أويت إلى فراشي عقب صلاة العشاء بقليل . عادتي أن أنام مبكرا ، وأستيقظ قبل الفجر . إذا كانت ظروفي الصحية تسمح ؛ أقرأ وأكتب وأشاهد بعض البرامج التلفزيونية المعادة التي لم ألحق بها عند عرضها لأول مرة ، أو أنتظر حتى أؤدي صلاة الفجر وأعود بعدها إلى النوم مرة أخرى . هذه الليلة ( عشية الاحتفال بالذكري الرابعة لثورة يناير) تركت محمودا ابني جالسا أمام التلفزيون ومعه ما يسمى الآي باد يتابع من خلاله رسائل وأخبارا ومقالات وموضوعات متنوعة وفي الوقت ذاته يشاهد من حين لآخر ما تذيعه الشاشات الملونة حتى يأتي داعي النوم . كان شقيقه أحمد في مكان آخر يجلس أمام اللاب توب ويتابع ما يريد على طريقته .



غفوت واستيقظت كأنني أرى حلما فظيعا على أصوات عالية وصرخات حفيدة وبكاء هستيري وحالة من الاضطراب تسود البيت .فتحت باب غرفتي وتأكدت أن المشهد ليس حلما ولكنه واقع مريع ! حاولت فهم ما يجري ، عرفت أن حُماة الديار وصمام الأمان اقتحموا البيت وعاثوا فيه فسادا وأخذوا الولدين ومعهما كتب وأجهزة كمبيوتر وهواتف محمولة ومضوا إلى المجهول !



هدّأتُ روْع المذعورين ، وأغثنا من سقط مغمى عليه ، وبدأنا في إعادة نظام البيت بعد أن قلب هيكله الأشاوس والنشامى . وأخذت أتقصّى تفاصيل ما حدث ليكون منطلقا لمواجهة الموقف والتصرف إزاءه ..



اقتحم القوم البيت بفتح الباب الرئيسي بـ " طفّاشة" . من عادتنا في الريف أن البيوت مفتوحة طول النهار وجزءا من الليل ، ولاتغلق إلا عند النوم ، منعا لدخول الكلاب والقطط . عندما يُنادي الزائر المعروف يُطلب منه الدخول ، والغرباء يخرج إليهم من يرحب بهم ويستضيفهم ، القوم آثروا أن يتصرفوا بمنهج الاقتحام والمداهمة ، مع أن هناك نُوّما في ملابس خفيفة ، أو في أوضاع يجب ألا يراها غريب . المسدسات في المقدمة والأسلحة مشهرة والصوت الخشن الغليظ سيد الموقف .



تدفقت القوات التي كان يحملها ثلاث سيارات . إحداها ميكروباص (حمولة 11فردا ) والأخريان من عربات البوكس ( الكبوت) ولها كابينة تحمل ثلاثة أفراد ، وفي الخلف كنبتان يمكن أن يجلس على كل واحدة من 7 – 10 أفراد ، وجميع هؤلاء ملثمون ( لاتظهر غير عيونهم ) ومسلحون بالرشاشات والمسدسات  ، يقودهم رئيس المباحث ومن حولهم خفراء ومخبرون في مشهد يلقي الرعب في قلب من يراه ، فالجوّ جوّ قتال ومعركة خطيرة ، ليست لتحرير مستعمرة في فلسطين المحتلة ، ولا تخليص  تبة يسيطر عليها العدو ، ولا مواجهة عصابة تهرّب أطنان المخدرات إلى داخل البلاد ، ولا مجموعة إرهابية تحتجز طلاب مدرسة أو تخطف طائرة ركاب أو حافلة جنود . المعركة مع أسرة نصفها عواجيز ومرضى - أنا أكبرهم - لايتحركون على الأرض إلا بصعوبة والباقي شابان يستخدمان القلم لا السلاح وفتاتان وطفلة عمرها ثلاث سنوات !



المعركة القتالية التي اقتضت اقتحام البيت بعد منتصف الليل كانت من أجل القبض على الشابين الصحفيين المسالمين ، بتهم مضحكة منها الاشتباه في الانتماء إلى جماعة محظورة ، وكتابة شعارات مسيئة على الحوائط ( التلامذة جعلوا من حوائط بيتي جرافيتي للمؤيدين والمعارضين وتعبنا من المسح والطمس! ) .



قالت لهم ربة البيت أين إذن النيابة ؟ ردوا عليها بأنهم لايتعاملون به ! قالت لكبيرهم: هل ترضى أن يدخل على والدتك مثل هذا العدد وبهذه الطريقة وأنا في مثل عمر أمك . سكت وقال لها : شيلي الفلوس والدهب عشان التفتيش !



وبدأ التفتيش بقلب عفش البيت ، وتفريغ الدواليب ، وفتح الحقائب . كان من بينها حقيبة صغيرة بها شرائط المصحف المرتل بصوت الشيخ الحصري ، فتحها الجندي الملثم وألقاها على الأرض . دخلوا على المكتبة ، ولأن الأشاوس مثقفون للغاية وجدوا مئات الكتب في رفوفها ومعظمها في التخصص الدقيق من أول الإمام عبد القاهر حتى ناحوم تشومسكي مرورا بسوسير وتزيفان تيدروف ورولان بارت  ودريدا . ووجدوا بعض الكتب عن عز الدين القسام والحركة الإسلامية والتاريخ فضموها إلى ما سلبوه من البيت ! 



لو أن الباشا قائد الحملة البوليسية اتصل هاتفيا وطلب أن أرسل إليه الولدين لأرسلتهما في الحال . بل لو طلب من أحد خفراء الطلبات أن يحضرا إليه للتحقيق لذهبا إليه بمنتهى البساطة ، فهما صحفيان ويقابلان المسئولين من مختلف المستويات والدرجات والتخصصات ، ولكنه – حسب الأوامر – أبى إلا أن تكون حملة رعب مروعة تحوّل البيت الساكن إلى ساحة قتال عاصفة من طرف واحد . 


   
عرفت أن الحملة المسلحة أخذت مجموعة من الشباب المساكين في القرية لا علاقة لهم بالعنف أو التخريب أو التدمير . أحدهم فلاح أخذوه من جوار زوجته . ذهبوا ليأخذوا أخا له لم يجدوه ، فسحبوه بملابس النوم حافيا ليقول لهم هناك : إنه لا يعرف القراءة والكتابة ، فكيف يمكن أن يكتب شعارات مسيئة ؟ إنه لم يحصل على شهادة ولا يفقه الفارق بين السياسة والطماطم !



نظرت في الصالة إلى منضدة صغيرة سهلة التنقل في البيت ؛ أتخذها مكتبا أضع فوقها جهاز الكمبيوتر وأحيانا أضع كتابا ، أو أوراقا أكتب فيها ، أو طعاما خفيفا أتناوله في الصباح أو عند المساء ، فافتقدت الجهاز . عرفت أنهم أخذوه مع بقية الأجهزة والهواتف . ملأني الحزن أو ضاعفه بمعنى أصح . الجهاز عليه مجموعة من كتبي التي أعددتها على مدى سنوات ولم تنشر ، وليس لدي نسخ أخرى منها . سيرتي الذاتية كتبت منها الجزء الأول والجزء الثاني ، وقسما مهما من الجزء   الثالث والأخير. 



هناك كتابان في الترجمة لأعلام العصر وآخر في الرحلة فضلا عن كتب الأدب والمتابعات لأحداث الثورة والثورة المضادة وأحوال مصر وغيرها . ويتضاعف الحزن بفقد الأولاد الذين رزقت بهم من الحروف والكلمات .



جاء بعض الجيران لاستطلاع الخبر والمواساة ، وذهني يعمل في اتجاه واحد هو معرفة المكان الذي وصل إليه الولدان ، والاطمئنان على سلامتهما وحمايتهما من الأذى المتوقع .


 ظلت الاتصالات من جانبي وجانب محمد ، نجلي الأكبر ، مستمرة مع بعض الجهات والأشخاص حتى قبيل العصر . كان دور بعض الأصدقاء نبيلا في التعاطف والمواساة والمشاركة في المحنة ، ووقفت نقابة الصحفيين موقفا جيدا ، ولعله كان حاسما في إخلاء سبيل الولدين ومعظم من تم خطفهم .



هل يمكن أن تنتج جمهورية الخوف حضارة وتصنع تقدما ؟ هل هذه ثورة 30 يونية التي استعادت مصر كما يزعمون ؟ هل إسالة الدماء في الشوارع تعيد هيبة السلطة وتحقق الأمن ؟ مصر الكبيرة لا تستحق الترويع !!    



اللهم فوّضنا إليك الأمر ، وأنت صاحب الحول والطول ،ولا راد لقضائك !