ودعت تركيا السبت 19 أكتوبر2019م، شاعرها الكبير نوري باكديل (1934-2019م) الذي توفي في اليوم السابق، عن عمر يناهز 85 عامًا في مستشفى المدينة الطبية بالعاصمة أنقرة؛ حيث كان يُعالج من التهاب الجهاز التنفسي. نعت الإدارة التركية الشاعر الرحل، وشيعته بأعلى مستوياتها، فقد عبّر الرئيس رجب طيب أردوغان عن مشاعره تجاه الفقيد الكريم في تغريدة على موقع تويتر. وترحّم عليه وقدم العزاء لمحبيه، قائلا: "أترحم على شاعر القدس السيد نوري باكديل أحد ألمع رجال الأدب.. جعل الله مثواه الجنة".

وشارك في صلاة الجنازة على الأديب والشاعر الراحل بمسجد حاجي بيرم ولي في العاصمة أنقرة، عدد كبير من المسئولين إلى جانب أسرته وذويه ومحبيه؛ ومنهم: رئيس البرلمان مصطفى شنطوب، ونائب رئيس الجمهورية، فؤاد أوقطاي، ووزراء العدل والداخلية والصناعة والتكنولوجيا والرياضة والشباب.. وأمّ المصلين الرئيس السابق للشئون الدينية في تركيا، محمد غورماز. وعقب الصلاة قرأ أحد الشبان قصيدة من قصائد شاعر القدس. وجرى نقل الجثمان إلى تكية تاج الدين، ليوارى الثرى.

وامتلأت منصات التواصل الاجتماعي بعزاء المواطنين ورثاء نوري باكديل والإشادة بمواقفه تجاه القدس والأمة الإسلامية واهتمامه بجراحات المسلمين المظلومين في كل مكان.

لقد عاش نوري باكديل حياته يدافع عن القدس وقضيتها العادلة وعبر عن ذلك في بعض قصائده قائلا:

"أحمل القدس كما أحمل ساعة يدي"، و"امشِ أخي، ولتُهَب قوة القدس".

ولد باكديل عام 1934م في ولاية قهرمان مرعش جنوبي تركيا، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة إسطنبول لكنه رفض العمل محاميا لتعارض ذلك مع مبادئه.

وقد نشر أول أعماله في الشعر و المقالات في صحيفة مراش، وأسس مجلة الأدب (فبراير 1969م) ومجلة الأدب المنشورات (1972م).  وخلف وراءه أكثر من أربعين كتابا. وعدّ الأكاديمي التركي "حرّ محمود يوجر" مجلة "الأدب" التي أصدرها الشاعر الراحل في نهاية الستينيات عملا "ثوريا إسلاميا"، فقد كانت لغتها الشعرية مثيرة للدهشة فهي تجمع "الأسلوب اليساري" مع الثوب الديني، واهتم في تلك المجلة بترجمة وتقديم شعراء عرب للقراء الأتراك، مؤمنا بضرورة التواصل الأدبي بين بلدان وثقافات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

وعلق نوري باكديل على القطيعة والتجاهل لأدب العرب، مستنكرا: "تتبعنا الأدب في أميركا اللاتينية وأقاصي الدنيا، وأهملنا العالم العربي الكبير بجانبنا". التركي هو جزء من الشرق الأوسط وعمل على بناء الحضارة هنالك. ويشير إلى أن أحد أهم أهداف التغريب في عام 1923م في تركيا- تاريخ سقوط الخلافة- كان عزلنا عن باقي الدائرة الحضارية في المنطقة. ومن حسن الحظ، باءت هذه المحاولات بالفشل.

كان من الطبيعي أن يتوجس من المجلة المثقفون اليساريون والمحافظون اليمينيون على حد سواء، لكن المجلة تابعت منشوراتها عبر مجموعة من الأدباء الذين اشتهروا باسم "الرجال السبعة الطيبون" الذين يعدون امتدادا لجيل من الأدباء الأتراك المحافظين، ضم أسماء تركية كبيرة مثل "سلطان الشعراء" نجيب فاضل والشاعر سيزائي كاراكوج وعصمت أوزال.

ويعلن نوري بوضوح: "أفتخر بهويتي الاسلامية، وأرى بأنني الى جانب جميع المسلمين بحاجة الى معلم واحد، وقائد واحد ألا وهو النبي محمد- صلى الله عليه وسلم.  واعتبر نفسي من الافراد المدافعين عن الحضارة الاسلامية، حيث إنني أتمنى العودة لحضارتنا مجدداً"( حوار مع أخبار البلد، القدس،23 كانون أول 2017م).

ويؤكد هذه الهوية حين يرى أن يوم 29 مايو، اليوم الذي أصبحت فيه إسطنبول مدينة إسلامية، هو يوم ميلاده. وأن كتاباته تحدد هويته وشخصيته، حيث إنه يعتقد أن الكتابة بمثابة الدخول في معركة لقتال أي شكل من أشكال التغريب، ونقد النظام الامبريالي الفاسد. ومن اجل فهم أعمق لهذا الجانب، ينصح بقراءة جميع إعماله المسرحية، والشعرية والنثرية التي تم نشرها.

وفيما يعد تحديا لنخبة أدبية تركية ذات هوى علماني، يرى باكديل أن الأدب يجب أن يتغذى من القرآن أو بتعبيره "يجب أن يكون أدبا مبايعا"، وعند ذلك يتصف بالحكمة ويصل للحقيقة، بحسب "مذكرات كاتب" المنشورة في مجلة "الأدب" عام 1980م.

يرى الكاتب التركي سوافي كمال أن لكل كاتب قضية يدور حولها، "فالشرق الكبير" كان مشروع نجيب فاضل، و"جيل عاصم" كان هدف شاعر الاستقلال التركي محمد عاكف آرصوي، بينما "القدس" هي موضع اهتمام نوري باكديل.

القدس تعيش في دماء نوري باكديل، تعيش معه في الحل والترحال. اشتهر حين يسافر أنه يأخذ معه دائما ثلاث صور، هي صورة القدس وآلة كاتبة وحقيبة يد، وفي ديوانه يتناول القدس بصفتها أُما، ومعراج النبي والمنطلق للعالم للعلوي، وهي أيضا قلب الحضارة الإنسانية، معتبرا أنها قِبلة تركيا "التي انكسرت رقبتها وهي تنظر إلى الغرب".

يضم ديوان "الأمهات والقدس" أعماله الشعرية وحركته الفكرية والأدبية على حد سواء، ومع رمزية باكديل الشعرية المفرطة فقد ترجم الأكاديمي التركي "حر محمود يوجر" بجامعة العلوم الصحية التركية مقاطع من أشعاره في ديوان "القدس والأمهات"، يقول في بعض أبياتها:

عِش جبل الطور

أين قبلتك يا قدس

أحمل القدس مثل ساعة في يدي

إن لم تضبط الوقت وفق القدس

 يضيع الوقت هباء

 تتجمد

 وتعمى عينك

 تعال

كن أُما

لأن الأم تبني قدسا من طفل

عندما يصبح المرء أبا

يحيي القدس في قلبه

كيف فقدنا عشرة ملايين متر؟

  ويقول الشاعر نوري: أنا كاتب مؤمن بالقضية الفلسطينية ولطالما وضعت جهوداً خاصة لدعمها. في عالمي لإسطنبول مكانة خاصة، ولكن للقدس مكانة اكثر قدسية. أرض القدس هي آخر ما لمست قدما الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يعرج للسماء. ومن اجل أن يفهم الفرد سر الوجود والحياة، عليه ان يحب مكة، المدينة المنورة، اسطنبول والقدس. نصف القلب لمكة المكرمة، والنصف الآخر للمدينة المنورة، أما القدس فهي كالستار المسدل عليهما. وأعتبر أن الدفاع عن القدس هو الدفاع عن الحرية.  وفي إضافة أخرى يقول: لقد قمت بزيارة القدس في مارس الفين وخمسة عشر. لقد كنت أشعر بحماس شديد لهذه  الزيارة، وعلى عكس المعتقد السائد بأن القدس هي صحراء، فقد اكتشفت بأن القدس هي جنة خضراء.

ويعبر عن محنة الشعب الفلسطيني بالاحتلال الصهيوني قائلا: من السهل جداً رؤية الإرهاب الصهيوني في كل مكان في فلسطين، حيث إن الشوارع تمتلئ بالجنود الصهاينة الذين عانينا منهم بشكل مستمر(في أثناء زيارته للضفة). القدس محاطة بما يشبه جدار برلين العنصري، والصهاينة لديهم القدرة على منع الفلسطينيين من الصلاة في المسجد الأقصى. إذا رجعنا إلى الماضي القريب، فإن القدس كانت جزءا لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية العظيمة، وبعد إسقاط عبد الحميد الثاني، تم تنفيذ الخطط التقسيمية الاستعمارية في الشرق الأوسط. وتم تأسيس الدولة الصهيونية من قبل الغرب بهدف تمزيق الوحدة الإسلامية في الشرق الأوسط. الكيان الصهيوني يمارس اليوم أبشع أشكال الإمبريالية والوحشية على الشعب الفلسطيني. إن الغرب مازال يخشى الشرق الأوسط، الذي من الممكن أن يعود متحداً ويعيد الحضارة الإسلامية لقوتها. ومن أجل منع حدوث هذا الأمر، فإن الغرب يهاجم الأمة الإسلامية بشكل وحشي.  

في عام2015م افتتحت مدرسة 'نوري باكديل' للإناث غرب مدينة نابلس الذي عمل الشاعر على إنشائها وحضر حفل الافتتاح مع مجموعة من كبار المسئولين والشخصيات الفلسطينية، والسفير التركي الذي تبرعت حكومته للمدرسة بمليون وربع مليون دولار لبناء المدرسة وإعادة إصلاح وترميم المدرسة الفاطمية في نابلس.

وقد رثاه رجل الدين المسيحي الفلسطيني الأب إيمانويل مسلم، بقوله:

– “يا شاعر القدس، أنت في بؤبؤ عين القدس اليَقِظَة وإن كان جسدك الطاهر دفينا في أنقرة/ من يذكر القدس في الأرض تذكره القدس أمام عرش الله وتطلب له الرحمة والغفران مع شهداء القدس...”.

نوري كالديل رمز لليقظة الأدبية في الأمة الإسلامية. رحمه الله.