عندما نتحدث عن الأدب الإسلامي فإننا لا نستطيع أن ننسى أسماءً عظيمة قدمت لنا أدبًا إسلاميًا راقيًا، من هذه الأسماء التي اعترف لها الجميع بالموهبة الفذة والقدرة الأدبية الكبيرة الأستاذ / علي أحمد باكثير الحضرمي، والذي أثرى الحياة الأدبية المصرية والعربية على مدى سنين طويلة بفنه الراقي، الذي كان سلاحه القوي في الدفاع عن الإسلام ودعوته للإصلاح والتجديد.

وفي ذكرى وفاته نستعرض شيئا من حياة الراحل الكريم، التي حفلت بتاريخ من النبوغ والفكر والأدب وخدمة الإسلام.

يقول الأستاذ "علي أحمد باكثير" عن رواياته:

"إنني أسعى في مسرحياتي إلى تحقيق هدفين: الهدف الأول سياسي والثاني إنساني، أما الهدف الأول فمحوره الدعوة إلى الوحدة العربية، مثل مسرحية إخناتون ونفرتيتي، ويتدرج منها كل كفاح سياسي في القضايا العربية.

أما الهدف الإنساني فهو يتعلق بالتعبير عن روح الإسلام ومثله العليا ونظرته إلى الكون والحياة.

وسبيلي في تحقيق هذا الهدف أن أعالج الأساطير المختلفة العربية والأجنبية، حيث أسكب فيها مضمونًا إنسانيًَا يعبر عن هذه النظرة الإسلامية المتكاملة الصالحة لكل عصر وكل مكان مثلما فعلت في مأساة أوديب وفاوست الحديثة والفرعون الموعود، وأحيانًا أتخذ من الأحداث التاريخية وسيلةً لتحقيق هذا الهدف مثلما فعلت في سر الحاكم بأمر الله ودار ابن لقمان".

علي أحمد باكثير .. المولد والنشأة

    ولد علي أحمد باكثير في مدينة "سواربايا" بجمهورية إندونيسيا عام 1910 من أبوين عربيين من "حضرموت" وينتميان إلى قبيلة "كندة" اليمنية المشهورة.
    ولما بلغ الثامنة من عمره أرسله والده إلى "حضرموت" لينشأ نشأة عربية خالصة، فتلقى "باكثير" ثقافته العربية الأولى في مدينة "سيوومن" الحضرمية بدءًا من الكُتاب وانتهاء بالمرحلة الثانوية.
    وفي عام 1933م ذهب إلى مصر والتحق بكلية الآداب قسم "اللغة الإنجليزية" بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) وتخرج فيها عام 1939، ثم التحق بمعهد التربية للمعلمين وتخرج فيه عام 1940م.
    وبعد انتهاء الدراسة فضل الإقامة في مصر حيث أحب المجتمع المصري وتفاعل معه فتزوج من عائلة مصرية محافظة، وأصبحت صلته برجال الفكر والأدب وثيقة، من أمثال "العقاد" و"المازني" و"شكري" و"محب الدين الخطيب" و"نجيب محفوظ" و"صالح جودت" .. وغيرهم.
    عمل بعد تخرجه من الجامعة بالتدريس في مدينة "المنصورة" وظل في هذا العمل فترة من الزمن، وفي عام 1950 انتقل إلى القاهرة وواصل نشاطه الأدبي والثقافي، وحصل على الجنسية المصرية عام 1953.
    وقد شارك في كثير من المؤتمرات الأدبية والثقافية واختير عضوًا في لجنة "الشعر والقصة" بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، كما كان عضوًا في "نادي القصة" وحصل على منحة تفرغ لتأليف ملحمة تاريخية عن "عمر بن الخطاب".

حصل على عدة أوسمة وجوائر منها:

    في عام 1962 حصل على جائزة الدول التشجيعية للآداب والفنون، كما حصل على وسام "العلوم والفنون" من رئيس الجمهورية.
    وفي عام 1963 حصل على وسام "عيد العلم" كما حصل على وسام "الشعر" في مهرجان محافظة "الجيزة" الذي أقيم تكريمًا لذكرى الشاعر أحمد محرم.
    ترك لنا إنتاجًا أدبيًا وفيرًا حيث ألف أكثر من ستين قصة ورواية، بين مسرحية شعرية ونثرية تناولت الدراما، والكوميديا.
    وقد أدركته الوفاة في غرة رمضان من عام 1389هـ الموافق العاشر من نوفمبر 1969 إثر أزمة قلبية حادة، ودفن بمدافن الإمام بمصر، وهو في حوالي التاسعة والخمسين من عمره.

باكثير وأعماله الأدبية

عاش "علي أحمد باكثير" حياة الأديب الملتزم، فقد وهب حياته لفنه، فن اليوم الأول الذي عرف فيه أنه صاحب قلم وصاحب كلمة يقولها، آمن بأنه صاحب رسالة، ودعا إلى الإصلاح وإلى الحرية وإلى التجديد.

وكان الكاتب يعشق الشعر وينظمه في مستهل عهده بالأدب.

ولقد تنوع إنتاجه الأدبي وأصبح شاعرًا وناثرًا ومترجمًا يكتب المسرحية والقصة والمقالة ويقرض الشعر.

قصيدة نادرة

في حفلة تأبينية كبرى أقيمت لشهيد عربي- قتل ظلمًا- قال الأستاذ علي أحمد باكثير قصيدة كانت حديث المجتمعين كلهم؛ لأن الشاعر قد انتحى منحىً مفاجئًا، إذ جاء بالقصيدة على لسان البطل الشهيد يقول عنها:

"إنها قيلت في الشهيد العراقي "صلاح الدين الصباغ" وقد وقف في وجه الإنجليز .. ولسوء حظه وقع في يد من قبض عليه لينفذ فيه حكم الإعدام علنًا ببغداد، فهاج الرأي العربي العام في كل مكان، فتأججت مشاعري فقلت هذه القصيدة مبتدئًا بقولي على لسان الشيهد:

فيم احتشادكمو هذا لتأبيــــني              أنتم أحق بتأبين الورى دونـي
إني نزلت بدار الخــلد في رغدٍ              بين الخمائل فيها والريــاحين
في جنة ما بها خوف ولا حـزن              لولا رثاء لحال العرب يشجيني
لا تندبوني فإني لم أمت ضـرعًا              فإن علمتم عني الـذل فابكوني
وإن تريدوا لوجه الله تكــرمتي              فابغوا الشهادة للدنيا وللديــن
فأين الولـيد على اليرموك يرقبكم             وليث أيوب يرعاكم بحطــين

الروايات

ترك لنا "علي أكمد باكثير" تراثًا أدبيًا كبيرً، لم يترك مجالاً من مجالات القضايا السياسية والاجتماعية دون أن يعرض له في مجال: التاريخ الإسلامي العربي، الأسطورة التاريخية، التاريخ العربي المعاصر، فلسطين وإسرائيل، وذلك بالإضافة إلى الشخصيات التاريخية الباهرة "الحاكم بأمر الله، والثائر الأحمر، وشهرزاد، وجحا، والفرعون الموعود، وعمر بن الخطاب، وشجاع، وقطز... إلخ".

باكثير.. والرواية الإسلامية

تأثر "علي أحمد باكثير" بالأدب العربي القديم والحديث وكانت الثقافة العربية متأصلة في نفسه فعكف على دراسة التاريخ وخاصة التاريخ الإسلامي وقد استوحى فيه أكثر أعماله الروائية

الإسلامية منها:

"سلامة والقس"، و"الثائر الأحمر"، و"وا إسلاماه"، ... وغيرها، كما أن معظم رواياته ومسرحياته قد اتسمت بالطابع الملتزم بأخلاق الإسلام ومبادئه السامية، والتي عبر عنها "باكثير" أجمل وأفضل ما يكون.

ويمكننا أن نتناول هذا اللون الإسلامي في روايات علي أحمد باكثير من خلال النظر في بعض نماذج من رواياته التي تعبر تعبيرًا صادقًا عن اتجاهه الإسلامي الخالص:

سلامة والقس

وتصور هذه القصة فن "باكثير" تصويرًا مبسطًا، برزت فيه الجوانب الإنسانية للقصة، فقد اختار شخصياتها عربية وإسلامية، وتدور أحداثها في العصر الأموي حول "عبد الرحمن الناسك" الذي لقب بالقس لكثرة عبادته، والذي يلتقي بـ"سلاَّمة" المغنية الطروب، فتسمعه آيات من كتاب الله فيتعلق بها، وينشأ بينهما حب كامن.

فيقع في صراع بين حبه لله وحبه لسلاَّمة، ويشتهر حبه لسلامة فيقرر تدبير المال لشرائها من سيدها، ولكنه يفاجأ ببعيها للخليفة.

وهنا يحدث التحول الإنساني في حايته فيتحول إلى الجهاد عزاءً لنفسه، ويصاب بجرح بالغ فينقل إلى الخليفة، حيث يلقى سلامة في لحظة الاحتضار، ويلفظ أنفاسه الأخيرة، وبعدها بلقاء دائم لا فراق بعده في الآخرة.

وفي هذه القصة - والتي يبدو ظاهرها قصة عاطفية -  يظهر اتجاهه الإسلامي واضحًا في إبراز المعاني الإسلامية الراقية حتى في الحب، وإعلاء قيمة الجهاد وغيرها من القيم الاجتماعية، التي حث عليها الدين الإسلامي.

قصة الثائر الأحمر

وفي هذه القصة أبرز الكاتب علاقة الماضي بالحاضر، وعلاقة التاريخ بالواقع، فهي قصة الصراع بين الرأسمالية والشيوعية في الكوفة، والتي أطلق عليها حركة القرامطة.

وبطلا "حماد قرمط" الذي يعمل أجيرًا عند الإقطاعي "ابن الحضيم" والذي يخطف أخته، فينضم حمَّاد إلى حركة العياريين، والتي تسرق الأغنياء من أجل الفقراء، ويتشرب مبادئم ويصبح زعيمًا لهم، وتنسب الركة بعد ذلك له.

وتصور أحداث القصة كثيرًا من ألوان الصدام الرهيب بين "العياريين" والرأسماليين في "الكوفة" وما حولها كما تبرز ما أقحمته هذه الطائفة - والتي أنشأت لنفسها دولة مستقلة عن الدولة لعباسية - من أفكار وعقائد فاسدة خارجة على مبادئ الإسلام.

ونجح الكاتب أن يشكف لنا عن زيف هذه الدعوة وفسادها، فقد صدم الناس بخيبة أملهم في هذا النظام، ووجدوا أنه يقتل فيهم روح الطهارة والعفة؛ بجعل نساءهم حقًا مشاعًا لمن يريد النيل من عفتهن ما دام التراضي بين الطرفين قائمة، ومن جهة أخرى فقد رأوا أنهم لا يستفيدون من اجتهادهم في العمل إلا بالشيء اليسير من اللبن والجبن، ويحصلون على ما يسترهم من الكساء الخشن الرديء ثم يذهب إنتاجهم إلى الزعماء وأرباب الجاه والنفوذ.

من هنا تهاونت هذه الطبقة الكادحة في العمل، حتى أخذ الضعف والانحلال يدبان في أوصال هذا المجتمع المنحل.

ونجح الكاتب - تمامًا - في أن يبرز لنا من المبادئ والأصول الإسلامية ما يحفظ على المجتمع سلامته وأمنه وسعادته، ويقيه شر الأخطار وينأى به عن الصراع الطبقي المدمر.

ويتضح لنا أن "باكثير" وإن كان قد استهدف من هذا الإطار القصصي التاريخي غرضًا سياسيًا، حاول فيه التوصل إلى إثبات صلاحية الدين الإسلامي لحكم المجتمع وإسعاده ورفاهيته، وربت العدالة الاجتماعية بين ربوعه، فإنه في الوقت نفسه حرص على إبراز ما ينطوي عليه كلا النظامين الرأسمالي والشيوعي من عيوب ونقائص.

باكثير.. وقضية فلسطين

يقول الأستاذ/ أنور الجندي
"غير أن أزمة "باكثير" الكبرى لم تلبث أن انفجرت فكانت بعيدة الأثر في حياته الأدبية كلها منذ ذلك الحين وإلى أن أسلم الروح، هذه الأزمة الروحية العميقة ذات الأثر البعيد في حياة "باكثير" وفكره وآثاره هي قضية فلسطين".

ويصور "باكثير" نفسه هذا المعنى حين يقول:
"على أثر حرب فلسطين التي انتهت بانتصار اليهود على الجيوش العربية مجتمعة انتابني إذ ذاك شعور باليأس والقنوط من مستقبل الأمة العربية والخزي والهوان مما أصابها، أحسست أن كل كرامة لها قد ديست بالأقدام، فلم تبق لها كرامة تصان، وظللت زمنًا أرزح تحت هذا الألم لمعض الثقيل، ولا أدري كيف أنفس عنه!!".

ومن العجب أن "باكثير" عالج قضية فلسطين قبل وقوع الكارثة في ثلاثة مسرحيات:

الأولى: عام 1944 تحت عنوان "شيلوك الجديد" قبل النكبة، وقد تنبأ فيها بنكبة فلسطين وقيام الدولة اليهودية وخروج أهلها العرب.

الثانية: شعب الله المختار.

الثالثة: إله إسرائيل.

ثم كانت مسرحيته بعد نكسة "5 يونيه" بعنوان: "التوارة الضائعة" وكان يرى أن قضية فلسطين "مازالت تنتظر العمل الأدبي الذي يتكافأ مع خطرها وأهميتها".

وهو لا يؤمن بالفصل بين العاطفة والعقل، ولكنه يرى أنه من الطبيعي أن تركز الأعمال الشعرية في قضية فلسطين على العاطفة؛ لأن أولئك الشعراء يصفون الجراح الغائرة التي في قلوبهم.... والرسالة التي يحملها هؤلاء الشعراء هي أن يعمقوا إحساس الأمة بالمأساة ويذكرونها بأنها قضية حياة أو موت، قضية مصير.

أهم أعماله

عاش "علي أحمد باكثير" حياته الأدبية التي تزيد على ثلاثين عامًا في تأليف القصة والمسرحية، فقدم لنا ما يزيد عن 60 قصة ورواية، ما بين مسرحية شعرية ونثرية، منها:

    الملحمة الإسلامية الكبرى "عمر" .
    أحلام نابليون.
    قصر الهودج.
    عودة الفردوس.
    قضية أهل الربع.
    سر شهرزاد.
    إبراهيم باشا.
    الشيماء شادية الإسلام.
    فادست الجديد.
    الوطن الأكبر.
    إمبراطورية في المزاد.
    من فوق سبع سموات.
    روميو وجولييت.
    إخناتون ونفرتيتي.
    سيرة شجاع.
    وا إسلاماه.
    قطط وفئران.
    سر الحاكم بأمر الله.
    مسرح السياسة.
    شيلوك الجديد.
    جلنران هانم.
    السلسلة والغفران.
    أبو دلامة.
    الدودة والثعبان.
    هكذا لقي الله عمر.
    دار ابن لقمان.
    الفلاح الفصيح.
    حبل الغسيل.
    مأساة زينب.
    همَّام في بلاد الأحقاف.
    سلاَّمة.
    الثائر الأحمر.

وغيرها العديد من الروايات والمسرحيات التي نشرت والتي لم تنشر بعد.

قالوا عن أدبه

يقول عنه الأستاذ/ أنور الجندي: "هو ثمرة ضخمة من ثمار المدرسة الوسطى الإسلامية العربية التي استطاعت أن تجمع بين العروبة الأصيلة والتراث الإسلامي والثقافة العصرية الحديثة، يمزج بينهما مزجًا خليقًا بالإعجاب والتقدير، قوامه الإيمان بالعروبة والإسلام معًا والعمل بهما معًا، والالتزام بقضاياهما وبمواجهتهما لتحدياتهما".

يقول المستشار / عبد الله العقيل: "وإنني لأعتبر "الكيلاني" و"باكثير" من الأدباء الموفقين، والذين أحسنوا عرض الأفكار الإسلامية، وعالجوا تاريخ الإسلام وواقع المسلمين وفق التصور الإسلامي الصحيح؛ مما ترك أطيب الأثر في نفوس الشباب والشابات بوجه خاص، وعامة المسلمين بشكل عام".

ويقول إبراهيم عبد القادر المازني عن مسرح "باكثير": "أحسب أن "باكثير" قد وفِّق في اختيار بحر لشعره التمثيلي يسهل وروده على الأذن ويطرد فيه الكلام اطراد النثر".

ويعترف له كمال النجمي بالسبق فيقول: "وكنت أسمي "باكثير" "مخترع الشعر الحديث" أي الشعر التفعيلي، وأقول له أحيانًا مازحًا: لو أنك سجلت اختراعك هذا لما سرقوه منك وادعوا أنهم أصحابه".

ويقول عنه الكاتب الكبير أنيس منصور: "المسرحية والهندسة العقلية".

وعن شخصيته يقول الأديب الكبير عبد الحميد جوده السحَّار: "وجلسنا نتحدث فأحسست أن روحي تنجذب إليه، وشعرت بعد لحظات قصار أنني أمام صديق أعرفه من سنين، لقد تفتح له قلبي منذ اللحظة الأولى التي عرفته فيها، وتيقنت أنني أمام إنسان يمكن أن يمنحه المرء كل ثقته وهو مرتاح الضمير".