بقلم: د. فتحى أبو الورد

ما أكثر من ودعناهم تباعا فى الفترة الأخيرة من أحبة، واراهم الثرى، وغيبهم الموت، وفرق بيننا وبينهم ما أسماه النبى صلى الله عليه وسلم " هازم اللذات "، عندما مر بقوم يضحكون ؛ فقال: " أكثروا ذكر هازم اللذات "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. 
ودعناهم وما وفيناهم حقهم، إخوة وأخوات، آباء وأمهات، أصدقاء وعلماء، و... إلخ.

وكم ندمنا على فراقهم قبل أن نقوم بحقهم، ولكم وددنا لو أمهلنا القدر حتى نحسن صحبتهم إن كنا مقصرين، أو نزداد إحسانا إن كنا محسنين، ولكن كان هذا بعد فوات الأوان، حين تجلت الحقيقة الكونية والشرعية فى قول الأمين جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : " يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه " رواه الطبرانى فى المعجم الأوسط، والبيهقى فى شعب الإيمان.

فجعنا الموت بأحبتنا، فترحمنا عليهم، ودعونا الله لهم، وفاضت أعيننا بالدمع لشدة فراقهم، وفاضت مشاعرنا رقة تترجم عن مكنون قلوبنا نحوهم، وانطلقت ألسنتنا بالثناء على كريم معشرهم، وحسن خصالهم، وذكر محاسنهم، وجميل أن يكون هذا، ولكن : كان أجمل منه لو كان ذلك فى حياتهم، وفى صحبتهم.

كم نحبس كلمات الود عن أحبابنا فى حياتهم حياء أو إحراجا، وكم نصمت عن إظهار الحب والحفاوة بهم خجلا أو إلفا، ولم نفقه أن حبا صامتا يسكن فى حنايا القلب، ولم يبح اللسان بذكره أشبه بالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، وأن حبا لا يترجم اللسان عنه برا وشوقا ولهفة لهو حب يتيم لا أب له، وقديما قال الشاعر :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * * * جعل اللسان على الفؤاد دليلا

ولما كانت الحقيقة الكبرى أن الله تعالى قضى على خلقه الفناء، وكتب لنفسه البقاء كانت الحقيقة الكبرى أيضا التى يجب أن نعمل من أجلها هى أن نكون ومن نحب فى الجنة معا، حيث الخلود بلا موت، والتجمع بلا افتراق فى دار الكرامة، كما روى الإمام البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت – يجسد على شكل كبش - حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم".

كان آخر من ودعته من الأحبة والد زوجتى – رحمه الله – الذى كانت لنا أشواق لرؤيته، ولكن القدر لم يمهله حتى يتحقق لنا المبتغى.
رزق – رحمه الله تعالى - بأربع من البنات ؛ فأحسن تربيتهن، وأكرم صحبتهن، حتى تزوجن جميعا، وإنى لأرجو الله تعالى أن يكن حجابا له من النار، كما روى عقبة بن عامر الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن، كن له حجابا من النار ".. المعجم الكبير للطبرانى.
وما أحب أن نذكره ولا ننساه هو أن نستثمر ما تبقى من ساعات العمر فى الإحسان إلى من نحب، والاستمتاع بصحبتهم قبل أن نفارقهم أو يفارقونا.

علم الله كم يؤلمنا مرقدهم كما سيؤلم غيرنا مرقدنا، وكم يحزننا فراقهم ونحن لا حيلة لنا، وكم تدعونا وحشة ضجعتهم إلى الترحم عليهم والدعاء لهم..
فيا من أنت أرحم بهم منا، ويا من أنت أرأف بهم منا، ويا من أنت الجواد الكريم ؛ امنن بكريم عفوك وواسع رحمتك على أحبتنا، واغفر اللهم لنا وللمؤمنين والمؤمنات.