القرآنُ والسُّنَّةُ مصدرُ الشريعةِ وأحكامِها

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه وصحبِه ومنْ والاه.

وبعدُ؛ فمن المتفقِ عليه بين أهلِ الإسلامِ أنَّ السنَّةَ النبويَّةَ تُمَثِّل مع القرآنِ المصدريْن الأساسيَّيْن لأحكامِ الشريعةِ الغرَّاء، ولا عذرَ لأحدٍ في مخالفتِها أو التخلِّي عنها، وقد قال الله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وأخرج أحمد وأبو داود بسند صحيح عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».

والسنةُ شاملةٌ لكل مجالاتِ الحياة، وفيها تنظيمٌ عمليُّ رائعٌ لشؤونِ الحياةِ كلها في كل المجالات الأخلاقية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لذا كان الأصل الثاني من أصول الفهم عند الإخوان المسلمين: «القرآنُ الكريمُ والسنةُ المطهرةُ مرجعُ كلِّ مسلمٍ في تَعَرُّفِ أحكامِ الإسلامِ، ويُفْهَمُ القرآنُ طبقًا لقواعدِ اللغةِ العربيةِ من غير تكلُّفٍ ولا تعسُّفِ، ويُرْجَع في فهمِ السنةِ المطهرةِ إلى رجالِ الحديثِ الثقات».

وجوبُ الرِّضا والتسليمِ لحكمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:

ليس للمسلمِ خيارٌ في الاستجابةِ لأمرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ ولذلك كان الرافضُ لحكمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فاقدًا للإيمانِ، حتى يرضَى به ويُسَلِّمَ له بلا حَرَجٍ في صدره.

وقد أخرج الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ (أي مسيل الماء في تلك المنطقة)، الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ.

فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: «أَسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ». فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟. (يعني يتهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حكم لصالح الزبير مجاملة لكونه ابن عمته).

فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ». (وهي الحواجز التي تحبس الماء، والمعنى: حتى تبلغ تمام الشرب).

فَقَالَ الزُّبَيْرُ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾».

تعظيمُ السُّنَّةِ ورفضُ الاستهانةِ بها

كان الصحابةُ رضوان الله عليهم يستعظِمُون أنْ يواجهَ أحدٌ سنَّةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وجاءت عنهم في ذلك آثارٌ كثيرة، منها ما أخرجه مسلم أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا». قَالَ: فَقَالَ (ابنُه) بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ، فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: «أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ!».

وأخرج الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: لاَ تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الخَذْفِ، أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الخَذْفَ(وهو الرمي بالحصى بالأصابع)، وَقَالَ: «إِنَّهُ لاَ يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلاَ يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ (يعني لا يقتل العدو ولا يجرحه)، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ العَيْنَ».

ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الخَذْفِ، أَوْ كَرِهَ الخَذْفَ، وَأَنْتَ تَخْذِفُ! لاَ أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا». وفي رواية: «لاَ أُكَلِّمُكَ أَبَدًا».

وهذه قصة شاب استهزأ بأبي هريرة وهو يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ماذا حدث له، أخرج الدارمي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ، خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

فَقَالَ لَهُ فَتًى قَدْ سَمَّاهُ وَهُوَ فِي حُلَّةٍ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَهَكَذَا كَانَ يَمْشِي ذَلِكَ الْفَتَى الَّذِي خُسِفَ بِهِ؟ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَعَثَرَ عَثْرَةً كَادَ يَتَكَسَّرُ مِنْهَا، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لِلْمَنْخَرَيْنِ، وَلِلْفَمِ، ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾».

والقصص في هذا كثير، ويكفي العقل أن يقرأ قوله تعالى ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

تقسيمُ الأحكامِ إلى فرائضَ وسننٍ لا يعني التقليلَ من أهمية السنة

فهذا التقسيمُ الذي أقرَّه الفقهاءُ إنما هو لبيانِ مراتبِ الأعمالِ، وما ينبغي تقديمُه عند التزاحم أو التعارض، وليس للاستهانةِ بالسنةِ، كما يفعلُ بعض العامَّة إذا دعوتَهم لتطبيقِ السنةِ قالوا: إنها سنة! يعني لا بأسَ بتركها، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، وقد تصدَّى الصحابةُ لهذا الأمر، فأخرج أحمد وابن أبي شيبة بسند صحيح عن مُسْلمٍ الْقُرِّيِّ، قال: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ الْوِتْرَ أَسُنَّةٌ هُوَ؟ قَالَ: «مَا سُنَّةٌ ؟! أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْتَرَ الْمُسْلِمُونَ»، قَالَ: لَا، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ قَالَ: «مَهْ! أَوَ تَعْقِلُ؟ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْتَرَ الْمُسْلِمُونَ».

أرادَ رضي الله عنه أنَّ المسلمَ ينبغي ألَّا يتهاونَ بسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعم أنها ليست واجبةً، فإنَّ اللهَ سبحانه قد عَلَّقَ سعادةَ الدَّارَيْنِ بمتابعتِه، وجعل شقاوةَ الداريْن في مخالفتِه.

السُّنَّةُ للعملِ لا لمجرَّد الحفظِ

يفهمُ الإخوانُ وكلُّ مُحِبٍّ للسنةِ أنَّ الاتباعَ والإحياءَ الحقيقيَّ للسنةِ هو في العمل بها في كل مجالات الحياة، ولا يكتفونَ بالتوجيهِ نحو حفظِ نصوصِها ومدارستِها، بل يؤكدون على وجوبِ نقْلِها من مجردِ نصوصٍ محفوظةٍ إلى واقعِ حيٍّ ملموسٍ، سواءٌ في ذلك الهديُ الظاهرُ أو الهديُ الباطن، ولهذا كان من واجباتك أيها الأخُ العامل: «أنْ تعملَ ما استطعتَ على إحياءِ العاداتِ الإسلاميةِ، وإماتةِ العاداتِ الأعجميةِ في كلِّ مظاهرِ الحياةِ, ومن ذلك: التحيةُ، واللغةُ، والتاريخُ، والزِّيُّ، والأثاثُ, ومواعيدُ العملِ، والراحةِ، والطعامُ والشرابُ, والقدومُ والانصرافُ, والحزنُ والسرورُ ...الخ, وأن تتحرَّى السنةَ المطهرةَ في ذلك».

وكذلك حرص الإخوانُ على إحياءِ سنن العباداتِ كالتراويحِ والاعتكافِ وصلاةِ العيدِ في الخلاءِ وغيرها، وإحياءِ السننِ المتعلقة بالزواجِ والمناسباتِ الاجتماعيةِ المختلفة، وكذلك يحرصون على التأسِّي برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سائرِ المعاملات، ويَزِنُونَ مواقفَهم في مختلفِ الأحوالِ على ميزانِ القرآنِ والسنةِ، يقول الأستاذ حسن البنا رحمه الله في رسالة (إلى أي شيء ندعو الناس): «يا قومَنا: إننا نُناديكم والقرآنُ في يمينِنا والسنةُ في شمالِنا، وعملُ السلفِ الصالحين من أبناءِ هذه الأمة قدوتُنا».

وعلى هذا الطريقِ الواضحِ يستمرُّ الإخوانُ في دعوتِهم إلى الله، واضعينَ نصبَ أعينهم قولَ الله تعالى ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾، وقوله تعالى﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾.