بقلم: د. سيد دسوقي*

 

مقدمة

في امتحان الليسانس في دار العلوم سأل أحد الممتحنين الأستاذ البنا عن حصيلته من الشعر العربي؟ فأجابه: ثمانية عشر ألف بيت من الشعر، فسأله الرجل: هل تحفظ قصيدة طرفة بن العبد؟! قال البنا: نعم.. استطرد الشيخ وسأل: هل أعجبك فيها بيت معين؟ فقال البنا: نعم،

إذا القوم قالوا مَن فتى؟        خلت أنني عُنيت فلم أكسل ولم أتبلَّدِ

فطرب الأستاذ لإجابة البنا طربًا عظيمًا، فسأله ممتحن آخر: (وأظنه كان الشاعر الكبير علي الجارم) عن سرِّ سروره البالغ بهذه الإجابة، فقال له الشيخ الممتحن: لقد وقفتُ نفس الموقف أمام الإمام محمد عبده، وسألني نفس السؤال فظللتُ أقول بيتًا من هنا وبيتًا من هناك، فضاق الإمام محمد عبده بإجاباتي، وقال لي: هل تذكر قصيدةَ طرفة: "إذا القوم قالوا مَن فتى، خلت أنني عنيتُ فلم أكسل ولم أتبلد"، وهذا الفتى البنا قالها من أول مرة، ودون تردد.

 

نعم لقد كان أهم ما يُميز الإمام البنا هذه الهمة الحضارية العظيمة، والتي تدفعه دفعًا إلى البحث في خريطة المهام الحضارية وإعداد نفسه لتحمل هذه المهام بما حباه الله من فضل، وأفاض عليه من علمٍ، ومن قدرات متعددة، ولعل هذه الخاصية "الهمة الحضارية" و"البحث عن الواجبات الحضارية" هما أهم ما يميز حركة الإخوان المسلمين.

 

في 1950- 1951م انتقل الفلاحون والعمال في قريتي بالمرج من جسدٍ هامدٍ متخلفٍ إلى جسدٍ حي ينشئ مدرسةً ومستوصفًا، ويسعى في حركةٍ تُحارب العاداتِ السيئة من تدخين الحشيش وتحللٍ اجتماعي، كل هذا في عامٍ واحد، بل بدأ هؤلاء الفلاحون يضطلعون بحفظ الأمن والضغط على عصاباتِ القتل والسرقة حتى أقلعوا عن جرائمهم.

 

لقد كانت دعوة البنا دعوة إحيائية تحيي موات الأمة، وتُعيدها إلى النبع الصافي من القرآن والسنة متجاوزة عمليات الإحياء الضيقة التي كانت تقوم على نُتَفٍ مذهبية أو نتفٍ تاريخية، أو نتف عرقية.

 

وهذا الإحياء لم يكن نظريًّا، وإنما كان إحياءً عمليًّا، فهذا الجسد الذي تريد إحيائه محتلة أرضه، منهوبة موارده، وتحيط به أمراض حضارية كثيرة، فهذا إذن إحياء تحت صليلِ السيوف الممشوقة فوق رقابنا تحرس ما تراكم في وعائنا من تخلفٍ حضاري.

 

وفي هذه الوريقات سوف أتذكر مع القارئ مجموعة من مواقف الأستاذ البنا في التربية الحضارية ومعظمها سمعتها ممن شاهدوها بأنفسهم، فأنا هنا أروي عن شهود.

 

ولن أعلق كثيرًا على هذه المواقف حتى أُتيح للقارئ حرية التأمل، واستخراج العبر.

 

1- تقوية النسيج القومي:

في أوائل التسعينيات جاءني زميلٌ مهندسٌ إلى اللجنةِ العلمية في نقابة المهندسين، وقدَّم لي شابًّا لا أعرفه: أُقدم لك المهندس أخنوخ فانوس- رئيس المركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة- فسألت الشاب على الفور: أنت ابن المجاهد العظيم لويس فانوس، فأجابني: نعم، المستشار السياسي للإمام الشهيد حسن البنا، استغرب زميلنا الأول، حيث جاء ليعرفني بالرجل فوجدنا قد تعارفنا بظهرِ الغيب، وهنا حكيتُ لهم قصة أعرفها عن البنا وفانوس.

 

القصة رواها لي الأستاذ عبد الحليم أبو شقة الناشر الشهير، كان ذلك في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي عندما تقدَّم شابان مسيحيان يعيشان في طنطا للانضمام لشعبة الإخوان المسلمين هناك.

 

وهنا انقسم الإخوان إلى رأيين، رأي يرى أنه لا مانعَ من ذلك، ورأي يعارض هذا الانضمام، أرسلوا رسالةً للإمامِ البنا يطلبون منه الرأي، مضى شهرٌ أو أكثر، ولم يصل الرد، ولكن فاجأهم الأستاذ البنا عندما دعوه في المولد النبوي أن حضر وأحضر معه صديقه ومستشاره السياسي الأستاذ لويس فانوس، وتحدَّث يومها في الحفل الأستاذ لويس من روحٍ مصريةٍ تؤمن بأنَّ مصر تملك حضارةً عربيةً إسلاميةً تدعو المسلم والمسيحي أن يستمسك بها ويعيش في رحابها، ويعمل على رفعةِ بلده في ظلها، بعد الحفل اجتمع الإخوان بمرشدهم وسألوه الرأي في المشكلة القديمة، فقال لهم: إنه أرسل الرد بالموافقة من قبل، ولكن يبدو أنَّ الرد وقع في أيدي المعارضين فخافوا أن يكون في الأمرِ لبسٌ فانتظروا، والأستاذ البنا لم يكن له مستشار مسيحي واحد، وإنما كانت له مجموعة من القيادات المسيحية تُعينه على اتخاذ المواقفِ الوطنية السديدة، فالبنا يريد أن ينهضَ بالوطن كله لا بجزءٍ منه، وهو في حاجةٍ إلى كل يد تبني معه، مع احترام عقائد الجميع.

 

2 - التعاون التام مع كل القوى الوطنية في العمل الوطني المشترك:

 الصورة غير متاحة

 الرئيس الراحل السادات

يحضرني في هذا ما رواه الرئيس السادات في مذكراته (البحث عن الذات) عن رغبته في العمل مع شباب الإخوان المنخرطين في الإعداد السري لمقاومة الاحتلال الإنجليزي في مصر، والعصابات الصهيونية في فلسطين، يذكر السادات أنَّ الأستاذَ البنا أرشده أن يذهب إلى عيادة طبيب في باب اللوق، ويدخل إلى الطبيب كمريض، وهناك سيجد من يوجهه.

 

وفعل السادات ذلك، وفوجئ بالفريق عزيز باشا المصري في حجرة الطبيب، حيث ضمَّه معهم في فصائل المجاهدين، والتي ضمَّت فيما بعد أسماء لامعة مثل: عبد المنعم عبد الرءوف، وجمال عبد الناصر وغيرهما.. كان الأستاذ البنا يسعي إلى تحرير وطنه من الاحتلال الإنجليزي، وكان يرى تدفق اليهود في هجرات جماعية إلى فلسطين، من أجل ذلك سعى عند كل القوى الوطنية في مصر والعالم العربي من أجل جمع الجهود وتنظيم القوى لمواجهةِ هذا الخطر في بلاد العرب والمسلمين، وكان يرحمه الله على صلةٍ بكل الزعماء الوطنيين في العالم العربي والإسلامي.

 

يحكي الدكتور توفيق الشاوي في مذكراته الذاتية أن بعثته الدراسية كانت في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن استعد للبعثة ذهب يزور أستاذه البنا، وأخبره بشأن ابتعاثه، فاقترح عليه الأستاذ البنا أن يُغيِّر اتجاه البعثة من أمريكا إلى فرنسا، وأخبره أننا نحتاجك في فرنسا لمساعدةِ مجتمعاتِ المجاهدين هناك، والذين يحاولون أن ينظموا أنفسهم، ثم طلب منه بعد ذلك أن يلتقي هناك بالمجاهد الكبير شكيب أرسلان، وكان هذا ما تمَّ وذهب الشاوي إلى فرنسا، وقام بدور متميز في الإعداد لتحرير الشمال الأفريقي.

 

وعندما عاد الشاوي إلى مصر ودخل السجن عام 54 لم يُخرجه من السجن إلا رجاء الإخوة المجاهدين الجزائريين والمغاربة إلى الرئيس عبد الناصر بالإفراج عنه لحاجتهم الماسة إلى جهوده، وخرج الشاوي من السجن إلى المغرب، حيث ظلَّ يكافح مع إخوانه، حتى تحررت الجزائر، وكان يسكن في بيتٍ واحدٍ مع بن بيلا، ومحمد خيضر، وآخرين.

 

انظر إلى رؤية البنا وانفتاحه على كلِّ القوى الوطنية في عالمنا العربي والإسلامي، وتوجيه تلميذه الشاوي لتغيير وجهة بعثته من أجل الإعداد والمساهمة في معارك التحرير، بل يحكي لي المستشار عثمان حسين- رئيس المحكمة الدستورية الأسبق- أنَّ الأستاذ البنا أرسله هو وأخوين آخرين برسالةٍ إلى رجلٍ من الهند سيمرُّ بمطار القاهرة، ولم يكن هذا الرجل إلا القائد محمد علي جناح- مؤسس باكستان فيما بعد- والعجيب أنهم عندما التقوا بالرجل في المطار طلب منهم أن يحملوا إلى الأستاذ سلامًا عطرًا، ويبلغوه أنهم استفادوا كثيرًا من نصائحه الغالية، متى وأين كان يلتقي البنا الشهيد بإخوانه من قادةِ الجهاد في الهند وأندونيسيا وكافة أنحاء العالم الإسلامي، وانظر كيف يربي تلاميذه على أنَّ دارَ الإسلام دارٌ لنا جميعًا.

 

3- قيمة الوقت:

يروي أستاذنا فريد عبد الخالق أنَّ الأستاذَ البنا اصطحبه ومجموعة صغيرة من شباب الإخوان لزيارة بهي الدين بركات باشا في عوامته في النيل.. ذهب الأستاذ قبل الموعد بنصف ساعة، وانتظر هو وأصحابه على الشاطئ، ولما بقي من الوقتِ خمس دقائق نزل وحده، وظل ينتظر حتى حان الوقت تمامًا، فدق جرس العوامة فخرج الباشا لاستقباله، ونظر إلى ساعته، وقال مستغربًا شيخٌ ومنضبطٌ كل هذا الانضباط، استأذن الأستاذ أن يُدخل معه أصحابه، فأذن الباشا وانتهزها الأستاذ فرصة ليتحدث عن قيمة الوقت في الإسلام، حتى إنَّ الله أقسم به في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كان هذا درسًا عمليًّا ونظريًّا لتلاميذه ولمعالي الباشا، ثم أضاف الأستاذ درسًا آخر لتلاميذه ولصاحب الدار عندما عرض عليهم الباشا أن يُقدِّم لهم طعام الغداء.

 

قال الأستاذ الإمام: إننا صائمون، وإنه صيام تطوع، فإن كان يسعدك أن نفطر فإن الإسلام يعطينا رخصةَ الإفطار من أجلِ إدخال السعادة على المضيف.. سأل الباشا في استغرابٍ وإعجابٍ: هل يقول الإسلام ذلك؟!

 

وهكذا استطاع الأستاذ الإمام أن يعلِّم تلاميذه ومضيفه الباشا بطريقةٍ عمليةٍ درسين في منتهى الأهمية الحضارية: قيمة الوقت، وقيمة إفشاء المودة والسعادة بين الناس.

 

4 - التدرج في دعوة الناس:

في إحدى زياراته للصعيد اقترح أحد إخوان الصعيد (الأخ حسين عبد الرازق، وهو الأخ الأصغر للشيخ مصطفى عبد الرازق) أن يزور الأستاذ المرشد أحد الباشوات في المنطقة، واسمه لملوم باشا.

 

استأذنوه في الزيارةِ فأذن، وذهبوا في الموعدِ المحدد، وانتظروا في قاعةِ الانتظار بالقصر قرب الساعة، وهنا نزل الباشا إليهم يرفل في روبٍ من الحرير وتنبعث منه روائح العطور الفاخرة.. وبدأ الأستاذ البنا بالحديثِ عن عائلةِ لملوم ومكانتها في المجتمع، وأنها أعطتنا كثيرًا من العلماء النجباء، وأثنى ثناءً طيبًا على الخيرِ الذي تُقدِّمه عائلة لملوم لمجتمعها.. كان الباشا يستمع إلى الشيخِ سعيدًا ومنتعشًا.

 

ولما انتهى الشيخ من حديثه التفت إليه لملوم باشا قائلاً: إنني أحبُّ أن أصلي، ولكن أشعر بضيقٍ من هذا الوضوء الذي يسبق الصلاة، لقد انتظرتموني حتى نزلت، وكنت أثناء ذلك في حمامي الخاص الصباحي، فأنا أستحمُّ مرتين في اليوم: مرةً في الصباح ومرةً في المساء، فما ضرورة أن أتوضأ ما دمتُ نظيفًا؟

 

فقال له الأستاذ المرشد: لا تثريبَ عليك أن تصلي على هذه الحال، ولا تشغل نفسك بالوضوء، فزع الإخوان الذين كانوا في صحبةِ الأستاذ من هذا الرأي العجيب (ومنهم الأستاذ فريد عبد الخالق راوي القصة)، ولكن الأستاذ أشار إشارةً لهم ألا يخوضوا في الأمر، وانتظروا على مضضٍ حتى خرجوا.

 

وصاح الأستاذ فريد: ما هذا يا فضيلة المرشد، صلاة بغير وضوء!

قال له الأستاذ: يا فريد هذه ليست فتوى هذا علاج مؤقت.

يقول الأستاذ فريد: وبعد شهرٍ من هذا اللقاء وصل الأستاذ حسين عبد الرازق للقاهرة، واجتمعنا حوله، فسأله: ما أخبار الباشا لملوم؟ قال: ما شاء الله أصبح يتوضأ لكل صلاةٍ ويسبغ الوضوء، ويُقيم معظم صلواته في المسجدِ القريب من قصره، لقد تغيَّر الباشا تمامًا، وأصبح إنسانًا غير الذي كنا نعرف، وهو دائمًا يذكر زيارة الأستاذ البنا له، ويثني عليه كثيرًا.

 

انظر- رحمك الله- إلى هذا الداعية المُوفَّق عندما يقول: هذه ليست فتوى، وإنما هو علاج.
والعلاج يحتاج إلى طبيبٍ حاذق، ولا يحتاج إلى متحذلقٍ يحمل فوق ظهره أسفارًا.

 

5- لين الجانب والتبسط الراشد:

في الأربعينيات كان الأستاذ فؤاد الخطيب يدرس في الجامعة في القاهرة، وكان أبوه يعمل سفيرًا للسعودية في مصر.. تعلَّق الأستاذ فؤاد بالأستاذ البنا وأصبح من الناشطين في الجامعة، وأراد الأستاذ فؤاد أن لا يحرم من هذا الخير زملاءه من الطلبة السعوديين، فدعاهم يومًا للغداء، ودعا الأستاذ البنا معهم.. وقبل أن يصل الأستاذ البنا ظلَّ هؤلاء الطلاب يمزحون مع فؤاد حول شيخه القادم، ويطلقون النكات على المشايخ عمومًا، ومنهم شيخنا البنا، ويبدو أنهم لم يكونوا قد رأوه من قبل فتصوروه شيخًا كبيرًا، وعلى رأسه عمامة ضخمة، وتُحيط به جبة واسعة، وقفطان مزركش.

 

ثم بدا لفؤاد أن ينزل لشراء بعض الأغراض، وللمصادفة يصل الأستاذ البنا في غياب فؤاد، وكان يلبس بنطلونًا وقميصًا، وتبدو عليه الفتوة والنشاط، فلم يظنوا للحظة واحدة أنَّ هذا الرجل هو الشيخ الذي ينتظرونه، واستمروا يمطرون المشايخ بوابلٍ من النكاتِ المضحكة، والشيخ يضحك معهم ويشاركهم في مزاحهم، وبينما هم كذلك إذْ وصل فؤاد. وقال: أستاذنا فضيلة المرشد.

 

فصمت الضاحكون فجأةً، وقالوا في صوتٍ واحد: الأستاذ البنا.. معذرةً يا أستاذ تصورناك غير ذلك، ولكنَّ الأستاذَ طمأنهم بكلامٍ جميلٍ عن فوائدِ الفكاهةِ البريئة، وأنَّ الضحكَ ليس جريمة.. المهم خرج من الموقفِ بسلاسةٍ حضاريةٍ غريبة، ثم بدأ بعد ذلك طريقه إلى قلوبهم وعقولهم ليحملوا معه هَمَّ العمل الحضاري عندما يعودون إلى بلادهم.. يقول الأستاذ فؤاد الخطيب (عليه رحمة الله): إنَّ هذه المجموعة أصبحت فيما بعد أعمدة بناء الدولة الحديثة في السعودية، بما فيهم الأستاذ فؤاد الذي تعرفتُ عليه بعد أن أصبح سفيرًا لبلاده في بلدان كثيرة.

 

الملاحظة هنا أنه بدأ من واقعِ الناس، وبمهارةٍ فائقةٍ قادهم إلى الهَمِّ العام وحمَّلهم مسئولياته، سواء انضموا إلى تنظيمه، أو عملوا موازيًا لهذا التنظييم.

 

 الصورة غير متاحة

الأستاذ البنا مع مجموعة من الإخوان

وتحضرني في نفس الاتجاه قصة رواها الدكتور سعيد رمضان في إحدى خواطره في مجلة "المسلمون".. يقول الدكتور سعيد: إن الأستاذ البنا ذهب في رحلةٍ دعويةٍ إلى قرية العزيزية بالشرقية، وكان القوم يحتفلون بذكرى القطب الصوفي الكبير الحسن الشاذلي، ودعوه للمشاركة.. وفي كلمته ظل يتحدث عن الإمام الشاذلي، ويردد أذكاره وأوراده حتى وصل إلى دعاء الشاذلي الذي يقول: "اللهم ارزقنا الموتة المطهرة".

 

وهنا سأل الأستاذ البنا سامعيه: أتدرون ما الموتة المطهرة؟ ثم صمت دقيقة، والناس معلقة أبصارهم صاغية قلوبهم إلى إجابة البنا، ومن هنا بدأ يصوغ قلوبهم في طريقِ دعوته، وظل يحدثهم عن الموتة المطهرة دفاعًا عن العرضِ والمال والمقدسات، وقتالاً في سبيل الله.. وخرج بهم من الآفاقِ الضيقةِ التي كانوا يعيشون فيها إلى آفاق حضارية متعددة، يقول الدكتور سعيد (عليه رحمة الله): وما غادر البنا العزيزية حتى بايعته عن بكرةِ أبيها.
مرةً أخرى تتجلى عبقريةِ البنا في الخروجِ بالناس من مواقعهم إلى مواقع المسئولية الحضارية ببساطة مذهلة.. رحم الله الأستاذ الإمام.

 

6 - الرفق بالعاملين معه لتكثير خيرهم:

كنتُ وأنا صبي صغير أصطحبُ الدعاة الزائرين لقريتنا لزيارة قرى أخرى لا نصل إليها إلا مشيًا، أو ركوبًا للدواب، وكان حظي أن أصطحب دعاة لا أنسى أثرهم في حياتي بما ألقوا في قلبي من المواعظ وفي عقلي من الذكر.

 

وكان من هؤلاء الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي (عليه رحمة الله)، وكان الشيخ ضريرًا، ويحتاج إلى صحبةٍ ترافقه في تنقلاته البعيدة، وفي إحدى هذه التنقلات سألته أن يحكي لي عن الإمام البنا، وتجلياته الروحية والحضارية.

 

قال (يرحمه الله): أرسلني الأستاذ البنا أنا والأخ أحمد السكري في مهمةٍ إلى الإسكندرية، كان الأستاذ السكري يحب رغد العيش، فلا يركب إلا الدرجة الأولى، وكنتُ أركب أنا الدرجة العادية.. المهم أنَّ الأستاذ البنا أوصاني بأخي أحمد خيرًا وأعطاني مبلغًا من المال، وقال لي: إذا طلب منك أخوك السكري مالاً فأعطه ولا تجادله.. وبينما نحن في رحلتنا إلى الإسكندرية، وأنا في الدرجة العادية أبصرت (وهو الضرير) كأنَّ الأخ السكري مقبلٌ عليَّ من الدرجة الأولى، وهو يتخطى القفف والغلقان التي تمتلئ بهم العربة التي أركبها حتى وصل إليَّ ووضع يده فوق كتفي وسألني: إن كان معي نقودٌ؛ لأنَّ محفظته قد سُرقت منه وليس معه أي نقود.. دمعت عيناي وقلت له صدق البنا.. خذ يا سيدي هذا المبلغ الذي أعطاه لي الأستاذ مخافة أن نحتاج في الطريق.

 

أقول مع الشيخ الشعشاعي: مَن أخبر حسن البنا بهذا؟ وما هذا الرفق بأتباعه، لو كان غيره لقال: الذي يريد أن يزهو فليزهو من جيبه وجيب أبيه.. ولكنه البنا يرفق بالعاملين معه ويحملهم معه بتكويناتهم المختلفة، ويعينه ربه بكشافٍ رباني يراهم في ضعفهم فيقيل عثراتهم (رحم الله الإمام).

 

7 - الجنود والمواقع:

 الصورة غير متاحة

الشهيد سيد قطب

في عام 1966م وكنتُ ما زلتُ في أمريكا جاءتنا الأنباء المفزعة بإعدام أستاذنا العظيم سيد قطب، وكنتُ أنا خطيب الجمعة في تجمعٍ لطلابٍ جامعة ستانفرد بكاليفورنيا، كنتُ في ثورةٍ أحرجت بعض المصريين الذين كانوا سيعودون في نفس العام لمصر، فكانت هناك مشادة بيني وبين هؤلاء الإخوة بعد الصلاة.. كان من بين المصلين الأخ الكريم الدكتور وهبي محمود الذي كان وكيلاً لوزارة التخطيط، وجاء إلى جامعة ستانفرد في برنامجٍ تقدمه ستانفرد في الإدارة العليا لمدة عام، وفي المساء اتصل بي الأخ الدكتور وهبي وسألني أن ألتقي معه في شقته، حيث كان يسكن مع الأخ الدكتور عبد الله عمر نصيف الذي كان يُدرِّس لدرجةِ الماجستير في الجامعة.. المهم التقينا وتحدَّث الأخ الدكتور وهبي وعيناه مغرورقتان بالدموع: إيه يا عم سيد لقد أبكيتني وغالبت البكاء حتى لا ينفضح أمري، ثم حكى: في النصف الثانى من الأربعينيات كنتُ أستعد للتخرج من الجامعة.. وكنت عصبيًّا جدًّا، وكل يوم يذهب زملائي في الجامعة من الإخوان ويشتكون للأستاذ البنا: محرم تشاجر اليوم مع الشيوعيين.. محرم تشاجر اليوم مع الوفديين.. كل يوم أورط إخواني في خناقةٍ مع آخرين.

 

وفي إحدى هذه المرات انفرد بي الأستاذ البنا، وقال لي: يا محرم اختفي من الحركة.. قلت: تفصلني يا أستاذ؟ قال: لا، ولكن أريد أن أضعك في عملٍ آخر.. ثم قال لي: أنت ستتخرج هذا العام؛ ففي أي مجال تنوي العمل؟ قلتُ: في ميدان التدريس. فقال لي: أريدك أن تختفي في وزارةِ المعارف، حتى تصل إلى أعلى المناصب وتخدم دينك وأمتك في صمتٍ.. وتعاهدنا على ذلك، وبدأت رحلتي في وزارةِ المعارف، ثم وزارة التربية والتعليم حتى وجدتني مديرًا لمكتب الوزير كمال الدين حسين في الستينيات.

 

ثم فوجئتُ برجلٍ آخر كنتُ أعرف صلته القديمة بالأستاذ البنا، وهو أيضًا يعمل مستشارًا للوزير.. إنه الأستاذ الأديب فريد أبو حديد، وتصارحنا؛ فإذا قصته مثل قصتى، ولم ينكشف أمرنا إلا عندما كتب الدكتور نظمي لوقا كتابه الشهير "محمد الرسالة والرسول"، والذي يقول في آخر صفحةٍ فيه: "لا خيرةَ في الأمرِ ما نطق هذا الرسول عن الهوى، لا خيرةَ في الأمر ما ضلَّ هذا الرسول وما غوى، لا خيرةَ في الأمر ما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين، فسلام عليه بما هدى، وسلام عليه في الخالدين".

 

المهم أننا قررنا هذا الكتاب على طلبةِ الإعدادية في مادةِ النصوص، وبدأت اعتراضات محلية وغير محلية، وانكشف أمر الجنديين الذين أرسلهما حسن البنا ليحفظا لمصر نصوصها الدراسية في وقتٍ تطاولت فيه الأيدي العلمانية.

 

المهم أنه في عزِّ سطوةِ الشيوعيين والعلمانيين كانت المواد الدراسية في حفظٍ أمين بفضلِ هذين الجنديين العظيمين (رحمهما الله).

 

والدرس المستفاد أنه ينبغي أن لا يركب كل الجنود مركبةً واحدةً، أو دابةً واحدةً بقرنين كبيرين يسهل مسكها منهما.. إنما نكثر سواد الدواب، ونوزع الجنود في المواقع، ونسترهم بكل سترٍ متاحٍ، والحمد لله رب العالمين.

-----------

* [email protected]