من ثمانية وخمسين عامًا تجمعت وتلاحمت كل الأيدي الشيطانية الملوثة: يد الملكية الماجنة الفاسدة، ويد الحكم الساقط المنكوس، ويد الاستعمار الإنجليزي الضاري، ويد الصهيونية العالمية الناهبة، ويد الصليبية الحاقدة، ويد الإلحاد المدمر.. كلها تجمعت وتضافرت وتلاحمت في يد واحدة سوداء كالحة وأطلقت رصاصات الغدر والخسة والنذالة على الرجل القرآني "حسن البنا" أمام جمعية الشبان المسلمين.

 

وتيتمت مصر..

ثمانية وخمسون عامًا مضت على اغتيال إمام الأمة، وصوتها النبيل المدوِّي الذي أرشدنا إلى درب الحق والحقيقة، ورفع راية الشموخ والإيمان، وغذى- من نفسه وجهده وعرقه وعلمه وعزمه- شعلة الدين التي هتكت كل الظلمات، وانبثقت فيوض النور في كل الآفاق.. إنه مساء السبت 12 من فبراير سنة 1949م.. في لحظات منه أطلقت اليد الكالحة السوداء رصاصات الغدر لتخترق الجسد النحيل العاني، وتدفق الدم من القلب الطاهر الذي كان ينبض بذكر الله، وروح الإيمان.. يا الله!! اللون لون دم، والريح ريح مسك، ولم تسقط نقطة واحدة من هذا الدم على الأرض، بل استقبلتها وتشربتها ملايين الأوردة والشرايين التي امتدت في جسوم تلاميذه ومريديه، فعاشوا تنبض قلوبهم بدمه، ومضوا تحت راية "إياك نعبد وإياك نستعين".. يمخرون بها عباب الآلام والمحن، بصبر أيوبي لا ينفد، وعزم بدري لا يهون.. أما الإمام الشهيد.. فرفعته مشيئة الله إلى الروح والريحان وجنة النعيم.

 

ومن كرامات هذه الشهادة أنها كانت السبب القوي الذي وجه "سيد قطب" نفسيًّا وفكريًّا إلى (الإخوان المسلمين)، وذلك أنه كان آنذاك في الولايات المتحدة مبعوثًا من وزارة المعارف المصرية، ورأى "سيد" مظاهر الفرح والابتهاج في المحافل، وعلى صفحات الصحف لمقتل "حسن البنا" عدو الغرب كما وصفوه، واقتنع بفكر الجماعة، وانضم إليها بعد عودته من أمريكا ليكون علمًا من أكبر أعلامها، ويُقدِّم روحه فداءً لعقيدته بعد أن ترك وراءه عشرات من الكتب التي انتصرت للإسلام والفكر الإنساني الحصيف.

 

وبكيتُ.. وبكى أبي

 الصورة غير متاحة

 الإمام حسن البنا

كنت آنذاك في "المنزلة" مسقط رأسي، كنت طالبًا في بداية المرحلة الثانوية.. ليلتها فزعت إلى حجرتي.. وغلبني البكاء إلى حدِّ النشيج.. وغمرت الدموعُ عينيَّ ووجهي.. وفوجئت بأبي أمامي في حجرتي.. فأخذني الحياء.. خشية أن أظهر أمامه ضعيفًا.. باكيًا، فدفنتُ وجهي في منديلي.. وسألني:

- ما هذا البلل على وجهك؟

- إنه الزكام يا أبي.. إنه الزكام.. لعن الله الزكام.. ورحت في منظومةٍ من السعال المفتعل.. وظل ينظر إليَّ صامتًا، وأنا أختلس إليه النظر من ثنايا منديلي.. ولأول مرة في حياتي تمنيت أن يتركني أبي ويغادر حجرتي، ولكني انتفضتُ عندما لمحت في عينيه دمعتين.. توقفتا كأنهما بلورتان من الثلج، إنها أول مرة.. وآخر مرة أرى فيها دموعًا لأبي، وفجأةً قال لي بصوت متهدج.. بالحرف الواحد، وهو يضع يمناه على كتفي

- "يا ابني.. أنت لا عندك زكام ولا غيره.. أنت تبكي لأنهم قتلوا الشيخ "حسن".

 

وهنا تحول بكائي إلى نشيجٍ عالٍ.. وواصل أبي كلامه:

- "يا ريت دموعنا- يا ابني- كانت "دم"؛ فالشيخ "حسن" يستحق أكتر من كده بكتير".. كفاية يا ابني.. مفيش فايدة.. مصر يا ابني منحوسة مالهاش بخت".

 

"مصر منحوسة مالهاش بخت" قالها أبي الأميُّ في عفويةٍ حزينة.. وبعدها بعشرات من السنين أقرأ ما يدور في فلك هذا المعنى في كتاب: "روبير جاكسون" (حسن البنا الرجل القرآني): ".. هذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع تحت يده- إنه رجل لا ضريبَ له في هذا العصر.. لقد مرَّ في تاريخ مصر مرور الطيف العابر الذي لا يتكرر.. كان لا بد أن يموت هذا ا