اعتقد البعض أنه باستشهاد الرئيس ماتت الشرعية وانتهت القضية، وهذا غير صحيح؛ لأن هذه الشرعية ليس شرعية «مرسى» وحده، وإن كان هو تاج رأسها وإمامها المبجَّل، بل أصحابها عشرات الملايين فى المحروسة وأضعافهم حول العالم؛ فإذا مات الإمام خلفه الأتباع، لكن لا تموت الفكرة، ولا يضيع الحق؛ العكس هو الصحيح فإن موت الرموز يشعل الأفكار، ويصدرها لدوائر أوسع، ويفتح المجال ليتعرف عليها من لا يعرفها، فتزيد الأعداد ويتكاثر المريدون، ولله فى خلقه شئون..

والشرعية هى الحق، والحق خالد، وعكسه الباطل أو الحرام، وهو لا محالة منتكس زائل، تقول ابن شرعى وابن غير شرعى؛ فأما الأول فهو كالشمس لا ينكرها سوى الأكفَّاء، ولا يطعن فى ضوئها وحرارتها سوى فاقدى العقول، وكذلك الشرعية التى خلفها «مرسى»، فهى بنتُ الشعب ونبتُه، ولا يتخلى أبٌ صالح عن صلبه وبنيه.. أما الآخر فهو نبتٌ شيطانى، مهما عمَّر سيظل مجهول الهوية، منتقصًا، لا يحظى باعتراف الآخرين.

إن موت «مرسى» لن يعقبه اعتراف بـ(3 / 7) وسيبقى انقلابًا كما أُطلق عليه منذ لحظة وقوعه، مهما تعاقبت السنون، وسيظل يوم (30 / 6) وصمة عار فى جبين كل من خرج فيه على الرئيس المنتخب. وسيظل ما ترتب على هذين اليومين غير شرعى وغير قانونى، مهما جمّلوه وزينوه، ومهما عظمت وتواترت الأحداث، وسيظل كرسى الرئاسة شاغرًا حتى يأتى الشعب بمن يشغله، وما خلا ذلك فهو تمثيل ومشاهد هابطة لا تمتُّ للحق والحقيقة بأدنى صلة.

وليست هناك أمارة واحدة على أن الشرعية انتُقصت من يوم استشهاد الرئيس، أو قد ترتب على موته شىء فى المجالين السياسى والاجتماعى، بل رأينا زخمًا لم نره من قبل حتى صار «مرسى» أيقونة، وزعيمًا ورمزًا، وحتى ترحّم عليه الجميع وترضّوه، وقد انضمت إلى قافلة الحق أعداد كبيرة اعترفوا بذنوبهم وأنهم غُرر بهم، ورأينا الأمة توحدت وسرى بها تيار الأخوة الصادقة؛ ما أعاد القضية إلى الواجهة، ومرة أخرى يتم الحديث عما جرى من ست سنوات وما تلاها، حتى استقر فى العقل الجمعى للأمة أن هناك أزمة لم تُحل، مات طرفها الشرعى ورمزها ليخلفه عليها ملايين ممن قدموا تضحيات لا يكافئها إلا استردادهم حقهم الذى اغتصبه العسكر بمؤامرة دولية وتواطؤ إقليمى.

كيف تُنسى الشرعية ولا زال اللصوص يحتلون البيت، وقد أغرقوه فى الفوضى، وأشعلوا فيه النيران، وشرعوا فى بيعه بالقطعة، وأذاقوا مَن بداخله سوء العذاب؟ كيف تُنسى ولا زالت دماء عشرة آلاف مصرى، من خيرة شباب ورجال المحروسة، نازفة لم تجف؟ ولا زالت نسوةٌ طاهرات وأخوات فضليات يصرخن مستغيثات من داخل سجون الغاصبين؟ كيف تُنسى وهناك شعب مأسور بكامله يرجو فكاكًا ولا يستطيع، منتظرًا أهل الحق أن يسعفوه؟ فهل تموت الشرعية بعد كل هذا لأجل أن مات رمزها؟

سيظل الحق حقًّا ما دامت السموات والأرض، والله حارسه، وهو حى لا يموت، وسيظل الباطل باطلاً ولو استحوذ على ما بين المشرقين وما بين المغربين، سيظل تافهًا لا شرعية له، مذبذبًا لا يقر له حال، لا يناصره إلا الحمقى والمجرمون. سيظل العسكر فاقدى الشرعية وإن بدوا أقوياء متمكنين، سيظلون يحسبون كل صيحة عليهم، يفزعون لصوت طفل محسوب على أهل الحق. من أجل ذلك انزعجوا لموت مرسى انزعاج من يخشى ضياع ملكه؛ انزعجوا من الملايين التى شيعته، وثمنت مواقفه، وأثنت عليه الثناء العطر. إنهم ظنوا أنهم تخلصوا منه؛ ففوجئوا بملايين من أنصاره قد تدفقوا عليهم من كل حدب وصوب.

الشرعية إذًا ليست شرعية «مرسى» وحده، بل هى شرعية شعب سُرقت أصواته، وزُورت إرادته، ولن ينسى ما فُعل به، خصوصًا أن هناك أرواحًا أُزهقت، وأعراضًا انتُهكت، وأموالًا صُودرت، وهناك فى الأسْرِ عشرات الآلاف من دون تهمة إلا أن يقولوا ربنا الله، ولا شىء ينبئ بأن المغتصبين لديهم النية فى إصلاح ما أفسدوه، بل يزدادون كل يوم طغيانًا وفسادًا.

كلما ازداد العسكر فشلاً -وقد أصبح قرينهم- ازدادت الشرعية عددًا وعدة، وقد أشعل استشهاد الرئيس النقمة عليهم، بعدما اعتقدوا أنهم بقتله ستُذبح الشرعية؛ لكنهم فوجئوا أن الوضع لم يزل على ما كان عليه قبل موته، بل ازداد عسرًا على هؤلاء الكهنة المستبدين. والمتوقع فى الفترة المقبلة أن يزداد إجرامهم، وأن يُجنَّ إعلامهم، وأن تنطلق كلابهم نهشًا فى الأبرياء، ولا نجاة إلا بالله، ثم باتحاد أهل الحق واجتماعهم على قلب رجل واحد، وإلا بالصبر والثبات.. (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44].