للأستاذ عبد السلام ياسين، المرشد العام لجماعة "العدل والإحسان"

طوينا الحديث طيا، وأوجزنا إيجازاً مُخلا. ومن حق رجالنا تحت راية دولة القرآن أن يحتلوا الصدارة إلى جانب الصحابة والتابعين في ميادين الإعلام، وضرب الأمثال، والتذكير بالأبطال.


تحت راية القرآن يجب أن نزيل الاحتلال الثقافي الذي يملأ أفقنا بتمجيد مفكري الجاهلية وقادتها، ونعيد ذكرى علمائنا ومصلحينا وأئمتنا.فهم الامتداد الحي لصاحب الرسالة ومَعِينِ الكمالِ محمد صلى الله عليه وسلم.


نُبرز هنا وجها مُشرقا من وجوه الدعوة في عصرنا بل في كل العصور، هو الشيخ الإمام حسن البنا رحمه الله.عاصره فطاحلُ الدعاة أمثالُ الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي مؤسس حركة رجال الدعوة والتبليغ، والشيخ بديع الزمان سعيد النورسي أب الحركة الإسلامية في تركيا، وكلاهما من أهل التربية والذكر.


للسيد الجليل محمد إلياس الفضل في انتشار الإسلام في الهند وسائر بقاع المعمور على يد رجاله الذين يذكروننا بالصحابة رضي الله عنهم في الصبر على مشاق الدعوة، وفي حمل كلمة الهداية في حواضر المعمور وبواديه. ولئن كان أسلوبُهم يَقْصُرُ عن التعبئة الجهادية وما تقتضيه من إعداد قوة العلم والتنظيم فمرَدُّ ذلك إلى ظهورهم في بلدٍ المسلمون فيه أقلية مضطهدة.


وللشيخ بديع الزمان النورسي فضل إحياء الدعوة تحت قهر الطاغوت أتاتورك وحزبه. نشر العلم وربى الرجال في ظروف عصيبة، مختفيا تارة مرتحلا أخرى لا يَمَلّ ولا يَنِي.


وعاصر البنا مفكراً ثاقب النظر من علمائنا، هو أبو الأعلى المودودي.استفادت جماعة "الإخوان المسلمين" من مؤلفاته القيمة. وترك المودودي رحمه الله تنظيما واسعا في باكستان والهند يرجى أن يجمع الله على يديه كلمة أهل الحق.
وغير هؤلاء دعاة ومربون في أقطار الإسلام المباركة.ويبقى الإمام البنا غُرَّةً في جبين الدعوة بما جمع الله فيه من خصال الخير.فإن نظرت إلى خشوعه وتبتله وروحانيته فهو قبَسٌ من المشكاة النبوية. وإن نظرت إلى علمه وسَعَةِ أفُقِهِ فهو إمام سنيٌّ ومعلم عبقريٌّ.وإن نظرت إلى شجاعته في الحق وهيبته في صدور من عاشروه فهو أسد من أُسْدِ الله.ناهيكَ عن فصاحته وحكمته وأدبه وصبره. رحمه الله رحمة واسعة.


كان المصحف والسيف، السلطان والدعوة، مفترقين في فكر المسلمين منذ أن تخاصم السلطان والقرآن وتقاتلا في عهود الملك العاض، مفترقين في الحياة العملية للمسلمين. والبنا رحمه الله من القلائل الذين اجتمع في تصورهم القرآن والسلطان. لم يجد في زمانه من الرجال المكتملي النضج إلا القليلَ ممن أدركوا مَدْرَكَهُ، فعمد إلى تربية نشء جديد لا يَفْصِل بين التربية الإيمانية القلبية وبين الدراية الفكرية، ولا بين المسجد وساحة القتال، ولا بين العبادة والسياسة، ولا بين التبتل وترويض الأجسام وحمل السلاح.


وجد الإمام الخميني جِهازا قائما لحمل دعوته، ونصْر قضيته، ممثلا في عشرات الألوف من علماء المسلمين خريجي الحوزات الدينية المستقلة إداريا، الغنية ماليا بأموال الخُمُس.ولم يكن من بين هؤلاء العلماء إلا قلة يميلون للسلطان ويخدُمونه.
أما في جانبنا، فزيادةً على التدهور الفظيع الذي أصاب الأزهر وسائرَ معاهد العلم، فإن ذهنيَّةَ مُسَالَمَةِ الحاكم كانت القاعدةَ. فما وسعَ الإمامَ البنا إلا أن يبدأ من جديد صياغة جند يحمل الرسالة وينصر الدعوة. ولئن اغتالته الأيدي الأثيمة قبل أن يُكَمِّل جهاده ويرى ثِمارَ ما غرس، فإن آثارَه العلمية وخاصة رجالَه الذين ربَّى وتعهد ووجَّه بَثّوا روحا جديدة في الأمة، تبارك الله ما أوسع وأسمى. نضّر الله وجهه كما نضر وجه المسلمين.ونضر وجوه دعاة الخير من السابقين واللاحقين. آمين.
قال أبو الحسن الندوي أحد رجال الدعوة البارزين من أهل القرآن والإحسان عن الحسن البنا: "وقد تجلت عبقـرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين (قال في الهامش: وكان من هذا القليل النادر الشيخ محمد إلياس الدهلوي منشئ دعوة التبليغ وحركتـها في الهند ونجلُه وخليفته الشيخُ محمد يوسف المتـوفى قريبا رضي الله عنهما وأرضاهما فقد كانا مثـالين فذين في هـاتين الناحيتـين كلتيهما).


أُولاهما شَغَفُهُ بدعوته، وإيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها، وانقطاعُه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله. وذلك هو الشرط الأساسي، والسِّمَةُ الرئيسية للدعاة والقادة الذين يُجري الله على أيديهم الخيرَ الكثير.


والناحيةُ الثانية تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه، ونجاحُه المدهش في التربية والإنتاج. فقد كان منشئ جيل، ومربِّيَ شعب، وصاحب مدرسة علمية فكرية خُلُقِيَّةٍ. وقد أثَّرَ في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين، وفي أذواقهم، وفي مناهج تفكيرهم، وأساليب بيانهم، ولغتهم، وخطابتهم، تأثيرا بقي على مر السنين والأحداث.ولا يزال شِعاراً وسِمَةً يعرفون بها على اختلاف المكانِ والزمان" [1].


وكتب عنه مفتي القدس محمد أمين الحسيني رحمه الله: "بينما كان الملاحدة ودعاة الإباحية ومروجو الفكرة الشعوبية (القومية العلمانية) يهاجمون الإسلام، وينشرون سمومهم وضلالاتهم في مختلف الأوساط في الأقطار المصرية والعربية، وبِخاصة بين طلبة الجامعات والمعاهد العليا، برز المرحوم (إن شاء الله) الشيخ حسن البنا في وسط الشعب المصري المؤمن كما تبرز الشمس من بين السحب الداكنة، داعيا أمته وبلاده والمسلمين جميعا إلى العمل بالقرآن الكريم، وتطبيق أحكامه السامية، وآدابه الرفيعة، والاستمساك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل شأن" [2].


وكتب سيد قطب رحمه الله: "وعبقرية البنا (تتجلى) في تجميع الأنماط من النفوس ومن العقليات ومن الأعمار ومن البيئات. تجميعُها كلها في بناء واحد (...)، وطبعُها كلِّها بطابع واحد يُعرفون به جميعا، ودفعُها كلّها في اتجاه واحد، على تبايُنِ المشاعر، والإدراكات، والأعمار، والأوساط، في رُبْعِ قرن من الزمان" [3].


وكتب الأستاذ محمد الغزالي متحدثا عن الإمام البنا: "لقد عاد القرآن غضا طريا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله. ووقف هذا الرجل الفذ صخرةً عاتيَةً انْحسرتْ في سفحها أمواجُ المادية الطاغية. وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أفعم قلبَه حُبّا للإسلام واستمساكاً به (...). لقد عاش على هذه الأرض أربعين عاما، لم يَبِتْ في فراشه الوثير منها إلا لياليَ معدودة. ولم تره أسرتُه فيها إلا لحظاتٍ محدودة، والعمر كله بعد ذلك سياحةٌ لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، في عصر غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه الاستعمار" [4].


أين تَرَبَّى هذا الرجلُ الفذ الذي أفعم أسماعَ العالم بنداء الإسلام، وجمع الله حوله القلوب، وغير به الأفكار و"عاد القرآن غضا طريا على لسانه" ؟ تعلم على أبيه العالِم المحدِّث، وتعلَّم في المدارس ككل الناس. لكن التربية القلبية التي تُرَسِّخُ الإيمان، وتسمو بالروح لمعارج الإحسان، تلقاها على يد أهل الطريق، كما تلقاها الغزاليُّ وما لا يُحصى من علمائنا العاملين. وقد أدى رحمه الله أمانة الشهادة لأهل الذكر بأنهم معدنُ الفضل، ووصف دعوتَه بأنها "حقيقة صوفية" وجعل من المُنجيات محبة الإخوان وذكر الوظيفة.


كتب رحمه الله في مذكراته: "سألتُ عن مُقدّم الإخوان (الصوفية الحصافيين) فعرفت أنه الرجل الصالح التقي الشيخ بسيوني العبد التاجرُ. فرجوته أن يأْذَنَ لي بأخذ العهْدِ عليه ففعل (...) وجزى الله عنا السيد عبد الوهاب فقد أفادتني صحبتُه أعظَمَ الفائدة" [5]. يقول هذا رجل لا يعرف التزيد في الكلام.


وانتقد رحمه الله ما علِقَ بالتصوف من أدعياء وما ظهر فيهم من بِدَع وخرافات. لكنه نصح الأمة كما نصح الغزاليُّ إذ قال: "وهذا القسم من علوم التصوف، وأسميه "علوم التربية والسلوك"، لا شك أنه مِنْ لُبِّ الإسلام وصميمه. ولا شك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها، والطبِّ لها، والرُّقيِّ بها، لم يبلغ إليها غيرُهم من المربين" [6].


واقرأ نقده الصريح، نقد خبير، للفلسفة الدخيلة، وخلط الدين بما ليس منه، وفتح الثغرات بذلك للزندقة والإلحاد وفساد العقيدة. واقرأ نصيحته بوجوب التدقيق في هذا الأمر لاختلاط الصادقين بالمموهين والمحترفين والأدعياء طلاب الدنيا بمظاهر الصلاح في "مذكرات الدعوة والداعية" .


اللهم صل على سيدنا محمد النبيء الأمي وأزواجه أمهات المومنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.