بقلم: إسماعيل حامد*

في مئوية الإمام البنا نتذاكر عصره الذي جاء فيه، ففي خضم الأحداث التي عمَّت العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى، وبينما كان العالم الإسلامي يترنَّح من جرَّاء سقوط الخلافة الإسلامية، كان لا بد أن يخرج على الدنيا رجال يعيدون لهذه الدعوة حياتها وعزَّها، بعد أن تآمرت عليها قوى الشر.. فيأتي شاب في الحادية والعشرين من عمره قد ارتوى من النيل ماءً عذبًا فراتًا ومن الإسلام شرعةً ومنهاجًا ومن القرآن هديًا ونِبراسًا، ويخاطب قومه "يا قومنا إننا نناديكم والقرآن في يميننا والسنة في شمالنا وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، نناديكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وهدي الإسلام.. الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا فهو دولةٌ ووطنٌ أو حكومةٌ وأمةٌ وهو خلقٌ وقوةٌ أو رحمةٌ وعدالةٌ، وهو ثقافةٌ وقانونٌ أو علمٌ وقضاءٌ وهو مادةٌ وثروةٌ أو كسبٌ وغنى وهو جهادٌ ودعوةٌ أو جيشٌ وفكرةٌ، كما هو عقيدةٌ صادقةٌ وعبادةٌ صحيحةٌ سواءٌ بسواء".

 

وإذا بنورٍ يشعُّ في الأفق يُوحي بإعادةِ الحياةِ لهذه الدعوة العظيمة، وذلك على يد رجلٍ هيَّأته العناية الإلهية لحمل عبء هذه الدعوة وإعادة إشراقها من جديد، ليعم نورها العالم ثانية، ذلكم هو إمامنا الشهيد، يطلع على الدنيا بهذه الدعوة الخالدة التي جاءت في أوانها ومكانها، ليبني من جديدٍ جماعةً مؤمنةً تقوم على حمل هذه الدعوةِ التي جعلها الله أمانةً في أعناقِ مَن ينتسبون إليها، لقد كان إمامنا البنا رحمه الله أحد الشخصيات التي هيَّأتها القدرة الإلهية، وصنعتها التربية الربانية، وأبرزتها في أوانها ومكانها، فكان بحقٍّ كما سمَّاه الأستاذ عمر التلمساني بالملهم الموهوب، وها هو يعرف نفسه لنا بقوله: "أنا سائحٌ يطلب الحقيقة، وإنسانٌ يبحث عن مدلولِ الإنسانيةِ بين الناس، ومواطنٌ ينشد لوطنه الكرامةَ والحريةَ والاستقرارَ والحياةَ الطيبةَ في ظلِّ الإسلامِ الحنيف، أنا متجردٌ أدرك سرَّ وجوده، فنادى﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام). هذا أنا فمن أنت؟!".

 

في مئوية الإمام البنا نتذاكره وهو الطفل الصغير في سنه، الراشد في عقله وتفكيره، الكبير في همته وغيرته على دينه، حيث لم يتجاوز بعد العاشرة من عمره ونجد فيه الإصرار العجيب على تغيير أي منكرٍ يراه أمامه، كما حدث مع التمثال العاري الذي رآه فوق مركب على ضفاف النيل في المحمودية، ثم نتذاكره وهو فتى يسعى للعمل الراشد من خلال دراسته في جميع مراحل التعليم من خلال مشاركته وتأسيسه لبعض جمعيات العمل الدعوي الراشد مثل (جمعية الأخلاق الأدبية- جمعية منع المحرمات- جمعية الإخوان الحصافية)، فنتعلم منه بذلك الغيرة على الإسلام، والحرص على تبليغ الدعوة والهمة في الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

نتذاكره وهو الصادق مع الله والذي وفَّى بعهده معه حين سجَّل في موضوع تعبيره الشهير أن من آماله "أن أكون مرشدًا معلمًا إذا قضيتُ في تعليمِ الأبناء سحابةَ النهار ومعظم العام، قضيت ليلي في تعليمِ الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم ومسرات حياتهم تارةً بالخطابة والمحاورة وأخرى بالتأليف والكتابة وثالثة بالتجول والسياحة".. فنتعلَّم منه علو الهمة والغاية والوفاء بما نذر نفسه له.

 

نتذاكره جميعًا وهو المسلم الإيجابي الذي دق صدره وقال "ها أنذا".. وأمسك المصحف وهتف بأعلى صوته "الطريق من هنا" وأعلن لكل الناس "أنَّ الإسلامَ نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا ويفتي في كل شأنٍ منها ويضع له نظامًا محكمًا دقيقًا ولا يقف مكتوفًا أمام المشكلاتِ الحيوية والنظم التي لا بد منها لإصلاح الناس".. فنتعلم منه الإيجابية البنَّاءة.

 

في مئويةِ الإمام البنا نتذاكره وهو المؤمن بالله الواثق من نصره وتأييده والذي هتف "ادع إلينا فقد أبرمنا أمرًا، واجمع علينا الناس فسنتلو عليهم ذكرًا، سنطبب المريضَ بدوائنا، وسننفخ في الجبانِ من رُوحنا، صُمَّت أُذن الدنيا إن لم تسمع لنا، الله غايتنا، الرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".. فنتعلم منه عزم المؤمن الفتي الذي لا يضعف وقوة ثقته في نفسه وفي دينه ودعوته ومدى استعداده للتضحية في سبيل الفكرة التي يحملها.

 

في مئويةِ الإمام البنا نتذاكره وهو يعلن أن غاية فكرته "تنحصر في تكوين جيلٍ جديدٍ من المؤمنين بتعاليمِ الإسلامِ الصحيح يعمل على صبغِ الأمةِ بالصبغةِ الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها" ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138).. فأخرج المارد الإسلامي من القمقم وأنطقه على لسانه وبثَّ روحه في تلاميذه، موضحًا لهم أنهم "روحٌ يسري في قلبِ هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونورٌ جديدٌ يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفةِ الله عزَّ وجل، وصوت داوٍ يعلو مرددًا دعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم-.. فنتعلم منه وضوح الغاية والهوية وصحة الطريق.

 

نتذاكره وهو الإمام العجيب وفوق تراب مصر وحدها شق طريقه إلى عشرات المدن وآلاف القرى، فتحدث إلى الناس في ثلاثة آلاف قرية على الأقل وهو يزرع الحب بالابتسامةِ الرقيقة، ويصنع اليقين بالإقناع الهادئ، ويتجاوز الخلافات برفض الجدل وتعليق الناس بالجوهر لا بالمظهر وتقديم الأهم على المهم.. وقبل ذلك وبعده تقوى الله عز وجل والإعداد للقائه، وردد دائمًا: "أن الفناء في الحق هو عين البقاء".. فنتعلم منه السعي الدؤوب لنشر الدعوة وتبليغ الرسالة وفناء النفس من أجلها.

 

في مئويةِ الإمام البنا نتذاكره وهو يؤسس ألفي شعبة في أنحاءِ مصر، كانت كل شعبة بمثابة مدرسة للوطنية والجهاد والعمل الصالح والدعوة، وكانت إحياءً للرجولة والفتوة وتنويرًا  للأذهانِ بحقيقةِ ما يدور في الموقفِ السياسي، فربَّت جيلاً جديدًا يلتهب وطنيةً وحماسًا وعلى أتمّ استعدادٍ لبذل روحه وماله وكل ما يملك في سبيلِ الدفاع عن وطنه وكرامته.

 

في مئويةِ الإمام البنا نتذاكره وهو يصف لنا أتباعه: "قد سهرت عيونهم والناس نيام، وشغلت نفوسهم والخليون هُجَّع، وانكبَّ أحدهم على مكتبه من العصر إلى منتصفِ الليل عاملاً مجتهدًا، ومفكرًا مجدًّا، ولا يزال كذلك طول شهره، حتى إذا ما انتهى الشهر جعل مورده موردًا لجماعته، ونفقته نفقةً لدعوته، وماله خادمًا لغايته، ولسان حاله يقول لبني قومه الغافلين عن تضحيته: ﴿لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ﴾ (هود: من الآية 29) فنتعلم منه الانشغال الكامل بدعوتنا وقضايا أمتنا.

 

نتذاكره وهو يخاطبنا: إنَّ الأمةَ التي تُحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتةَ الشريفةَ يهب الله لها الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، فأعدوا أنفسكم ليومٍ عظيم، واحرصوا على الموتِ تُوهب لكم الحياة، واعلموا أنَّ الموتَ لا بدَّ منه، ولا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة".. فنتعلم منه كيف تكون التضحية في سبيل الله والدعوة.

 

أخي الحبيب..

مائة عام مرت على ميلاد مرشدنا، وما زال شخصه ودعوته يشغلان الدنيا كلها، أنصار دعوته وفكرته ومعارضيه، والجميع يرونه كنسرٍ ما زال يحلق في السماء صامدًا في وجه كل الأعاصير، ولا زالت أصداء دعوته تتردد في كل مكان، وهي الدعوة التي وصلت إلى أكثر من 90 دولةً في العالم، وأصبح بها تنظيم إسلامي يحمل الفكرة ويدعو إليها ويربي الناس عليها، ولا زالت كلمات الإمام البنا رحمه الله تتردد فينا وهو يخاطب الجميع وكل مَن خاصمه وعاداه: "سنقاتل الناس بالحب"، ويحدد لنا طبيعة صراعنا ومعركتنا وسبيلنا الحقيقي "إن معركتنا معركة تربوية" ليغرس فينا قيمة الحب والتربية في دعوتنا، وأنهما سرُّ بقاءِ الدعوة رغم الأعاصير.

---------

* باحث إسلامي