لبيك اللهم لبيك
ما أجل عظمة الربوبية، وما أعظم فضل الألوهية، وما أجمل أن يتفضل الله على عباده فيدعوهم إلى بيته العتيق؛ ليغفر ذنوبهم، ويطهر قلوبهم، ويضاعف أجورهم، ويجدد أرواحهم، ويمنحهم من فيض فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما أجمل أن يتفتح قلب المؤمن على هذا النداء العلوي، ويتلقاه كما تتلقى الزهرة الناضرة قطرات الندى؛ فيحيا به ويسعد، ويتجهز من فوره لإجابة دعوة الله والانضمام إلى وفده الكريم، مهاجرًا إلى حرمه المقدس وبيته الأمين، هاتفًا من أعماق قلبه: لبيك اللهم لبيك.

أيها الأخ الكريم، إن كنت ممن سمعوا هذا النداء فأجابوا الدعاء، وقُدِّر لهم أن يكونوا في وفد الله- تبارك وتعالى- فاعلم أنها غرة السعادة، وفاتحة الخير كله، وعنوان رضوان الله، فما دعاك إلا وهو يحبك، وما ناداك إلا ليمنحك، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً، والله واسع عليم؛ فَهَنِّئ نفسك بهذا الفضل المبين، وتقبل منا تهنئة الإخوان المحبين، وسترى في هذه الكلمات صورة موجزة من السنة المطهرة في أداء الفريضة، فاذكرنا بصالح الدعوات في تلك الأوقات الكريمة والأماكن المشرفة، وإن حالت دون ذلك الحوائل فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم في أداء المناسك بروحك، فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد القائل لأصحابه ما معناه: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: حبسهم العذر".

وفقنا الله وإياك إلى حج بيته، وزيارة رسوله، وكتب لنا ولك القبول.


الحج والعمرة في الإسلام
الحج فريضة من فرائض الله، أمر بها عباده وكلَّفهم أداءها، وأعد لهم جزيل الثواب إن فعلوها، وتوعد بأشد العقوبة من تركها، وهو عليها قادر ولها مستطيع، وهو ركن من أركان الدين الخمسة، يتم بتمامه وينقص بنقصه، وهو من بين هذه الأركان عبادة العمر وتمام الأمر(4)، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3)، وقد وردت بذلك آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول العظيم، قال الله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 97).

وهذا تركيب يدل على عظيم العناية بالحج وتأكُّد فرضيته، ألست ترى أن الحق- تبارك وتعالى- اعتبره دينًا له على عباده في قوله ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾؟ وألست ترى أنه- تبارك وتعالى- جعل مقابل القعود عن أدائه الكفر، وهو أشد المقت، فقال تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؟ ولم يعهد هذا التركيب في فريضة أخرى في كتاب الله غير الحج تنبيهًا على عظيم قدره وجليل أهميته.

1- قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ (لبقرة: من الآية 196)، والمعنى: أكملوا الحج والعمرة خالصين لله، وأنتم ممتثلين لأوامر الله مجيبين دعوة الله، ولعلك لاحظت هنا أيضًا في هذه الآية أنه- تبارك وتعالى- جعل الحج والعمرة ملكًا له تأكيدًا للمعنى الأول، وتنبيهًا على مزيد العناية بهذين العملين الجليلين.

2- وقال تعالى: ﴿وَأَذِّن في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحج: 27-28).

والمعنى أن الله- تبارك وتعالى- أمر خليله إبراهيم عليه السلام بعد أن أتمَّ بناء البيت أن يُعلن فرضية الحج منذ تلك الساعة، فامتثل أمر ربه، ونادى في الناس: "أيها الناس إنَّ ربكم بنى بيتًا فحجوه"، وكان ذلك بمنزلة إعلان ما كان في وقته- عليه السلام- وما سيكون بعده إلى يوم القيامة من تقديس البيت والمبادرة إلى حجه وعمارته.

وذهب بعضهم إلى أن الأمر في ذلك للنبي- عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام- وتكون الآية بذلك إعلامًا بفرضية الحج في الشريعة المحمدية، ولكلٍ وجهة، والأول هو الذي عليه جمهور العلماء، وفي الآيات الكريمة بيان بعض فوائد الحج من المنافع الدنيوية والأخروية ودوام ذكر الله، وهو صقال النفوس، ونور الأفئدة، وطمأنينة القلوب، والطهارة الحسية والمعنوية، والوفاء بنذور البر، والطواف بالكعبة المشرفة، وتعظيم حرمات الله- تبارك وتعالى- وشعائره.

3- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"(5) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.

4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد"(6) أخرجه النسائي.

ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة: تكرارهما مرات لمَن يستطيع ذلك حرصًا على هذه المزية- مزية التطهير من الذنوب والآثام- أو المتابعة بينهما بمعنى الجمع بينهما؛ فيحج ثم يعتمر مرة أو مرات؛ فتحصل له هذه الفضيلة، كل ذلك مندرج تحت هذا اللفظ الجامع، ومن استكثر من الخير استكثر من ثوابه.

5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"(7) رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجة، والمعنى أنَّ مَن حافظ على آداب الحج فترك اللغو والحرام؛ فقد تطهر من ذنوبه، وغفر الله له خطاياه فيعود نقيًّا تقيًّا مغفورًا له.

6- وعن أبى هريرة رضي الله عنه: "الحجاج والعمار وفد الله-عز وجل- وزواره؛ إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوا استجيب لهم، وإن شَفَعوا شُفِّعوا"(8) رواه ابن ماجه وابن حبان.

7- وعنه رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور"(9) رواه البخاري ومسلم، والحج المبرور هو الذي لا يعقبه معصية لله.

8- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا"(10) أخرجه الترمذي، وفي ذلك أشد الوعيد للذين يستطيعون الحج ويقعدون عنه تكاسلاً عن أدائه، وإهمالاً لشأنه، وتضييعًا لحقه، وغفلة عن تأكد فرضيته، وفي الحديث روايات، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل مَن كان له جِدّةٌ ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"(11) رواه سعيد في سننه.

9- وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه هُدِمَ مرتين، ويرفع في الثالثة"(12) رواه البزار وابن حبان والحاكم وصححه.

والمعنى: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يأمر أمته باغتنام فضل وجود الكعبة المشرفة التي جعلها الله بركةً وهدًى ورحمةً وأمنًا، قبل أن تذهب بها حوادث الدهر إذا ما أَذِنَ الله بانقراض الدنيا؛ فقد هدمت قبل البعثة ثم بُنيت، بناها العمالقة مرةً وبنو جرهم مرةً أخرى، ثم هدمها قصي بن كلاب جد النبي- صلى الله عليه وسلم في القرن الثاني قبل الهجرة، وشيدها تشييدًا محكمًا وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل، وبنى بجانبها دار الندوة، ثم هدمها السيل وبنتها قريش، والنبي- صلى الله عليه وسلم- معهم وسِنُّه 35 سنة في قصة الرداء المشهورة.

ولعل الإشارة في الحديث إلى هاتين المرتين لأهميتهما، وما عداهما كان ترميمًا واستكمالا لأسباب متانتها، أو أن العددَ في الحديث يفيد التكرار فحسب دون الحصر.

ويوشِك أن يهمل الناس أمر الحج؛ فيرفع الله بيته، ويستأثر به، وينزع البركة السابغة من أهل الأرض الذين أغفلوا نداء ربهم، وأهملوا فريضة حجهم، وهجروا سيدهم.

ومن ذلك تعلم تأكد فريضة الحج وعظيم ثواب الله لمَن أداها، وشديد العقوبة لمَن تركها وتكاسل عن أدائها.

لهذا أجمعت الأمة على فرضية الحج على القادر المستطيع، ثم ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد(13) وبعض أصحاب الشافعي، ومن أهل البيت زيد بن علي والهادي والمؤيد بالله والناصر إلى أنه واجب على الفور؛ فمن استطاع لزمه الأداء لوقته.

ودليلهم في ذلك ما رواه ابن عباس عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "تعجلوا إلى الحج (يعنى الفريضة) فإن أحدكم لا يدري ما يُعرض له"(14) رواه أحمد.

وما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أراد الحج فليستعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة"(15) رواه أحمد وابن ماجة.

وذهب الشافعي الأوزاعي أبو يوسف ومحمد، ومن أهل البيت القاسم بن إبراهيم وأبو طالب إلى أنه واجب على التراخي، واحتجوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حج سنة خمس أو ست، ولكلٍ وجهة هو موليها(16).

وأما العمرة:
فقد رأى وجوبها في العمر مرة الإمام أحمد بن حنبل(17)، وهو المشهور عن الإمام الشافعي- رضي الله عنه-، وبه قال إسحاق والثوري المزني الناصر، ودليلهم في ذلك أن الله- تبارك وتعالى- قرن الحج بالعمرة في الآية الكريمة: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ (البقرة: من الآية)، وأكد ذلك عندهم حديث أبي رزين العقيلي "أنه أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: إنَّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال: حج عن أبيك واعتمر"(18) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وصححه الترمذي.

وقد روى القول بالوجوب عن علي وابن عباس وابن عمر وعائشة وزين العابدين وطاووس والحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء.

والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة(19)، وهو قول الحنفية وزيد بن علي والهادوية، وحجتهم في ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه أحمد والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن جابر "أن أعرابيًّا جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: "لا، وأن تعتمر خير لك"(20) وفي رواية: "أولى لك".

ولهذا لا خلافَ بين الأئمة في أنها مطلوبة، وفي أنها من أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى.

وأما زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمطلوبة وقربة إلى الله- تبارك وتعالى- فقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَن حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"(21)، ورُوي بهذا المعنى آثار أخرى.

وذهب بعض العلماء إلى تضعيف هذه الآثار، ولم يأخذ بها على أن زيارة القبور عامة مطلوبة بقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور؛ فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة"(22) رواه ابن ماجة عن ابن مسعود، وفي حديثٍ آخر عن أنس "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرًا" (23) رواه الحاكم.

فإذا صح طلب زيارة قبور عوام المؤمنين؛ فقبور الأولياء أولى بذلك؛ لما فيها من زيادة العظة، وقبر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أولى وأولى؛ لما فيه من زيادة العظة والبركة معًا.

والاحتجاج على المنع بحديث:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى"(24) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم.. احتجاج في غير موضع الخلاف؛ فإن الحديث إنما يصح حجة لمنع شد الرحال لمسجد غير الثلاثة المذكورة، وأما ما عدا ذلك من الأغراض الجائزة شرعًا فلا يكون الحديث حجة في منع شد الرحال لها، وقد أطال كثير من الباحثين في هذا بما خلاصته ما ذكرت، ﴿وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ﴾ (الأحزاب: 4).


شهر في الأرض المقدسة
شعور شائع: منذ عزمت على زيارة الأرض المقدسة كان يشيع في نفسي شعور غريب قوى فعال يهز روحي هزًّا قويًّا، ويتأثر به قلبي تأثرًا غريبًا، ومن العواطف القوية ما لا يعرف لونه؛ فهو مزيج من الأمل، ومن الإشفاق، ومن الخوف، ومن الرجاء، ومن الحب، ومن الوله، ومن الشوق، ومن الحنين، وكذلك كان شعوري كلما تذكرت عزمي على زيارة الأرض المقدسة.

وكثيرًا ما تكون تلك العواطف المركبة أبعد أثرًا وأعمق غورًا مما يظن الناس؛ فلقد كنت أجلس إلى نفسي فأتمثل لها مكة ومقدساتها، وطيبة وأنوارها، وأصعد بها إلى الماضي البعيد؛ فتستعرض قريشًا وآثارها والدعوة الأولى وأسرارها، ثم تستمر سائرة مع تاريخ الإسلام الحي القوى، فإذا ساعات عظيمة وانتصارات تسمو على البشرية، وتتعالى على التاريخ نفسه، وتتحدى الأرض ومن فيها، وإذا ساعات من الضعف تُثير الشجون وتستدر العيون.

وكذلك كان شأني في هذه الجلسة التي أخلو فيها بنفسي قبل السفر؛ فأستعرض الخواطر جميعًا، وكثيرًا ما كنت أرى نفسي مندفعًا في بكاء صامت أو مغمورًا في فيض من الشعور بالسرور، أو ذاهلاً لا أذكر مما حولي إلا هذه الخواطر التي تجسمت أمامي، فتخيلتها الحقوق الماثلة.

ولبعض الألفاظ سلطان قوى على النفس لارتباطه القوى بذكريات مسميات هذه الألفاظ، ولصلته المتينة بشعورٍ سابقٍ ولاحق، تُثيره هذه الذكريات؛ فإذا ما ذكرت هذه الألفاظ أهاجت الساكن، وحركت الكامن؛ فاندفعت تتأثر للكلمة، وتبكي للفظ وما هو إلا المعنى الرمزي لكل ما تعلق به من مشاعر وذكريات؛ فالكعبة، والبيت الحرام، وحراء، وزمزم، ومقام إبراهيم، وغار ثور، وخيف منى، ووادي عرفة، ومسجد نمرة، وبطن الصفا، ومسجد بلال، ومصلى التنعيم، والمشعر الحرام، وشامة، وطفيل، ومزدلفة، وثبير، وحرة واقم(26)، وبنى سالم بن عوف، ومسجد قباء، وبئر آريس، وجبل أحد، وروضة البقيع، والروضة بين القبر والمنبر، وآثار الخندق.

كل هذه الأسماء في مكة والمدينة، لها على نفسك سلطان أي سلطان، حين تذكرها، وحين تمثلها لنفسك، وحين تمنى نفسك برؤيتها ومشاهدتها، وما ذلك إلا لأنها تصور لك ما كان فيها من حادثات جسام تهتم لها وتتأثر بها.

ولا أطيل عليك ولا أسترسل في وصف شعور يتجدد كلما ذكر، ويستفيض كلما تجدد، وينهمر هذا الفيض حتى لا تكاد تشعر بنهاية أو تدرك مدى غاية.

ولكني أقول لك: إن أهم ما حدا بي إلى زيارة هذه البقعة المباركة غير ما يحدو بكثيرٍ من الناس؛ فإن أعظم ما يسير بالناس إلى هذه البقاع المطهرة الرغبة الملحة في أداء الفريضة والزيارة المباركة رجاء الثواب أو خوفًا من التبعة يوم القيامة، أو الرغبة الملحة في التمتع بما أفاضه الله على هذه الديار وساكنيها من بركة وخير؛ وذلك جميل حقًا، وذلك بعض ما حدا بي إلى الرحلة.

أما السبب الأول في الحقيقة فهو "دعوة الإخوان المسلمين"، ولعله يسبق إلى ذهنك من هذا الاعتراف أنه الرغبة في نشر دعوة الإخوان المسلمين وتلمس الأنصار والمؤمنين بها من آفاق الأرض، ومن القلوب الطاهرة التي تهوى إلى هذه الأرض المقدسة، وليس ذلك كذلك، وإن كان أملاً من الآمال، وفائدة من الفوائد المنتظرة، ولكن الذي أقصده أن دعوة الإخوان المسلمين، وهي دعوة خالصة لوجه الله من أول يوم، مؤسسة على تقواه، مستندة إلى عظمته سبحانه، هذه الدعوة أعتقد أنه لا بد لنجاحها من أمرين أساسيين:

أولهما: طهارة القائمين بها، ونزاهة نفوسهم حتى تصلح لتلقى المعونة والنصر من الحق تبارك وتعالى.

وثانيهما: صلة هذه القلوب بالداعي الأول صلى الله عليه وسلم، صلة روحية قوية تؤدى إلى حسن الاتباع والاستمساك بالسنة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

فأما الطهارة النفسية فأول سبلها حج بيت الله الحرام؛ حيث تحط الذنوب والأوزار، وأما المدد الروحي من الداعي الأول- صلى الله عليه وسلم- فسبيله زيارة حرمه والتمتع بروضته، ويلحق بهذه الأسباب جميعًا ما تستفيده روح الداعية من معاهدة مواطن الدعوة الأولى، واستعراض حوادثها استعراضًا عمليًّا على أديم الصحراء العربية لا في صفحات الكتب وآراء الرجال.

ذلك أهم ما أثار النفس وهفا بالقلب إلى أرض الوحي ومهابط التنزيل، والقلوب بيد الله يقلبها كيف شاء؛ فاللهم ثبت قلوبنا على دينك.