منذ ظهور الصوفية الإسلامية في القرن الرابع الهجري تقريبًا، كان لأضرحة الصوفيين وطرقهم ومعتقداتهم تأثير هائل على كل أرجاء العالم الإسلامي تقريبًا، ولذا انتشرت في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي لقربها من فطرة الإنسان وعشقه للتدين، وذلك في الفترات الأولى التي كانت الصوفية تعبر عن المعنى الصافي للإيمان وقبل أن يلوثها الزيف والخزعبلات التي صحبت بعض الصوفيين على مدار التاريخ، وزادت بانتشار التشيع وسط الأمة الإسلامية، حتى أصبحت الصوفية هي الركيزة الأولى لكل مستعمر – والذي كان يحرص على انتشار الصوفية في مواجهة الحركات الجهادية – أو في أيدي الأنظمة المستبدة في العالم الإسلامي أو الغربي، حتى أصبحت جلّ همها وأهم إنجازاتها نحو الأمة والمجتمع أنها أقامت الموالد، وأحيت مناسبات الأولياء، ويتضح لنا ذلك في التقرير الذي أورده موقع "أمان" تحت عنوان [تعرف على أبرز إنجازات "الأعلى للصوفية" خلال عام 2019م]: كشف المجلس الأعلى الطرق الصوفية عن إنجازاته خلال عام ٢٠١٩؛ حيث قال على لسانه رئيسه الدكتور عبد الهادي القصبي: إن المشيخة العامة الطرق الصوفية والمجلس الأعلى للطرق الصوفية لم يخرجوا من عام ٢٠١٩ بخفي حنين، بل إنه كان للمجلس بعض المكاسب والإنجازات من أهمها "البدء في إنشاء المعهد الصوفي الإسلامي، والانتهاء من تدشين مقر الطرق الصوفية الجديد، إضافة إلى إصدار قرار رسمي لتجديد مساجد الأولياء والصالحين من شيوخ التصوف، وكذلك الحفاظ على الأضرحة والمقامات الصوفية القديمة والجديدة().

لن أتحدث في هذا البحث عن العقيدة الصوفية ومدى توافقها مع شرائع الإسلام من عدمه، ولا عن تاريخها منذ أن بدأت في العراق وامتدت مع انتشار الدولة الفاطمية بالمغرب ثم مصر، ولا عن وقوفها الدائم في وجه الحركات الجهادية وتعايشها في ظل المستعمر والأنظمة المستبدة؛ لأنها تجد مصلحتها معهم كما يجد النظام المستبد أنها ربما تكون عوضًا عن حركات الجهاد والإسلام السياسي.

لكني هنا سأتحدث عن الانفجار الأخير الذي يكاد أن يهدد البيت الصوفي بمصر وعلاقتها الدائمة بدولة العسكر منذ ثورة 1952م حتى وقوفها بجانب السيسي في كل ما يفعل.

ظهرت الصوفية في مصر بشكل فردي في بداية ظهورها، غير أنها ومع دخول الفاطميين مصر أخذت شكلا آخر، وتحولا جديدا، وتقديسا للشخصيات – خاصة ممن ينتسب إلى آل البيت – والإتيان بأفعال ربما لا يقبلها العقل أحيانا ثم – ولطيبة الشعب المصري – انتشرت فكرة الموالد وأصبحت سمة من سمات الصوفية في مصر والعناية بقبور الأولياء.

ولقد ساعدت الظروف الاجتماعية على عمومية بعض الأفكار الدينية وانتشارها في معظم مدن مصر القديمة؛ نظرًا لسهولة الانتقال بين مدن مصر عبر النيل من الجنوب إلى الشمال مما ساعد على نقل الأفكار والعادات الدينية من مكان لآخر، فنرى جمهور الموالد يتنقل من مولد لآخر بكل سهولة، ولا يقتصر كل مولد على جمهوره، ولم يستخدم المصريون مصطلح الموالد وإنما استخدموا مصطلحًا آخر هو الأعياد التي تعددت في مصر القديمة.

وقد اشتهر العصر الفاطمي بالمبالغة في إحياء الأعياد والمواسم، والدافع لهذه الظاهرة لا يرجع إلى الثراء الذي تمتعت به الدولة الفاطمية فحسب وإنما يرجع أيضًا إلى نشر الدعوة الفاطمية ومحاولة الدعاية لها ولهؤلاء الحكام الجدد.

ثم انتشرت الفكرة مع استقرار بعض علماء الصوفية وأقطابها مصر، أمثال السيد البدوي وإبراهيم الدسوقي، وبدأ التوسل بالأولياء والمشايخ لتحقيق الماّرب والغايات، وآمن الناس في ذلك العصر بهؤلاء الأولياء الصالحين حتى نسبوا إليهم كثيرًا من الأعمال الخارقة للعادة وأسموها بالكرامات، وقد استتبع ذلك الاعتقاد الكبير في الاّولياء العناية الفائقة بإحياء موالدهم السنوية في الجهة أو البلد التي يوجد فيها قبر الولي().

انتشرت الصوفية  بمصر في القرن الرابع الهجري، غير أنها لم تأخذ شكل التقنين، إلا في عهد محمد علي باشا؛ حيث إنه يعد أول حاكم مصري قنّن وضع الصوفية.

وتطورت التنظيمات الإدارية للطرق الصوفية في مصر منذ القرن الـ19 الميلادي أو ما قبله بقليل، فأصبح للطرق الصوفية مشيخة عامة تمثل كل الطرق الصوفية وتتحدث باسمهم.

ويبلغ عدد الطرق الصوفية بمصر نحو 77 طريقة، 67 منها مسجل بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية [نشأ عام 1976م]، والباقية غير مسجلة، وأشهر الهيئات الصوفية بمصر هى المجلس الأعلى الذى يترأسه الدكتور عبدالهادى القصبي في وقتنا الحالي (2019)، والاتحاد العام لتجمع آل البيت، ونقابة الأشراف.

الصوفية ودولة العسكر

بادلت الطرق الصوفية الدولة المصلحة؛ حيث سمحت الدولة لهم بنشر المعتقدات الروحية، وتنظيم الموالد، وتجنيد الأتباع، في مقابل الطاعة التامة لسلطات الدولة. هذا، مع ذلك، لا يترجم إلى علاقات متناغمة طيلة الوقت مع الحكومات.

ولذا تميزت العلاقة بين الصوفية والنظم السياسية الحاكمة على مر العصور بالود والمهادنة في معظم فتراتها؛ حيث لم تشهد أي صدام حقيقي يعكس حالة التوتر في العلاقات بين الطرفين، وهو ما يفسر صعود نجم التيار الصوفي في مصر تحت مرأى ومسمع وكنف الحكومات المتعاقبة.

وبعد ثورة يناير حاول الصوفيون – خاصة الزعماء – إيجاد مكان لهم وسط اللعبة السياسية، غير أن الشعبية الجارفة لجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين خيبت أمال زعماء الصوفيين من أن يجدوا مكانًا لهم ولذا عملوا على مجابهة الإخوان.

الموقف العدائي للطرق الصوفية تجاه الإخوان والسلفيين لم يكن موقفًا دينيًّا ولا وطنيًّا كما سعت إلى الترويج له، لكنه كان صراعًا على النفوذ، وحين أيقنت فشلها في تحقيق المكاسب المرجوّة سعت إلى الانقلاب عليهما، وهو ما تجسد في دورها فيما بعد().

يقول الباحث في مركز الأهرام الاستراتيجي عمرو رشدي: الصوفية رأت أن إسقاط الرئيس محمد مرسي واجب شرعي وجب على جميع المنتمين للبيت الصوفي الاشتراك فيه، وخاصة أن منهج جماعة الإخوان يرفض المنهج الصوفي ويصفه بالمنهج الكفري المليء بالبدع والخزعبلات مما جعل المتصوفة يخرجون عن بكرة أبيهم إلى ميدان التحرير لإسقاط نظام جماعة الإخوان.

ولذا دعموا السيسي – عدو الإخوان الأول - فتحْت شعار "لا إله إلا الله السيسي حبيب الله" توجه وفد من مشايخ الطرق الصوفية للقاء السيسي، على رأسهم محمود الشريف نقيب الأشراف، وعبد الهادي القصبي رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية، وذلك في مايو من 2014، لإعلان دعمه في الانتخابات الرئاسية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تعلن الطرق الصوفية تأييدها مرشحًا بعينه.

ولقد سعى نظام السيسي إلى توظيف الصوفيين بجانب كونهم قاعدة شعبية إلى تصديرهم كظهير ديني مستأنس بديل للإخوان والسلفيين.

حيث تمحورت أهداف النظام في شقين اثنين؛ الأول: كسب تأييد التيار الصوفي سياسيًّا والعزف على هذا الوتر إعلاميًا وإن لم يكن لديه القاعدة الشعبية التي طالما يسعى شيوخه لتأكيدها، وهي ما يكذبها الحضور السياسي لهم وعلى رأسها تضاؤل حضورهم الانتخابي في 2012 وما بعدها، وهو ما يطرح السؤال: كيف لتيار يبلغ حجمه 15 مليونًا كما يقال لا يستطيع أن يحقق مكاسب سياسية في أي استحقاق انتخابي حتى الآن؟

الثاني: مناهضة التيارات الإسلامية الأخرى وفي مقدمتها الإخوان والسلفيون وإقصاؤهم خارج المشهد السياسي، من خلال تقديم بديل لهم يتمتع بشعبية ليست بالقليلة وربما تفوق شعبية التيارين الآخرين، فضلاً عما يتميز به من تقديمه لفروض الولاء والطاعة ومن ثم يمكنه أن يكون ظهيرًا دينيًا للنظام.

وبالفعل حصل زعماء الصوفية على المناصب والوجاهة السياسية، وأصبح لهم حضور كبير في الاعلام، إلا أن ذلك لم يُرضِ المريدين – خاصة شباب الصوفية – مما أدى إلى انفجار البيت الصوفي().

الانفجار

على الرغم من المميزات الكثيرة التي ينعم بها الصوفية في ظل حكم عبدالفتاح السيسي – والذي استفاد منهم في مواجهة الإخوان – تفاجأ الجميع بنشوب صراع قوي، يشهده البيت الصوفي أواخر عام 2019م على خلفية ما اسمته المشيخة العامة للطرق الصوفية بالتمرد على المجلس الصوفي الأعلى وشيوخه من قبل مجموعة من الشباب المنتمي لبعض الطرق الصوفية وبمساعدة بعض الشباب الآخر الذي لا ينتمى لطرق صوفية.

بدأت القصة حينما أعلنت مجموعة من الشباب الصوفي طباعة استمارات لسحب الثقة من المجلس الصوفي الأعلى واختيار اعضاء جدد وشيخ مشايخ جديد وذلك بالانتخاب الحر المباشر من قبل المريدين وليس الشيوخ كما يحدث بشكل دائم.

حيث قال النادي عبد الرؤوف، أحد أعضاء الحراك الصوفي المطالب بالتغيير عبر صفحته بالفيس بوك: إن شيوخ الطرق الصوفية اتهموه بأنه مموّل من قبل جماعة الإخوان الإرهابية لعمل زعزعة في البيت الصوفي وإثارة الفوضى وبث الفتنة بين الشيوخ ومريديهم؛ الأمر الذي نفاه النادي شكلاً وموضوعًا؛ حيث أكد أن الحملة الصوفية المطالبة بالتغيير تسير في طريقها بنجاح، وتم توزيع آلاف الاستمارات التي تطالب برحيل القصبي وأعضاء المجلس الصوفي الأعلى، وسيتم إرسال هذه الاستمارات لرئاسة الجمهورية لكي نقول للرئيس السيسي، إن شعب الصوفية في مصر مستاء من شيوخ المناصب والكراسي ويجب تجديد الدماء في الطرق الصوفية ().

وأضاف النادي: إن حملة التمرد الصوفية على المجلس الأعلى للطرق الصوفية، تقوم بدورها على أكمل وجه، وذلك من خلال التواصل مع شباب الطرق الصوفية، من كافة أنحاء الجمهورية، وذلك لجمع أكبر عدد من أتباع الطرق الصوفية، المطالبين بإزاحة شيخ مشايخ الصوفية عبدالهادى القصبي ومجلسه.

ووصل الحال بهؤلاء الشباب أن هاجموا الشيخ علي جمعة – شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية – لمساندته المجلس الأعلى للطرق الصوفية ورئيسه الدكتور عبد الهادي ونقابة الأشراف ونقيبها السيد محمود الشريف، حيث فجّروا أسرارًا وفسادًا داخل نقابة الأشراف والمجلس الأعلى للصوفية؛ حيث قالوا: إن نقابة الأشراف تقوم بتزوير الأنساب، وبيع أنساب الأشراف مقابل دفع أموال لها، وهذا يؤكد أن هذه النقابة تسير في طريق الضلال والفساد().

دفع ذلك زعماء الصوفية إلى استشعارهم الخطر، وأن هؤلاء الشباب سيكشفون عن فسادهم؛ ما دفعهم لاتهام هؤلاء الشباب بأنهم مغيبون وممولون من الخارج، وطالبوا المشيخة العامة الطرق الصوفية بسرعة إبلاغ الجهات الأمنية للقبض عليهم والتحقيق معهم، بعد هجومهم على جميع مشايخ الطرق الصوفية.

وهكذا يزداد الانفجار داخل البيت الصوفي في مصر والذي يحاول زعماؤه الاحتماء بالنظام والدولة.

ويبدو أن هذه الحملة المطالبة بالإصلاح والتصدي لفساد رئيس الطرق الصوفية ومعاونيه ونقيب الأشراف قد لاقت صدى كبيرًا في الفضاء الصوفي؛ ما دفع بعلاء أبو العزايم إلى أن يدلي بدلوه في اتهام الشباب المتمرد بقوله: الشباب المطالبون بإسقاط الأعلى للصوفية "مغيبون وسنحاسبهم بالقانون، وإن هؤلاء الشباب المتمرد ليس من حقهم المطالبة برحيل المجلس؛ لأن المجلس منتخب من قبل السادة شيوخ الطرق الصوفية، ولذلك وجب على هؤلاء الشباب الابتعاد عن طريق أهل التصوف لأنهم خالفوا طاعة شيوخهم.

الغريب في الأمر أن هذا ليس أول تمرد في عهد السيسي ضد ما سمي بفساد شيخ مشايخ الطرق الصوفية الشيخ القصبي ومجلس المشيخة ونقابة الأشراف، بل حدث تمرد عام 2014م والذي قاده أيضًا أحد شباب الطرق الصوفية، ويدعى محمود ياسين الرفاعي، والذي صرح وقتها بقوله: إن شباب الطرق الصوفية يستهدفون جمع آلاف التوكيلات من شباب ومريدي الصوفية بجميع أنحاء الجمهورية للمشاركة في إسقاط شيخ مشايخ الطرق الصوفية عبدالهادي القصبي بعد ظهوره على حقيقته أمام الرأي العام المصري وظهوره بأنه يجيد الأكل على كافة الموائد، فوقت ما كان يحكم الحزب الوطني صار القصبي في رحابه، ووقتما حكم الإخوان لهث وراءهم من أجل المنصب، وبعد وصول المشير السيسي خدع الجميع وذهب للسيسي بمفرده، مؤكدًا له أنه سيقف معه ويسانده، وهذا يدل على أن القصبي ليس له مبدأ ثابت، وعلى ذلك فنحن ماضون في طريقنا لجمع التوكيلات من أبناء الصوفية بمصر وخارجها().

كما قام بعض شباب الصوفية بإعلان تأسيس "ائتلاف الصوفيين المصريين" بزعامة مصطفى زايد، سكرتير الطريقة الرفاعية، مطالبين بإلغاء التوريث في اختيار شيوخ الطرق، وجعل ذلك عبر الانتخاب.

وهكذا حرّك فساد زعماء الصوفية شبابها والمريدين، منددين بما يجري داخل المشيخة ونقابة الأشراف من بيع النسب الشريف ومن تفشي مظاهر الفساد في المجلس.

------------
المراجع:

()  تعرف على أبرز إنجازات "الأعلى للصوفية" خلال عام 2019م: الأحد 5/يناير/2020م، موقع أمان، https://bit.ly/2FoCCr4

()  المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، مكتبة دار السلام، القاهرة، 2017م، صـ 446.

()  عماد عنان: مرجع سابق.

()  عماد عنان: مرجع سابق.

()  موقع البينة للدراسات والأبحاث الوهابية: https://bit.ly/35Fm09c

()  عمرو رشدي: متزعم التمرد الصوفي يهاجم علي جمعة ونقابة الاشراف، الأحد 5 يناير2020م، https://bit.ly/2QCSyMY

()  تمرد الصوفية: نستهدف جمع خمسة ملايين توكيل لإسقاط القصبي، الجمعة 1 أغسطس2014م، https://bit.ly/2QAC1Jk