(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ) (من الآية 143: البقرة)
-------------
من تراث الشهيد/ سيد قطب

ثم يحدث هذه الأمة عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وعن مكانها العظيم في هذه البشرية، وعن دورها الأساسي في حياة الناس مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة، وشخصيتها الخاصة وألا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم:

إنها الأمة الوسط.. التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط وتضع لهم الموازين والقيم [ ص: 132 ] وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم.. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها; فيقرر لها موازينها; وقيمها ويحكم على أعمالها وتقاليدها; ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة..

وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها.. لتعرفها، ولتشعر بضخامتها. ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا..

وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..

أمة وسطا .. في التصور والاعتقاد.. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.

أمة وسطا .. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ... ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول; ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب; وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.

أمة وسطا .. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان..

ولكن مزاج من هذا وذاك.

أمة وسطا .. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة; أو الدولة ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء; وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه.

ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة; وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.

أمة وسطا .. في المكان.. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا، وتشهد على الناس جميعا; وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة; وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك; وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.

أمة وسطا .. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها; وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها.

وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها; وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى; وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء; وتسير [ ص: 133 ] بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.

وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.

وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة.