلك السنوات قد ضاعت وأُهدِرت؛ لأنها لم تكن إلى قِبلةٍ صحيحةٍ، فقال الله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي صلاتكم؛ لأنها كانت كصلاة إلى قبلة صحيحة مَرْضِيَّة عنده عزَّ وجلَّ.

القدس أرض الإسراء والمعراج

وثاني ما تُمثله القدس في الوعي الإسلامي أن الله تعالى جعلها مُنتهَى رحلة الإسراء الأرضيَّة، ومبتدأ رحلة المعراج السماويَّة، فقد شاء الله أن تبدأ هذه الرحلة الأرضيَّة المحمديَّة الليلة المباركة من مكَّةَ ومن المسجد الحرام؛ حيث يُقيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأن تنتهي عند المسجد الأقصى، ولم يكن هذا اعتباطًا ولا جُزافًا، بل كان ذلك بتدبيرٍ إلهي ولحكمة ربَّانية، وهي أن يَلتقيَ خاتم الرسل والنبيين هناك بالرسل الكرام، ويصلي بهم إمامًا، وفي هذا إعلان عن انتقال القيادة الدينية للعالم من بني إسرائيل إلى أمَّةٍ جديدة ورسولٍ جديد وكتابٍ جديدٍ.. أمَّة عالمية، ورسول عالمي، وكتاب عالمي، كما قال تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107) ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان: 1).

لقد نصَّ القرآنُ على مبتدأ هذه الرحلة ومنتهاها بجلاء في أوَّل آية في السورة التي حَمَلَت اسم هذه الرحلة (سورة الإسراء)، فقال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ (الإسراء: 1)، والآية لم تَصف المسجد الحرام بأيِّ صفة مع ما له من بركات وأمجاد، ولكنها وصفت المسجد الأقصى بهذا الوصف ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ وإذا كان ما حوله مباركًا، فمن باب أولى أن يكون هو مباركًا.

وقصة الإسراء والمعراج حافلة بالرموز والدلالات التي تُوحي بأهمية هذا المكان المُبارك، الذي ربَط فيه جبريلُ البراقَ، الدابة العجيبة التي كانت وسيلةُ الانتقال من مكَّة إلى القدس، وقد ربطها بالصخرة حتى يَعود من الرحلة الأخرى، التي بدأت من القدس أو المسجد الأقصى إلى السموات العُلا، إلى ﴿سِدْرَةِ المُنْتَهَى﴾، وقد أورث ذلك المسلمين من ذكريات الرحلة الصخرة، وحائط البراق.

لو لم تكن القدس مقصودة في هذه الرحلة لأمكن العروج من مكَّة إلى السماء مباشرةً، ولكن المرور بهذه المحطة القدسية أمرٌ مقصودٌ، كما دَلَّ على ذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ومن ثمرات رحلة الإسراء الربط بين مُبتدأَ الإسراء ومُنتهاه، وبعبارة أخرى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا الربط له إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المُسلم وضميره ووجدانه؛ بحيث لا تنفصل قدسيَّة أحد المسجدين عن قدسيَّة الآخر، ومَن فرَّط في أحدهما أوشك أن يُفرِّط في الآخر.

القدس ثالث المدن العظيمة

والقدس ثالث المدن المُعظَّمة في الإسلام؛ فالمدينة الأولى في الإسلام هي مكة المكرَّمة التي شرَّفها بالمسجد الحرام، والمدينة الثانية في الإسلام هي طيبة، أو المدينة المنوَّرة التي شرَّفها الله بالمسجد النبوي، والتي ضمَّت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

والمدينة الثالثة في الإسلام هي القدس أو بيت المقدس، والتي شرَّفها الله بالمسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، وفي هذا صحَّ الحديث المتَّفق عليه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"لا تُشدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثِة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".. فالمساجد كلها متساوية في مثوبة من صلى فيها، ولا يجوز للمسلم أن يَشدَّ رحالَه- بمعنى أن يَعزِم على السفر والارتحال للصلاة في أي مسجدٍ كان- إلا للصلاة في هذه الثلاثة المتميزة، وقد جاء الحديث بصيغة الحصْر، فلا يُقاس عليها غيرها.

وقد أعلن القرآن عن أهميَّة المسجد الأقصى وبركته قبل بناء المسجد النبوي وقبل الهجرة بسنوات، وقد جاءت الأحاديث النبوية تُؤكد ما قرَّره القرآن، منها الحديث المذكور والحديث الآخر: "الصلاة في المسجد الأقصى تَعدِل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ما عدَا المسجد الحرام والمسجد النبوي" (متَّفقٌ عليه)، ومنها ما رواه أبو ذر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سئل: أي المساجد بني في الأرض أول؟! قال: "المسجد الحرام"، قيل ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" (حديث متفق عليه).

والإسلام حين جعل المسجد الأقصى ثالث المسجدَين العظيمَين في الإسلام أضاف القدس إلى المدينتين الإسلاميتين المعظمتين- مكة والمدينة- فإنه إنما أراد بذلك أن يقرِّر مبدأً مهمًّا من مبادئه، وهو أنه جاء لِيَبْنِي لا لِيَهْدِم، ولِيُتَمِّم لا لِيُحَطِّم، فالقدس كانت أرض النبوات، والمسلمون أوْلى الناس بأنبياء الله ورُسُلِه كما قال الرسول ليهود المدينة: "نحن أولى بموسى منكم".

القدس أرض النبوات والبركات

والقدس جزءٌ من أرض فلسطين، بل هي غُرَّة جبينها، وواسطة عقدها، ولقد وصف الله هذه الأرض بالبركة في خمسة مواضع في كتابه:

أولها: في آية الإسراء، حين وصف المسجد الأقصى بأنه:﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾.

وثانيها: حين تَحدث في قصة خليله إبراهيم، فقال ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأّرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا للعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 71).

وثالثها: في قصة موسى؛ حيث قال عن بني إسرائيل بعد إغراق فرعون وجنوده:﴿وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِق الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾ (الأعراف: 137).

ورابعها: في قصة سليمان وما سخَّر الله له من مُلكٍ لا يَنبغي لأحدٍ من بعده، ومنه تسخير الريح، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الِّريحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ (الأنبياء: 81).

وخامسها: في قصة سَبأ، وكيف مَنَّ الله عليهم بالأمن والرغَد، قال تعالى:﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنَينَ﴾ (سبأ: 18).. فهذه القرى التي بارك الله فيها هي قرى الشام وفلسطين.

قال المُفسِّر الآلوسي: المُراد بالقرى التي بُورك فيها: قرى الشام، لكثرة أشجارها وثمارها، والتوسعة على أهلها، وعن ابن عباس: هي قرى بيت المقدس، وقال ابن عطية: إن إجماع المُفسِّرين عليه (روح المعاني للآلوسي: 32 / 129).

وقد ذهب عددٌ من مُفسري القرآن من علماء السلف والخلف في قوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِيِنِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ (التين: 1- 3) إلى أن التين والزيتون يُقصد بهما الأرض أو البلد التي تنبت التين والزيتون، وهي بيت المقدس.

قال ابن كثير: قال بعض الأئمَّة: هذه مَحَالٌّ ثلاث، بعث الله من كلِّ واحد منها نبيًّا مرسلاً من أولى العزم، أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: مَحل التين والزيتون وهو بيت المقدس، الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام، والثاني: طُور سيناء، الذي كلَّم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي مَن دخله كان آمنًا.

وبهذا التفسير أو التأويل تتناغم وتنسجم هذه الأقسام، فإذا كان البلد الأمين يُشير إلى مَنْبِت الإسلام رسالة محمد، وطور سينين يشيران إلى رسالة عيسى الذي نشأ في جوار بيت المقدس، وقدَّم موعظته الشهيرة في جبل الزيتون (تفسير القاسمي: 17/9196 وقد ذكر أن الكلام الذي نقله ابن كثير هو من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية).

القدس أرض الرباط والجهاد

والقدس عند المسلمين هي أرض الرباط والجهاد، فقد كان حديث القرآن عن المسجد الأقصى وحديث الرسول عن فضل الصلاة فيه من المُبشِّرات بأن القدس سيفتحها الإسلام، وستكون للمسلمين، وسيشدون الرحال إلى مسجدها، مصلين لله مُتعبِّدين، وقد فُتِحت القدس- التي كانت تسمى إيلياء في عهد الخليفة الثاني في الإسلام عمر بن الخطاب- واشترط بِطْرِيَرْكهَا الأكبر صفرونيوس ألا يُسلِّم مفاتيح المدينة إلا للخليفة نفسه، لا لأحد من قواده، وقد جاء عمر من المدينة إلى القدس في رحلة تاريخية مُثيرة، وتَسلَّم مفاتيح المدينة، وعقد مع أهلها من النصارى معاهدةً أو اتفاقيةً معروفةً في التاريخ باسم "العَهْد العُمَري" أو "العهدة العمرية"، أمَّنَهم فيها على معابدهم وعقائدهم وشعائرهم وأنفسهم وأموالهم، وشهِد على هذه الوثيقة عددٌ من قادة المسلمين، أمثال: خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان (تاريخ الطبري، طبعة دار المعارف بمصر، الجزء الثالث، ص 609).

وقد أعْلم الله نبيَّه محمدًا- صلى الله عليه وسلم- بأن هذه الأرض المُقدَّسة سيحتلها الأعداء، أو يُهدِّدونها بالغزو والاحتلال؛ ولهذا حرَّض أمته على الرباط فيها والجهاد؛ للدفاع عنها حتى لا تسقط في أيدي الأعداء، ولتحريرها إذا قُدِّر لها أن تَسقط في أيديهم، كما أخبر- عليه الصلاة والسلام- بالمعركة المُرتقَبة بين المسلمين واليهود، وأن النصر في النهاية سيكون للمسلمين على اليهود، وأن كل شيء سيكون في صفِّ المسلمين حتى الحجر والشجر، وأن كلاًّ منهما سينطق دالاًّ على أعدائهم، سواءٌ كان نطقًا بلسان الحال أم بلسان المقال (يشير إلى هذا الحديث المُتَّفق عليه عن ابن عمر وأبو هريرة).

وقد روى أبو أُمامة الباهلي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تَزال طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهم من جابههم، إلا ما أصابهم من لأواء (أي أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" (رواه عبد الله بن أحمد في المسند 5/269، وقال: وجدته بخطِّ أبي.. وقال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد "وجادة عن أبيه" ورجاله ثقات "7: 288").

-------
* لخصت هذه المادة مع بعض التصرف من كتاب فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي- أمد الله في عمره- بعنوان "القدس قضية كل مسلم".