تشهد مصر خلال السنوات القليلة الماضية تزايدا مضطردا في معدلات الانتحار، وخاصة بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر 2016م من أجل اقتراض 12 مليار دولار، وإذعان نظام زعيم الانقلاب عبدالفتاح السيسي لشروط وإملاءات الصندوق، وأهمها تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، وتقليص الدعم الموجه للفقراء والمهمشين بصورة كبيرة، وفرض ضرائب ورسوم باهظة ورفع أسعار الوقود والخدمات مثل الكهرباء والمياه وتعريفة ركوب وسائل النقل العامة.
أرقام مفزعة
لا توجد إحصاءات رسمية سنوية بأعداد المنتحرين في مصر، بالنظر إلى أن أهل المنتحرين يرفضون الإعلان عن ذلك، ولذا لا توثق أغلب الحالات، وفق تصريحات مسؤولين بوزارة الصحة. لكن وزارة الصحة أعدت دراسة على عينة من طلاب مرحلة الثانوية العامة قدرت بـ 10638 طالبا، وقالت الدراسة إن 21.7% من الطلبة يفكرون في الانتحار.
ويوم الأحد الماضي 18 أغسطس 2019م، شهد وحده "5" خمس حالات انتحار، بحسب تقرير نشرته صحيفة "العربي الجديد" في مساء ذلك اليوم. ورصدت «المؤسسة العربية لحقوق الإنسان» «53» حالة انتحار في شهر يوليو "2019" فقط، ويؤكد شريف الهلالي المدير التنفيذي للمؤسسة، أن حالات الانتحار في شهر يوليو الماضي، الأعلى بامتياز منذ شهر مارس 2019م، وأن الخمسة شهور الماضية شهدت 203 حالات انتحار. وكان تقرير للمؤسسة قد رصد ارتفاع معدلات الانتحار في يناير الماضي بواقع 12 حالة منها 9 حالات لقيت حتفها بالفعل وكلها لأسباب اقتصادية، وبسبب خلافات أسرية حول تكاليف المعيشة، وفق التقرير.
وكان مركز السموم التابع لجامعة القاهرة أصدر تقريرا عام 2016 يفيد أن مصر تشهد نحو 2400 حالة انتحار باستخدام العقاقير السامة سنويا. وكان تقرير صادر عن مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية أكد وقوع 4 آلاف حالة انتحار لأسباب اقتصادية في الفترة من مارس 2016 إلى يونيو 2017.
وتقول إحصاءات منظمة الصحة العالمية أن هناك 88 حالة انتحار من بين كل 100 ألف مصري، وتشير الأرقام إلى أن الفئة العمرية الأكثر إقبالًا على الانتحار في مصر ما بين 15 و25 عامًا.
وكانت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات أكدت في تقرير لها أن هناك تزايداً ملحوظاً في عدد حالات الانتحار سنة 2018م، ورصدت ما بين يناير وحتى بداية أغسطس أكثر من 150 حالة قام بأغلبها شباب في الفئة العمرية ما بيم 20 و 35 عاماً، ما جعل البعض يدق ناقوس الخطر، كما قام المغردون بإطلاق هاشتاغ #الشباب_بينتحر_علشان.
تزايد الظاهرة حتى بلوغ حد الخطر، يدفع نظام العسكر إلى عدم نشر إحصائيات رسمية حول الظاهرة ومدى تفاقمها، حيث تتحفظ الجهات الرسمية في مصر كثيراً على نشر مثل تلك البيانات لأسباب مختلفة قد يكون منها عدم إثارة الفزع في المجتمع أو منع تصدير صورة سلبية عن أحوال المجتمع إلى الخارج، ومنع نشر مزيد من المعلومات التي ترفع معدلات الإحباط أكثر مما هي قائمة بالفعل جراء فشل النظام سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
ويرى الدكتور عمار حسن خبير علم الاجتماع، ضرورة أن تقوم الدولة بدراسة أسباب تزايد معدلات الانتحار وهو أمر يدخل في نطاق اختصاص كل من الجهات الأمنية التي يجب أن تدرس ما إذا كانت هذه الحوادث نوعا من الاحتجاج السياسي أم لا وكذلك المؤسسات البحثية وعلى رأسها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وكذلك المؤسسات الدينية لتعرف عما إذا كان هذا الأمر ناتج عن عدم ثقة في الدين خصوصا مع اهتزاز صورة كثير من رجال الدين مؤخراً في نظر الناس.
وكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، قد كشف في تقرير لها سنة 2015م، بأن أعداد من أقدموا على الانتحار في مصر قفز من 1160 حالة في 2005، إلى 3700 حالة في 2007، وصولاً إلى 4200 حالة في 2008، فضلاً عن تجاوز أعداد من حاولوا الانتحار 500 ألف في 2015؛ الأمر الذي يعد كارثة مفزعة لجميع المصريين.
أسباب الظاهرة
ويرجع الدكتور أحمد فوزي استشار علم النفس بجامعة عين شمس، ظاهرة الانتحار إلى الاضطراب النفسي، الذي يأخذ صورًا متعددة أبرزها اضطراب الشخصية، الذي يصبح فيها المريض أكثر اندفاعية، وغير قادر على المعيشة وكاره للحياة بصورة كبيرة، فحين يفقد قدرته على جذب أنظار المحيطين به، يلجأ إلى الانتحار فورًا. ويضيف في تحليله للظاهرة، أن ما يقرب من 34% من المصريين يعانون من الاضطراب النفسي، 15% منهم يخططون للانتحار، موضحا أن الاكتئاب أحد أسباب تلك الظاهرة. لكن الاكتئاب هو عرض مرضي تسببت فيه عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية والتي تعتبر المتهم الأبرز في تفاقم هذه الظاهرة.
وبحسب كثيرمن الخبراء والمتخصصين فإن ارتفاع معدلات الفقر وتفشي الغلاء هو المتهم الأبرز في انتشار ظاهرة الانتحار بين المصريين؛ وكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قد ذكر في تقريره الأخير أغسطس 2019م، أن معدلات الفقر في مصر ارتفعت إلى "32,5%، وهي الأرقام التي يشكك فيها خبراء ومتخصصون مؤكدين أن معدلات الفقر تقوق ذلك بكثير وربما تصل إلى 60% بحسب تقديرات تقارير صادرة عن البنك الدولي.
ويرى الدكتور مصطفى شاهين، الخبير والمحلل الاقتصادي أن الغرب عمل على وجود صمام أمان من خلال إنشاء شبكات للضمان الاجتماعي لحماية مجتمعاته. ويتابع: "عندنا في مصر بدلاً من امتصاص الصدمات عن طريق زيادة الإنفاق لخفض معدلات الفقر، يتم العكس، من خلال زيادة الأعباء وتعميق الفوارق الطبقية".
ويتفق مع هذا الرأي، الدكتور أحمد مطر، رئيس المركز العربي للدراسات الاقتصادية مؤكدا أن معدلات الفقر بشكل عام (أي المطلق والمدقع) ارتفعت من 40 في المائة إلى ما بين 53 و56 في المائة في مرحلة ما بعد الانقلاب. ويضيف: "من جهة أخرى، تقدّر المنظمات الدولية الدخل اليومي للواقعين تحت الفقر المطلق بأقل من 3 دولارات (54 جنيهاً)، وتحت الفقر المدقع بأقل من 1.9 دولار (35 جنيهاً)، وعلى اعتبار أن متوسط عدد أفراد الأسرة في مصر هو خمسة أشخاص، ومع افتراض أن كل أفراد الأسرة يعملون، فلن يتعدى الدخل اليومي لكل الأسرة 170 جنيهاً. وهذه الأرقام تكشف الحجم الكارثي للأزمة".
ويعزو مطر، في تصريحات صحيفة، ارتفاع معدلات الفقر إلى عدة أسباب منها، أولاً الصرف على مشاريع وهمية، والإنفاق على المنح والعطايا للمقربين من النظام، بالإضافة إلى الرشاوى السياسية والصفقات، وكذلك تعويم الجنيه، وما تبعه من ارتفاع الأسعار مع ثبات الدخل. ويعتبر أن هذه المشكلات أدت إلى دخول شرائح جديدة تحت خط الفقر.
السبب الثاني هو القهر السياسي، فثمة علاقة طردية بين تزايد معدلات الانتحار وتراجع حقوق الإنسان في المجتمعات؛ فالدول الأكثر انتهاكًا لحريات الإنسان هي الأكثر في معدلات الانتحار، وهو ما كشفته المذكرة الأساسية لبرنامج الحد من الانتحار، الذي أطلقته منظمة الصحة العالمية في 2014، والتي أشارت إلى أن 75% من حالات الانتحار تقع في الدولة الفقيرة والمتوسطة الدخل وذلك على عكس ما كان يعتقد الكثيرون. حيث تتصدر مصر والصين وروسيا وغينيا والسودان وزيمبابوي وبيلاروسيا والمجر وأوغندا قائمة الدول الأعلى في معدلات الانتحار، وجميعها تحتل مراكز متراجعة على مؤشر الشفافية الدولية، وهي دول تتلقى انتقادات واسعة لملفاتها في مجال حقوق الإنسان ومحاربة الفساد.
السبب الثالث لتفاقم الظاهرة، هو الحرب الشعواء التي شنها النظام على التيار الإسلامي والإخوان المسلمون على وجه الخصوص، فقد كان للجماعة آلاف المؤسسات الخيرية التي تم مصادرتها في أعقاب الانقلاب، وبذلك تم حرمان المجتمع من هذه المؤسسات الضخمة التي كانت تسهم في إعانة ملايين الفقراء في مواجهة صعوبات الحياة، وتأمين العلاج والغذاء والملبس والسكن لكثير من محدودي الدخل والمعدمين.
السبب الرابع هو افتقاد القدوة الدينية وتراجع معدلات الإيمان والالتزام الديني، في ظل الحرب الشعواء التي يشنها النظام العسكري على القيم الدينية والرموز الإسلامية المستقيمة التي رفضت حكم العسكر والانقلاب على المسار الديمقراطي. فعمد النظام إلى تشويه هذه الرموز بعد الزج بكثير منها في السجون والمعتقلات بناء على اتهامات سياسية ملفقة ومفبركة. كما أن شيوخ السلطة هم أساسا ليسوا محل قدوة أو احترام لدى القطاع الأكبر من المصريين، وبذلك بات الشباب بين فكي الكماشة رموز دينية محترمة لكنها تحارب وتسجن ظلما وشيوخ سلطة لهم مطلق الحرية لكنها ليسوا أهلا للقدوة أو أن يكونوا أهلا للدعوة إلى الله.
خلاصة الأمر أن الانتحار هو انعكاس لفقدان المصريين الأمل في المستقبل تماما كمحاولات الهجرة غير النظامية، كما أنه يعتبر هروبا من الواقع بعد سرقة الأمل من جيل كان يحلم بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهو ما لم يجده بعد الانقلاب على أهداف ثورة 25 يناير.