في  خضم الأحداث الجارية المتلاحقة بصخبها وضجيجها ودمويتها أحيانًا، مرت عبارة مهمة للغاية تفسر ما يحدث في بلادنا ولثورة يناير خاصة.. قالت السيدة سوزان ثابت زوج المخلوع مبارك: "نعلم يقينًا بأن مصر لا يحكمها إلا ابن المؤسسة العسكرية"!.

العبارة تتحدث بوضوح قاطع ومن خلال فكر تراكمي لصاحبتها في دست الحكم طوال أربعين عاما أن الشعب المصري ليس من حقه أن يحكم نفسه ، وأن الأحق بالحكم هو المؤسسة العسكرية ؛ أي الجيش وما يلحق به من شرطة وأجهزة استخبارات عامة وخاصة . عدا ذلك فلا يحق لأحد الاقتراب من قيادة البلاد والتشريع وإرساء قواعد العمل والنهوض والإنتاج والمشاركة في صنع المستقبل. 

العبارة تفسر أيضا لماذا انقلب العسكر على الرئيس المدني المنتخب ، والقضاء على أول تجربة للحكم الديمقراطي التي يمارس فيها الشعب دوره في الاختيار. 

لا بد أن السيدة سوزان سمعت مرارا وتكرارا في قصر الحكم أن الشعب المصري لا يصلح لقيادة نفسه ، ولا يفقه شيئا في معني الديمقراطية والشورى ، ولا يعرف مصلحته حتى لو كان الرئيس المنتخب فائقا في دراسته، ويحمل درجة الدكتوراه ، ثم الأستاذية، وقام بالتدريس في أهم جامعات الولايات المتحدة ، ويملك تجربة سياسية ثرية بالعلم والعمل والتفكير الحي ، وجاهد في سبيل أفكاره وآرائه بما جعل الحكم الديكتاتوري لزوجها يدخله السجن ويحاكمه محاكمات استثنائية ظالمة.

ولا يشفع  له أن يكون وزراؤه ومساعدوه من العلماء العاملين الذين يملكون الشرف والنزاهة والعفة ، ويبادرون إلى الإصلاح والنزول بأنفسهم إلى الشارع والميدان لحل مشكلات الناس وفق أسس علمية ومنهجية تريح الشعب وتقلل من حجم المشكلات. 

ولا يغفر للرئيس المنتخب أن يكون مجلسه النيابي المنتخب يضم قامات علمية شامخة وبعضها يمثل نماذج نادرة في تخصصه على مستوى العالم ، ويملك وعيا معرفيا واجتماعيا يمكنه من التشريع الجيد والتخطيط السليم. 

المؤسسة العسكرية تحكم ، قرار لا مثيل له في العالم المتقدم ، ولا في بوركينا فاسو ، فقد انتفض الشعب هناك وساندته الأمم المتحدة وعاد العسكر إلى مساكنهم عقب انقلاب لم يعمّر أسابيع ، وتسلم المدنيون قيادة البلاد.

السبب واضح جدا أن العسكر لهم مهمة جليلة ومقدسة وهي حماية الحدود والوجود من غارات الأعداء الأشرار ، وصدهم عند الهجوم على البلاد والعباد ، وإذا اقتضت الضرورة فلتكن المبادأة بالهجوم ، وتدمير قوات العدو قبل أن تنطلق نحو الوطن.

تعالوا نر كيف أسس زعيم العسكر الملهم بلادنا لمواجهة العدو اليهوي النازي منذ الانقلاب الأول عام 1952 . كانت ذريعة الانقلاب هي الهزيمة المريرة في فلسطين ، وحصاره في الفالوجا ، وعودته مع رفاقه تجللهم أكاليل الخزي والهزيمة والعار. وكان من أهداف الانقلاب وفقا لما قاله الزعيم بناء جيش وطني قوي يحقق الانتصار ويسحق الأعداء ويحرر المقدسات . ولكن جيش الزعيم الملهم ظل يُضرب ويُهزم وينسحب حتى رحيله.

أذكّر القراء وخاصة من الأجيال الجديدة التي لم تعاصر الهزائم والانسحابات والخيبات والبكاء على عتبات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، بما ذكره خالد محيى الدين وهو عضو في تنظيم الضباط الأحرار الذين أطاحوا بالحكم الملكي ، لتأسيس حكم العسكرالذي استمر حتى اليوم ، مع أن خالد كان من أنصار الديمقراطية وعوقب على ذلك بنفيه إلى الخارج . يشير خالد في كتابه ".. والآن أتكلم ، ط 1 مركز الأهرام للترجمة والنشر ، القاهرة ، القاهرة ، 1413 هـ = 1992م " إلى أن  فلسفة الانسحاب أمام العدو بدأت من الفالوجا في حرب فلسطين ، فقد كان عبد الناصر يرى ضرورة إيجاد سبيل للانسحاب من الفالوجا حتى لا تصبح القوات المصرية المحاصرة ورقة في يد المفاوض اليهودي (ص 73 ) ، ويتحدث خالد عن موقف عبد الناصر المسالم من العدو فيقول : " ففي فترة إقامتي بالمنفى وأثناء زيارتي لباريس أبلغني الأستاذ عبد الرحمن صادق المستشار الصحفي في سفارتنا بباريس أنه مكلف من عبد الناصر بعمل علاقة ما بالسفارة الإسرائيلية ، وأن هدف العلاقة هو التعرف على كل أفكار الإسرائيليين  ورؤيتهم للثورة وموقفهم إزاءها.

ويمكن القول بأن إسرائيل في هذه الفترة لم تكن مدرجة في الأسطر الأولى لجدول الأعداء .. ( ص 192 ). 

ويلخص خالد وضع النظام العسكري بعد الوكسة الكبرى فيقول : " وفي اعتقادي أن هزيمة يونيو 1967 لم تكن هزيمة عسكرية ، بل هي في الجوهر هزيمة سياسية لنظام فشلت آلياته في اكتشاف ما إذا كانت البلاد جاهزة للحرب أم لا. وبعد الهزيمة كانت هناك فرصة تاريخية لتحقيق الديمقراطية. لكن هذه الفرصة ضاعت ، لأن الديمقراطية تتطلب من الحاكم أن يقدم تنازلات للشعب ، ولم يكن عبد الناصر مستعد (كذا!) – حتى رغم هزيمته – أن يقدم أية تنازلات " ( ص215 ) .

طبعا لم يرد عبد الناصر على أي عدوان عسكري ضد جيشه أو بلاده إلا بالانسحاب المذل والمخزي . ضربه اليهود عام 1955 في خان يونس وقتلوا 35  جنديا من جيشه وأصابوا 15 فسكت ولم ينطق ، اتجهوا إلى العوجة في العام نفسه واحتلوها   ولم يرد ، وفي عام 1956 دمروا طائراته في سيناء وهي على الأرض وكان قائد سلاح الطيران آنئذ صدقي محمود الذي أفاد أن الطائرات لم يتم تموينها بالوقود فلم تستطع الطيران ، ومع ذلك بقي صدقي محمود فضلا عن عبد الحكيم عامر في القيادة العليا للجيش بعد الانسحاب المخزي المذل من سيناء ، وفي عام 1967 تم تدمير الطيران على أرض مصر كلها ، وخرج القادة المهزومون من الجريمة كما تخرج الشعرة من العجين ، ولا تلتفت إلى المحاكمات الصورية على طريقة عودوا إلى مقاعدكم !

ما قاله خالد محيى الدين عن الهزيمة السياسية لنظام فشلت آلياته في معرفة مدى جهوزيته للحرب أو لا ؛ يؤكد أن العسكر لا يصلحون للحكم والبناء الحضاري ، وليس كما تقول السيدة سوزان ثابت ، فالشعوب لايمكن أن يقودها العسكر في الحياة المدنية ، لأن هذه غير تلك . أما ما يقال عن القيادات العسكرية التي تحكم الكيان الصهيوني ، فهذه القيادة لا تحكم بانقلاب عسكري ، ولا بالأوامر العسكرية ، ولا تقتل  شعبها ، ولكنها تحكم بصندوق الانتخابات ، بعد أن تخلع الزي العسكري لعدة سنوات ، وتندمج في الحياة المدنية ، وتدرس في تخصصات علمية مختلفة ، واسألوا القادة اليهود الغزاة عن الدراسات الأدبية والتاريخية والجغرافية والقانونية والإعلامية وغيرها التي أحرزوا فيها درجات الدكتوراه وتصب في خدمة كيانهم العسكري المهاجم الذي لا يعرف الانسحاب إلا بعد أن يحقق مكاسب غير مشروعة من المهزومين!.

ترى كيف ستكون علاقة يناير والمؤسسة بعد نهرالدم والقهر والاعتقالات والفشل السياسي والاقتصادي العظيم؟