(أ) "حسن البنا القائد المنتظر"

"من سنن الله تعالى: أن يهيئ لكل مرحلة رجلها الذي يناسبها، وأن يبعث لهذه الأمة في كل قرن مَن يجدد لها دينها، ويعيد إليها حيويتها، وقد قال سيدنا علي كرَّم الله وجهه: لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بالحجة.

 

وقد لاحظ العلامة أبو الحسن الندوي في كتابه القيم "رجال الفكر والدعوة في الإسلام": أن التاريخ الإسلامي في كل مراحله، يبرز فيه رجال يحتاج إليهم الموقف، فيسدون الثغرة، ويلبون الحاجة، ويقومون بالواجب المطلوب لزمانهم ومكانهم في إيقاظ الأمة، وترميم ما أصابه البلى أو التصدع في بنيانها.

 

قد يكون الرجل المنشود إمامًا أعظم كعمر بن عبد العزيز، وقد يكون أميرًا أو قائدًا عسكريًّا مثل نور الدين محمود أو صلاح الدين، وقد يكون إمامًا فكريًّا ودعويًّا، مثل أبي حامد الغزالي، وقد يكون مربيًا روحيًّا، مثل عبد القادر الجيلاني، وقد يكون مجددًا فقهيًّا وتربويًّا وإصلاحيًّا مثل أبي العباس ابن تيمية. فكل واحد من هؤلاء جدد فيما كان يفتقر إليه عصره وبيئته من جوانب التجديد الضرورية واللازمة.

 

وقد كان وضع العالم الإسلامي عامة، ووضع مصر والعالم العربي خاصة: يحتاج إلى رجل ذي فكر ثاقب، وحس مرهف، وإيمان دافق، وإرادة صُلبة، يشعر بما تعانيه الأمة من أمراض وآلام، ويقدر على تشخيص الداء، ووصف الدواء، ويصبر على متابعة مريضه، حتى ينتقل به من مرحلة "السقام" إلى مرحلة العافية، ومنها إلى مرحلة القوة.

 

كان هذا الرجل المنشود أو القائد المنتظر، هو "حسن البنا".
لقد هيأ الله له من الأسباب- منذ نعومة أظفاره- ما يرشحه للمهمة المطلوبة.. أب صالح مشغول بالعلم وبالعمل معًا، فهو من المشتغلين بعلم الحديث، وله فيه إسهام يقدره العلماء، يذكر فيشكر، وهو ممن يكسبون عيشهم بالعمل في إصلاح الساعات، أو تجليد الكتب، ولذا اشتهر بالشيخ الساعاتي.

 

وبيئته ريفية متدينة محافظة، بعيدة عن صخب المدن، وما ابتليت به من تقليدِ الفرنجة، وما دخل عليها من مفاهيم وتقاليد مستوردة من خارج دار الإسلام.

 

وأساتذة صالحون، أحاطوا الصبي بمزيدٍ من الرعاية، لما لمسوا فيه من ذكاء وتفوق، ومن غيرة وحماس، ومن أدب وأخلاق.

 

وطريقة صوفية تعرف بـ"الطريقة الحصافية" أيقظت حاسته الروحية، وعلَّمته شيئًا من أدب الطريق، وأخلاق المريدين، ولكنها لم تشبع نهمه، ولم يجد فيها ضالته.

 

وجمعيات دينية، كان يُنشئها أو يشارك فيها، لنشر الخير، أو مقاومة الشر، أو منع المحرمات، ولكنها أيضًا كانت دون طموحه، إلا أنها غرست فيه الروح الجماعية، والعمل الجماعي.

 

وحفظ الصبي القرآن، وانتقل من مدينته الصغيرة "المحمودية" إلى مدينة أكبر هي "دمنهور" عاصمة إقليم البحيرة، ليتلقى تعليمه في "مدرسة المعلمين" بها.

 

ثم كانت النقلة الكبرى، بذهابه إلى القاهرة، وقد صلب عوده، وتفتح فكره ووجدانه، واتسعت قراءته ومعارفه، وعرف بعض ما يُعانيه وطنه مصر، وما تُعانيه أمته الكبرى.. وكيف تواجه هذه الأمة أزمتها الروحية والعقلية والاجتماعية، ومن لها من الرجال الذين يحملون عبئها، وقد قابل من قابل من العلماء وكبار القوم، ولكنه لم يجد الاستجابة إلا من القليلين، وكان يشعر في أعماقه أنه قادر على أن يفعل شيئًا. وقد سأله أحد شيوخه في "دار العلوم" عن أحسن بيت أعجبه في معلقة طرفة بن العبد، فقال له:

 

إذا القوم قالوا: من فتى؟ خلت أنني عُنيتُ، فلم أكسل، ولم أتبلد!
فأثنى عليه أستاذه، وعرف علو همته. وكان كثيرًا ما يتمثل بقول أبي الطيب المتنبي كما سمعت من الشيخ الغزالي:

يقولون لي: ما أنت؟ في كل بلدة وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يُسْمى!".

 

[ب] مقدمة كتاب (مذكرات الدعوة والداعية) للإمام الشهيد

"كان صاحب هذا الكتاب الذي أتشرف بتقديمه من هذه الشخصيات التي هيأتها القدرة الإلهية، وصنعتها التربية الربانية، وأبرزتها في أوانها ومكانها، وإن كل من يقرأ هذا الكتاب سليم الصدر، مجرد الفكرة، وبعيدًا عن العصبية والمكابرة، يقتنع بأنه رجل موهوب مهيأ، وليس من سوانح الرجال ولا صنيعة بيئة أو مدرسة، ولا صنيعة تاريخ أو تقليد، ولا صنيعة اجتهاد ومحاولة وتكلف، ولا صنيع تجربة وممارسة، إنما هو من صنع التوفيق والحكمة الإلهية والعناية بهذا الدين وبهذه الأمة، والغرس الكريم الذي يهيأ لأمرٍ عظيمٍ ولأملٍ عظيمٍ في زمنٍ تشتد إليه حاجته وفي بيئةٍ تعظم فيها قيمته.

 

إنَّ الذي عرف الشرق العربي الإسلامي في فجر القرن العشرين، وعرف مصر بصفةٍ خاصة، وعرف ما أُصيب به هذا الجزء الحساس الرئيسي من جسم العالم الإسلامي من ضعف في العقيدة والعاطفة، والأخلاق والاجتماع، والإرادة والعزم، والقلب والجسم، وعرف الرواسب التي تركها حكم المماليك وحكم الأتراك وحكم الأسرة الخديوية، وما زاد إليها الحكم الأجنبي الإنجليزي، وما جلبته المدنية الإفرنجية المادية والتعليم العصري اللا ديني والسياسة الحزبية النفعية، وما زاد هذا الطين بلة من ضعف العلماء وخضوعهم للمادة والسلطة، وتنازل أكثرهم عن منصب الإمامة والتوجيه، وانسحابهم عن ميدان الدعوة والإرشاد، والكفاح والجهاد، واستسلامهم "للأمر الواقع"، وخفوت صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، زد إلى ذلك كله نشاط دعاة الفساد والهدم، والخلاعة والمجون، والإلحاد والزندقة، وتزعم الصحف والمجلات الواسعة الانتشار، القوية التأثير، للدعوات المفسدة، والحركات الهادمة، والاستخفاف بالدين وقيمه، والأخلاق وأسسها، وما آل إليه الأمر ووصلت إليه الأقطار العربية بصفةٍ عامة، والقطر المصري بصفةٍ خاصة من التبذل والإسفاف، والضعف والانحطاط، والثورة والفوضى، والانحطاط الخلقي والروحي في الثلث الأول من هذا القرن الميلادي، ورأى كل ذلك مجسمًا مصورًا في أعداد "الأهرام" و"المقطم" و"الهلال" و"المصور" وفي كتبٍ كان يصدرها أدباء مصر وكتابها المفضلون المحببون عند الشباب، ورأى ذلك مجسمًا مصورًا في أعياد مصر ومهرجاناتها، وحفلاتها وسهراتها، واستمع إلى الشباب الجامعي في نواديهم ومجالسهم، وزار الإسكندرية وشواطئها ومصايفها، ورافق فرق الكشافة والرياضة والمباراة، ودخل دور السينما، ورأى الأفلام الأجنبية والمحلية، واطلع على الروايات التي تصدرها المكتبة العربية في مصر بين حين وآخر، ويتهافت عليها الشباب بنهامة وجشع، وعاش متصلاً بالحياة والشعب، وتتبع الحوادث ولم يعش في برج عاجي ولا في عالم الأحلام والأوهام، عرف رزية الإسلام والمسلمين، ونكبة الدعوة الإسلامية في هذا الجزء الذي كان يجب أن يكون زعيمًا للعالم العربي كله، وزعيمًا للعالم الإسلامي عن طريقه، وقد بقي قرونًا كنانة الإسلام ومصدر العلم والعرفان، وأسعف العالم العربي وأنجده، بل أنقذه في فترات دقيقة عصيبة في التاريخ الإسلامي، ولا يزال يحتضن الأزهر الشريف أكبر مركز ثقافي إسلامي وأقدمه.

 

إن كل من عرف ذلك عن كثبٍ لا عن كتب وعاش متصلاً به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود، وفاجأت مصر، ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها وقوتها الفذة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات قد تبدو متناقضةً في عين كثيرة من علماء النفس والأخلاق، ومن المؤرخين الناقدين، هي العقل الهائل النير، والفهم المشرق الواسع، والعاطفة القوية الجياشة، والقلب المبارك الفياض، والروح المشبوبة النضرة، واللسان الذرب البليغ، والزهد والقناعة- دون عنت- في الحياة الفردية، والحرص وبعد الهمة- دونما كلل- في سبيل نشر الدعوة والمبدأ، والنفس الولوعة الطموح، والهمة السامقة الوثابة، والنظر النافذ البعيد، والإباء والغيرة على الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس... تواضعًا يكاد يجمع على الشهادة عارفوه، حتى كأنه- كما حدثنا كثير منهم- مثل رفيف الضياء: لا ثقل ولا ظل ولا غشاوة.

 

وقد تعاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية، لم يعرف العالم العربي قيادةً دينيةً سياسيةً أقوى وأعمق تأثيرًا وأكثر إنتاجًا منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد- في دنيا العرب خاصةً- حركةً أوسع نطاقًا وأعظم نشاطًا، وأكبر نفوذًا، وأعظم تغلغلاً في أحشاء المجتمع وأكثر استحواذًا على النفوس منها.

 

وقد تجلت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها، في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما، إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين، أولاهما شغفه بدعوته واقتناعه بها وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ورسائله، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يجري الله على أيديهم الخير الكثير. والناحية الثانية تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج: فقد كان منشئ جيل، ومربي شعب، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية، وقد أثَّر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين، وفي أذواقهم وفي مناهج تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم وخطابتهم تأثيرًا بقي على مر السنين والأحداث، ولا يزال شعارًا وسمةً يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان.

 

لقد فاتني أن أسعد بلقائه في مصر وفي غير مصر، فقد كان العام الأول الذي كتب الله لي فيه الحج والزيارة وخرجت من الهند لأول مرة وهو عام 1947م، وهو العام الذي تغيَّب فيه الشهيد عن الحجاز ولم يغادر مصر، وقد كان يحضر الموسم في غالب الأعوام، ويحرص على نشر دعوته والحديث إلى وفود بيت الله الحرام، وعلى السعي المجهد الحثيث في توثيق الصلات والعهود مع الوافدين من أنحاء عالم الإسلام كله.

 

بيد أني قابلت بعض تلاميذه ودعاته، فلمست فيهم آثار القائد العظيم والمربي الجليل، فلما قُدِّر لي أن أزور مصر سنة 1950م، كانت رحمة الله قد استأثرت به، ولما يجاوز عمره بعد الثانية والأربعين إثر حادث استشهاده، الذي أدمى نفوس ملايين المسلمين، وحرم العالم الإسلامي هذه الشخصية التاريخية الفريدة، ولا أزال أتحسر على هذه الخسارة التي كتبت لي، ولكني اتصلت بتلاميذه اتصالاً وثيقًا، وعشتُ فيهم كعضو من أعضاء أسرة واحدة، وزرت والده العظيم- رحمه الله-، واستقيت منه معلومات وأخبارًا سجلتها في مذكراتي، وقابلت زملاءه وأبناءه، واجتمع لنفسي من كل هذه الآثار والأخبار ملامح الصور العظيمة لصاحب هذه الدعوة ومؤسس هذه المدرسة، أنا واثق بأنها صور صادقة مطابقة.

 

وفي تلك الرحلة وقع إليَّ هذا الكتاب "مذكرات الدعوة والداعية" فألفيته كتابًا أساسيًّا، ومفتاحًا رئيسيًّا، لفهم دعوته وشخصيته، وفيه يجد القارئ منابع قوته ومصادر عظمته، وأسباب نجاحه واستحواذه على النفوس: وهي سلامة الفطرة، وصفاء النفس، وإشراق الروح، والغيرة على الدين، والتحرق للإسلام، والتوجع من استشراء الفساد، والاتصال الوثيق بالله تعالى، والحرص على العبادة، وشحن "بطارية القلب" بالذكر والدعاء والاستغفار، والخلوة في الأسحار، والاتصال المباشر بالشعب وعامة الناس في مواضع اجتماعهم، ومراكز شغلهم وهواياتهم، والتدرج ومراعاة الحكمة في الدعوة والتربية، والنشاط الدائم والعمل الدائب، وهذه الخلال كلها هي أركان دعوة إسلامية ربانية، وحركة دينية تهدف إلى أن تحدث في المجتمع ثورة إصلاحية بحاجة دائمة إلى دراسة هذا الكتاب، وإعادة التأمل العميق فيه الفينة بعد الفينة، فلا عجب أن ينعقد العزم على تجديد طبعه ونشره في الناس، بل العجب أن تخلو منه مكتبة من مكتبات المسلمين.

 

أما بعد: فقد كانت محاولة القضاء على آثار هذه الدعوة التي أعادت إلى الجيل الجديد في العالم العربي الثقة بصلاحية الإسلام وخلود رسالته، وأنشأت في نفوسه وقلوبه إيمانًا جديدًا، وقاومت "مركب النقص" في نفوسهم والهزيمة الداخلية التي لا هزيمة أشنع منها وأكبر خطرًا، والميوعة وضعف النفوس والانسياق تحت ربقة الشهوات والطغيان، وخلفت- كما يقول شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال: "في جسم الحمام الرخو الرقيق قلب الصقور والأسود" حتى استطاع هذا الجيل أن يضع عجائب في الشجاعة والبسالة والاستقامة والثبات.

 

لقد كانت محاولة القضاء على آثار هذه الحركة وطمس معالمها وتعذيب جنودها، وتشريد رجالها، جريمةً لا يغتفرها التاريخ الإسلامي، ومأساةً لا ينساها العالم الإسلامي، وإساءةً إلى العالم العربي لا تعدلها إساءة، ولا تكفر عنها أي خدمة للبلاد، وأي اعتبار من الاعتبارات السياسية، إنها جريمة لا يوجد لها نظير إلا في تاريخ التتار الوحوش، وفي تاريخ الاضطهاد الديني ومحاكم التفتيش في العالم المسيحي القديم، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

[غرة ذي الحجة 1385هـ يوم الخميس 24/3/1966م]