توطئة

طيف من النور لاح في الأفق ألمَّ بهذه الدنيا إلمام الغريب الطارئ، أو الضيف العابر، ثم تركها ومضى، هذه هي قصة حسن البنا.. ماذا يأخذ الطيف النوراني من الدنيا؟ وماذا يترك منها؟.. لا يأخذ شيئًامنها، ويترك كل شيء، يترك للضمائر نورها، والنفوس قدسها وطهرها.. وهكذا كان حسن البنا، لم يأخذ لنفسه شيئًا، وقد ترك للناس كل شيء.

 

حقيقة داعية

وصفه أحد محبيه بقوله:

سمعت عنه كثيرًا، ورأيت له في قلوب محبيه صورًا لامعة رائعة، فتراءى لعقلي عملاق هُدى ورأي وحكمة، وتخيلته أمام عيني عملاقًا في جسمه أيضًا، جبارًا في قسماته، وسماته.. ولما رأيته بين صحبه، أول ما رأيته، ما ظننت أنه هو، ثم قدمت إليه فتلقاني في بشاشة، لا تكلف فيها، ورحب بي، منساقًا مع فطرة رحبة.

 

لم أجد له في مشاهدتي، صورته في مخيلتي... كان أقرب إلى القصر منه إلى الطول، وأدنى إلى الوداعة منه إلى الجبروت، في صراحته إباء، وفي جرأته إغضاء.. زرته في بيته، فوجدته زاهدًا بسيطًا، وأكلت على مائدته، فوجدته فقيرًا كريمًا، وصحبته في أسفار، فلم أر أكثر منه أنسًا وإيناسًا في مواطن الراحة، ولا أكثر منه فناء في العمل وقت العمل.

 

شاهدته يتكلم بين أفراد، فلم أجد صوته يتطاول على الأصوات، ولاح لي أميل إلى الإصغاء منه إلى إبداء الآراء، فإذا دخل الحديث طور المراء، صمت في إعراض، أو أقبل فىابتسام، وهو بين الإشفاق والشفقة ؛ حتى إذا انتهى الأمر إلى زبدته، كانت كلمته هي الفاصلة.

 

وأصغيت إليه، وهو يخاطب ملأه فخيل إلىَّ أنه يحاول أن يسكت لسانه، وينطق قلبه بل وكل جوارحه، وإذ ذاك كان يمعن النظر فيمن أمامه وكأنه يحدق في أفق بعيد فينبعث من عيونه شبه نور وهَّاج، يتصل شعاعًا تجلب، فقلب.

 

وسمعته يخاطب الجماهير، فوجدته الطبيب الخبير، يعالج في ثنايا حديثه شئونًا من صميم حياة المستمعين ؛ حتى ليظن أحدهم أنه كوشف بخويصه مشكلته، وأخذ يصفه له الرواد. فإذا آنس أن القوم قد ركنوا إليه، اشتد عليهم في موعظته وجلجل بصيحات الحق، تتخلل حديثه الدفاق، المرصع بآي القرآن، فيضعون أنفسهم منه - دون اختيار - موضع الرعية من الراعي.

 

وهكذا يبلغ منهم لدعوته ما يريد، وينتهي غير مملول، محبوبًا ومرهوبًا.

 

حياته من المولد حتى الإسماعيلية (1906 - 1927)

ولد الإمام الشهيد حسن البنا في المحمودية عام 1906م وقضى بها سنوات عمره الأولى ومنذ صباه المبكر نمت معه الرغبة في الإصلاح على نهج الإسلام، فكانت ثورة على كل مظاهر الفسق والتحلل، وقعت بالصبي الصغير، وهو إذ ذاك تلميذ في المدرسة الإعدادية إلى أن يثور عند رؤيته لتمثال خشبي عار على صورة تتنافى مع الآداب، معلق على سارية إحدى السفن الشراعية على شاطئ ترعة المحمودية، فيندفع الصبي الصغير بفطرته السليمة، إلى ضابط النقطة ؛ ليبلغه ما رآه معلقًا عليه باستنكار فيستجيب الضابط لتلك الغيرة المؤمنة، ويقوم من فوره إلى حين يهدد صاحب السفينة، ويأمره بإنزال التمثال في الحال، وكان له ما أراد.

 

وتبلورت شعلة الإيمان المقدسة في نفسه على مر الأيام، فاستطاع أن يترجمها إلى عباراته القوية فيما بعد، حيث يقول "والفرق بيننا، وبين قومنا أن الإيمان عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم، لا يريدون أن ينزلوا على حكمه، ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب، مشتعل، قوي، يقظ في نفوس الإخوان المسلمين".

 

ويبدو أن مقومات الزعامة والقيادة كانت متوفرة لديه، ففي مدرسة الرشاد الإعدادية كان متميزًا بين زملائه، مرشحًا لمناصب القيادة بينهم، حتى أنه عندما تألفت "جمعية الأخلاق الأدبية" وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية.

 

غير أن تلك الجمعية المدرسية لم ترض فضول هذا الناشئ، وزملائه المتحمسين، فألفوا جمعية أخرى خارج نطاق مدرستهم، سموها "جمعية منع المحرمات" وكان نشاطها مستمدًا من اسمها، عاملاً على تحقيقه بكل الوسائل، وطريقتهم في ذلك هي إرسال الخطابات لكل من تصل إلى الجمعية أخبارهم بأنهم يرتكبون الآثام، أو لا يحسنون أداء العبادات.

 

ثم تطورت الفكرة في رأسه بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور، فألف "الجمعية الحصافية الخيرية" التي زاولت عملها في حقلين مهمين هما:

الأول: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات الفاشية.

الثاني: مقاومة الإرساليات التبشيرية التي اتخذت من مصر موطنًا، تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب، وتعليم التطريز، وإيواء الطلبة.

 

بعد انتهائه من الدراسة في مدرسة المعلمين في دمنهور، انتقل إلى القاهرة، وانتسب إلى مدرسة دار العلوم العليا، واشترك في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وكانت الجمعية الوحيدة الموجودة بالقاهرة في ذلك الوقت، وكان يواظب على سماع محاضراتها، كما كان يتتبع المواعظ الدينية التي كان يلقيها في المساجد حينذاك نخبة من العلماء العاملين.

 

بيد أن ما رآه في القاهرة من مظاهر التحلل والفساد والبعد عن الأخلاق الإسلامية، جعلته يفكر في أن المساجد وحدها لا تكفي في إيصال التعاليم الإسلامية إلى الناس، وهنا تبدو عقلية البنا المبتكرة ؛ لأن الجمهور الذي لا يرتاد المساجد، أشد حاجة إلى الموعظة، وقد اقترح على جماعة من زملائه بدار العلوم وبعض أصدقائه الأزهريين أن يخرجوا للدعوة في المقاهي والمجتمعات العامة !! فعجبوا لفكرته، واستنكروها أول الأمر !! وانتهى الجدل بينهم أن تكون التجربة هي الحد الفاصل بين المضي فيها أو الإقلاع، وأظهرت التجربة نجاحًا عظيمًا لفكرته، شجعهم على الاستمرار فيها، وتخصصت منه شعبة تتولى نشر الدعوة الإسلامية في الريف والمدن أثناء الإجازة الصيفية، وأفادوا من هذه التجربة كسب الثقة النفسية، وحسن الأحدوثة في الأوساط الشعبية.

 

ثم اجتاحت مصر موجة من الإلحاد والإباحية، على إثر الانقلاب الكمالي في تركيا - إن صح هذا التعبير - وإلغاء الخلافة الإسلامية.

 

وكان لهذه الموجة الإلحادية رد فعل قوي، في الأوساط الإسلامية عامة، وفي نفس الأستاذ البنا خاصة، فكان يتحدث عن شعوره لكل المتصلين به من الزملاء، ولكل من يعرفه ويمكنه الاتصال بهم من الشيوخ والعلماء.

 

وكان ممن اتصل بهم المرحوم "السيد محمد رشيد رضا" والمرحومان "الشيخ الدجوي" والأستاذ الأكبر "محمد الخضر حسين" شيخ الأزهر السابق، والأستاذ الكبير "محب الدين الخطيب".

 

وقد تحدث معهم في ضرورة مواجهة الموقف بعمل إيجابي، فأثمرت هذه الجهود صدور مجلة "الفتح".

 

ويبدو أن فكرة الإخوان قد تبلورت في رأسه أول ما تبلورت وهو طالب بدار العلوم، فقد كتب موضوعًا إنشائيًا كان عنوانه : "ما هي آمالك في الحياة بعد أن تتخرج" فقال فيه : إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية - أمل خاص، وأمل عام.

فالخاص: هو إسعاد أسرتي وقرابتي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

والعام: هو أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء، وأقضي ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة.

 

وقد يعجب الكثير أن تكون هذه آمال طالب في مقتبل حياته !! حيث الغرائز مستعرة لا تطلب سوى الإرضاء !! والنزوات مشتعلة لا تطلب إلا الإطفاء، والشباب فوار ينشد المتعة من أي طريق.

 

والمتتبع بعد ذلك لتاريخ الأستاذ حسن البنا يجد أنه لم يخرج عن البرنامج الذي رسمه لنفسه، وهو طالب، في هذا الموضوع الإنشائي بالذات، فقد رسم في أمله العام الغاية التي يسعى لتحقيقها، وهي تعليم الناس هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، والوسيلة وهي : الخطابة والمحاورة، والتأليف، والكتابة، والتجول، والسياحة.

 

الإسماعيلية وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين (1927-1933)

حصل الأستاذ البنا على دبلوم دار العلوم العليا سنة 1927، وكان أول دفعته، وعُين معلمًا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية.

 

ولما استقر به المقام بالإسماعيلية أثر في نفسه ما رآه من الاستعمار العسكري المتمثل في المعسكرات الإنجليزية بالقناة، والاستعمار الاقتصادي المتمثل في شركة قناة السويس، ثم ساءه أن يعرف أن المسلمين في البلد منقسمين بسب خلافات دينية، نتيجة تعصب كل فريق لرأي خاص، فاعتزل جمهور المسجد، وعاد إلى جمهور المقاهي مرة أخري، واختار لذلك ثلاث مقاهٍ كبيرة، ورتب لكل منها درسًا في الأسبوع، وأخذ يزاول التدريس ويتحرى الموضوع الذي يتحدث فيه ؛ حتى لا يتعرض للنواحي الخلافية، ويضرب لهم مثلاً لتسامح علماء المسلمين في الصدر الأول رغم اختلافهم في الآراء.

 

وقد عمل الوعظ عمله في نفوس المتلقين، فأخذوا يفيقون ويفكرون، ثم تدرجوا من ذلك إلى سؤاله عما يجب عليهم تجاه دينهم وأمتهم، فأجابهم إجابات غير قاطعة جذبًا لانتباههم، واسترعاء لقلوبهم، وانتظارًا للفرصة السانحة، وتهيئة للنفوس الجامحة.

 

وفي ذي القعدة سنة 1347هـ، مارس سنة 1928م زار الأستاذ البنا أولئك الإخوة الستة : حافظ عبد الحميد، وأحمد الحصري، وفؤاد إبراهيم، وعبد الرحمن حسب الله، وإسماعيل عز، وزكي المغربي، وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كان يلقيها، وجلسوا يتحدثون إليه، وفي صوتهم قوة، وفي عيونهم بريق، وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم، وقالوا : ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام، وخير المسلمين؟! ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا، وهذه الدراهم القليلة، من قوت أبنائنا، وكل الذي نريده أن نقول لك ما نملك ؛ لنبرأ من التبعة بين يدي الله، وتكون أنت المسئول بين يديه عنا، وعما يجب أن نعمل.

 

كان لهذا القول المُخلص أثره البالغ في نفس الأستاذ البنا، ولم يستطع أن يتنصل من هذه التبعة، وقال في تأثر عميق : "شكر الله لكم، وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح، يرضي الله، وينفع الناس، وعلينا العمل، وعلى الله النجاح، فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جندًا، وفيها حياة الوطن، عزة الأمة".

 

وكانت بيعة، وكان قسمًا أن نحيا إخوانًا نعمل للإسلام، ونجاهد في سبيله.

 

وقال قائلهم ! بم نسمى أنفسنا؟ وهل نكون جمعية، أو ناديًا، أو طريقة، أو نقابة ؛ حتى نأخذ الشكل الرسمي؟ فرد الأستاذ البنا قائلاً: لا هذا، ولا ذاك دعونا من الشكليات، ومن الرسميات، وليكن أول اجتماعنا وأساسه : الفكرة والمعنويات والعمليات. ونحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن "الإخوان المسلمون".

 

وجاءت بغتة... وذهبت مثلاً... وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة، على هذه الصورة، وبهذه التسمية.

 

وهكذا غرست البذرة الأولى لفكرة الإخوان المسلمين في أرض طيبة من هذه القلوب الستة، آمنوا بها، عاهدوا الله على الجهاد في سبيله، فكانت تلك الثمار المباركة لوفائهم وإخلاصهم، من نجاح للدعوة، ومرشدها، مصداقًا لقول الله تعالى : ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ (الفتح: من الآية10).

 

ولبث الأستاذ البنا يعمل لدعوته صامتًا، فكسبت دعوته - كل يوم - مزيدًا من الأنصار والجنود، بفضل إخلاصه العميق، وفهمه الدقيق للفكرة، وأهدافها.

 

ولاقت دعوته نجاحًا، فأغراه على مواصلة الكفاح، ودفعه الإيمان بالفكرة والحماسة لها إلى الفناء في سبيل نشرها، وإلى توسيع نطاق البيئة التي يعمل فيها، فلم يترك قرية، ولا بلدة، ولا كَفرًا إلا زاره، واجتمع بالناس فيها، في مساجدهم، وفي بيوتهم ؟! وكانت أسفاره في عطلته الأسبوعية، وفي عطلته السنوية في الصيف، ففي الأولى يزور البلاد القريبة، وفي الثانية يزور البلاد البعيدة.

 

وهكذا استمر الأستاذ البنا في نشر دعوته، في كل مكان يصل إليه في أسفاره البعيدة، أو القريبة.

 

وقد أثمرت أسفاره بعد سنتين شعبة في كل من "أبوصوير" و "بورسعيد" و "البلاح"، وبعد ثلاث سنوات شعبة أخرى في السويس، وبعد أربع سنوات نحوًا من عشرة فروع، معهداً بالإسماعيلية ؛ لتربية البنات، وإعدادهم ليكُنَّ أخوات مسلمات.