بلغ الإفساد في الأرض والاستكبار مداه بإعلان الصهاينة في الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الذكرى السبعين لاغتصاب فلسطين موعدًا لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وما اجترءوا على ذلك إلا أن بعض حكام المسلمين صرفوا الأمة عن قبلتها الأولى ومسرى نبيها صلى الله عليه وسلم، واستهلكوا قواها الحية وطاقاتها ومقدراتها في حروب طائفية مهلكة، أو نزاعات عرقية منتنة، كي يحافظوا على سلطانهم ويحققوا أطماعهم.

ولا شك أن الساسة الأمريكيين وأعضاء الكونجرس الذين أصدروا هذا القرار الجائر بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس منذ سنين يدركون أن تنفيذ هذا القرار هو مشاركة ومباركة من الولايات المتحدة في جريمة الاحتلال الصهيوني للقدس، ولهذا فقد أحجم رؤساء عدة منذ صدور هذا القرار عن تنفيذه؛ خشية مقاومة أهل الرباط في فلسطين وغضبة الأمة العربية والإسلامية على المصالح الأمريكية في المنطقة وفي العالم كله.

وفي المقابل فإن الحلف الصهيوني الأمريكي بدا له أن الرئيس الأمريكي الجديد هو الأنسب لتنفيذ هذا القرار بعد أن نجح الحلف في تحقيق نظام عالمي وهيأ الأوضاع الإقليمية بما يمكنه من إعادة اقتسام الهيمنة وتوزيع ثروات المنطقة بين المشروعات الاستعمارية المتنافسة الشرقية والغربية لصالح المشروع الصهيوني الأمريكي.

وقد تم كل هذا تحت زعم الحرب على الإرهاب والتطرف "الإسلامي" بتأجيج الحروب الطائفية وإشعال النزاعات العرقية والتمكين للانقلابات العسكرية والتخلص من كل من بقي لديه بقية من روح وطنية أو عاطفة إسلامية. أما على أرض الواقع في فلسطين فقد ابتلع الاستيطان والاحتلال القدس الشرقية كما ابتلع غربها، ولم يبق من حل العاصمة المشتركة للدولتين إلا أوهام للسلطة وخداع من الملوك والرؤساء لشعوبهم وعجز مخزٍ للامم المتحدة وسقوط مدوٍّ للحضارة الإنسانية.

لكن سنة الله تعالى غالبة في دفع الناس بعضهم ببعض فيقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40) فحينما اجتمعت قلوب أهل القدس على الوحدة ورابطوا في الأقصى قذف الله الرعب في قلوب الصهاينة ومَنْ خلفهم فتراجعوا عن البوابات الإلكترونية كما تراجعوا عن فرض الضرائب على الكنائس. حدث ذلك عندما توحد أهل القدس مسلمين ومسيحيين على ما هم عليه منذ العهدة العمرية وقرارات الخلافة العثمانية بمنع فرض الضرائب على الكنائس، فضلاً عن الاستيلاء على ممتلكاتها، نسأل الله أن يحفظ على أهل القدس وحدتهم، وأن يبارك رباطهم، وأن يزكي نضالهم.

وبقي على أهل فلسطين في الداخل والضفة وغزة أن يقتدوا بأهل القدس في وحدتهم ورباطهم ونضالهم، وعليهم أن يكملوا مسيرة المصالحة، وأن يتناسوا أحزان الفرقة، ويحتضنوا مقاومتهم؛ فهي سر عزتهم وقوتهم، وأن يصبروا على ظلم ذوي القربي كما يصبرون على عدوان الصهاينة، حتى ينالوا شرف الانتساب إلى الفئة الظاهرة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوّهم قاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".

وكما مضت سنة التدافع في أهل فلسطين؛ فهي ماضية في شعوب الربيع العربي؛ فرغم الأذى الشديد الذي أصاب جماهير هذه البلدان في سوريا ومصر وليبيا واليمن فإن ثبات الفاقهين المثابرين من الثوار في هذه الأقطار أحدث تغييرًا في موازين القوة وبعث الأمل في النفوس، وحافظ على القضية حية في القلوب؛ سواء قضية تحرير الشعوب، أو قضية  تحرير المقدسات، واستقر في الأعماق أن إنقاذ الأقصى وتحرير القدس هو مطلب وطني كما هو واجب عربي وفريضة إسلامية، وأصبح العمل الشعبي لإنقاذ القدس وتحرير الأقصى حافزًا على بذل التضحيات في انتفاضة متوقعة على الاستبداد والإفساد. إذا بذلنا المزيد من الجهد في توعية الأمة بحقوقها وواجباتها وخطورة المشروع الصهيوني على حاضرها ومستقبلها وحشدنا طاقات الأمة في مواجهة هذا المشروع بكل تجلياته وأدواته ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 105).

نعم.. إنه واجب الوقت على الأمة كلها، وعلينا نحن الإخوان أن نعمل بكل طاقتنا لاغتنام الفرصة والانتصار لهويتنا والاستمساك بثوابتنا واستكمال بنائنا الفكري والتربوي وذلك عن طريق تعبئة صفنا تعبئة شاملة حقيقية حتى نتمكن من تحقيق هدف الحشد الفعال لقوى الأمة في مواجهة المشروع المعادي ودعم المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بما يحقق قول الله تعالى: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾ (الحج40)، وإنه لهدف كبير يحتاج إلى همم الرجال.. يحتاج إلى الإرادة القوية التي لا يتطرق إليها ضعف، والتضحية العزيزة التي لا يحول دونها طمع ولا بخل، والوفاء العزيز الذي لا يعدو عليه تلون ولا غدر، والمعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم بإذن الله من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.

فاعملوا أيها الإخوان في كل مكان.. رجالاً ونساءً، شيوخًا وشبابًا، فتيانًا وفتيات، واجمعوا قلوب الأمة حول مقدساتها، وارفعوا راية الجهاد في سبيل الله لتحرير أراضي المسلمين من كل سلطان أجنبي، وافضحوا مخططات أعداء الأمة وأذنابهم ممن يفرطون في الأرض والعرض من أجل مصالحهم الضيقة وأغراضهم الدنيئة، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، واعلموا أن وعد الله حق، وأن نصره للمؤمنين عقيدة، وإهلاكه للظالمين يقين، فتوكلوا على ربكم واستفرغوا وسعكم ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35).

أ. د. محمود عزت - القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين

الثلاثاء الموافق 25 جمادى الآخرة 1439هـ = 13 مارس 2018م