كثيرٌ من الأوروبيين والغربيين يسألون كثيرًا من المسلمين: لماذا تمنعون حرية التنصير في بلادكم الإسلامية، في الوقت الذي تدعون فيه إلى الإسلام في البلاد الغربية، وتنشرون فيها دينكم الذي يحرز انتصارات ملحوظة في خارج عالم الإسلام؟!

وكثيرٌ من المسلمين يحارون في الجواب المنطقي والخالي من العصبية والتعصب عن هذا السؤال، والرأي عندي أننا لا بد أن نصارح هؤلاء السائلين بالفروق الجوهرية بين مكانة الإسلام في الدول الإسلامية وموقف هذه الدول منه وبين حال الدين في المجتمعات العلمانية الغربية وموقف تلك الحكومات العلمانية من الدين، مطلق الدين، والفارق بين منهاج الدعوة إلى الإسلام ومناهج التنصير والمنصِّرين.

وهذه الفروق الجوهرية يمكن إجمال أهمها فيما يلي:

1- أن الإسلام يتميز بأنه دين ودولة، ومن ثم فإن حكومات الدول الإسلامية لا يمكن أن تكون محايدةً إزاء هذا الإسلام؛ لأنه مقوِّم من مقوِّمات الاجتماع والسياسة والتشريع والنظام، ومن ثمَّ فإن زعزعته هي زعزعة لمقوِّم من مقوِّمات المجتمع ونظامه، وليس هكذا حال الدين في المجتمعات العلمانية، وخاصةً في ظل النصرانية التي تَدَعُ ما لقيصر لقيصر، وتقف عند خلاص الروح ومملكة السماء؛ لأن إنجيلها ينص على أن مملكة المسيح عليه السلام هي خارج هذا العالم، وهي لذلك قد خلت من السياسة والقانون.

ولهذه الحقيقة، ولهذا الفارق الجوهري، تنفرد المجتمعات الإسلامية بالنص في دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة، وكما تجعل "منظومة القيم الدينية" هي "الآداب العامة" التي تحميها الدولة والقانون، ومن ثم فإن هذه الدولة الإسلامية تحافظ على دينها هذا، فلا تفتح الأبواب أمام حرية زعزعته أو ازدرائه والخروج على ثوابته في الاعتقاد والأخلاق والتشريع.

إن الإخلاص للإسلام الدين، ومن ثمَّ حمايته، لا يقلان في الدول الإسلامية عن الإخلاص والحماية للوطن والولاء له، ومن ثمَّ تحريم وتجريم الخيانة له أو الخروج عليه أو التفريط فيه، وتلك خصيصة من خصائص المجتمعات الإسلامية؛ تفرِّق بينها وبين المجتمعات العلمانية واللا دينية، التي تقف حكوماتها محايدة إزاء الدين، مطلق الدين.

ولقد رأينا مجتمعات غير إسلامية اتخذت لنفسها عقيدة فلسفية، مثل الماركسية في البلاد الاشتراكية والشيوعية، فحافظت عليها كمقوِّم من مقوِّمات الاجتماع ونظام الحكم، ومنعت بالدساتير والقوانين التبشير في مجتمعاتها بأية عقيدة مضادة لعقيدتها وفلسفتها.

فالدولة القائم نظامها على عقيدة دينية أو مذهب فلسفي لها موقف متميز عن الدول التي تتخذ موقفًا محايدًا إزاء العقائد والديانات والفلسفات.

2- أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتعرَّض الآن إلى حرب ضروس معلَنة من قِبل مؤسسات الهيمنة السياسية الغربية، والمؤسسات الدينية الغربية، وكثير من مؤسسات الإعلام الغربية العملاقة، ومع ضعف إمكانات "الحمايات الفكرية" في البلاد الإسلامية المستضعفة كان منع حرية "التنصير الرسمي" هو بمثابة "حماية الصناعات الوطنية الضعيفة" في حال انعدام تكافؤ الفرص والإمكانات عند اجتياح الأقوياء للضعفاء.

إن "النشرة الدولية لبحوث الإرساليات النصرانية" قد رصدت سنة 1991م ما لدى إرساليات التنصير الأمريكية وحدها من إمكانات، فإذا هي "جيش" فيه:

- (120.000) مؤسسة تنصيرية.

- (99.000) معهد لتأهيل المنصِّرين الرسميين وتدريبهم.

- (4208250) منصرًّا رسميًّا محترفًا.

- (82.000.000) جهاز كمبيوتر.

- (24.900) مجلة.

- (2.740) محطة للإذاعة والتلفاز.

ولقد أصدرت هذه المؤسسة التنصيرية ووزعت في عام واحد:

- (88610) كتب تنصيرية؛ وذلك غير نسخ "الكتاب المقدس" التي بلغ عدد ما وُزِّع منها في عام واحد (53.000.000) نسخة.

وفي مدارس هذه الإرساليات التنصيرية يدرس:

- (9.000.000) طالب في رياض الأطفال وحدها.. يدرسون في:

- (10677) مدرسة.

ولقد خصَّ إفريقيا وحدها من مؤسسات هذه الإرساليات التنصيرية:

- (140.00) منصِّر محترف.

- و(16.000) معهد للتنصير.

- و(500) مدرسة لاهوتية.

- و(600) مستشفى.

أما ميزانية هذا الجيش التنصيري فإنها تبلغ:

- (163 مليارًا من الدولارات)، ودخل الكنائس العاملة في هذا الحقل هو (9320 مليار دولار).

- وهذا "الجيش التنصيري" الأمريكي يقوده "معهد زويمر" الذي أقيم سنة 1978م، يمثِّل (المخ والجهاز العصبي) للحملة الأمريكية لتنصير المسلمين!.

فهل هناك ذرة من التوازن بين هذا الجيش الذي يمثل الكنيسة الأمريكية وحدها، وبين الأفراد المسلمين الذين يدعون إلى الإسلام؟! وهل يُرجح أن تُستنكر إجراءات "الحماية" التي تمنع "التنصير الرسمي" في البلاد الإسلامية المستضعفة إزاء هذا الاجتياح؟!

الغزو الفكري والمسخ الحضاري

يعترف المنصِّرون بأن الإرساليات التنصيرية تعتبر أن نمو المادية والعلمانية قد يؤدي إلى تخفيف حدة العداء لتنصير المسلمين، فيتوسلون إلى تنصير المسلمين حتى بالكفر والجحود والإنكار المطلق للدين، ولقد رفضوا الالتزام بالحرية والإقناع في عملية التنصير، ولم يستبعدوا الجهود القسرية في تحويل المسلمين عن دينهم.

وعلَّقوا على بيانات (مجلس الكنائس العالمي) التي تتحدث عن الحوار والحرية والإقناع فقالوا:

- إن المجلس لا يرى الحوار بديلاً عن تحويل غير النصارى إلى النصرانية، بل ربما كان الحوار مرحلةً من مراحل التنصير، وإن هذه البيانات الجديدة لا تعني تخلي المجلس عن مواقفه المناصرة للجهود القسرية والواعية والمتعمدة والتكتيكية لجذب الناس من مجتمع ديني إلى آخر.

- في ظل وجود مؤسسات عملاقة ذات إمكانيات بشرية وتقنية ومادية هائلة متخصصة في ميدان التنصير للمسلمين، فإن هذا التنصير قد خرج عن أن يكون مجرد دعوة إلى النصرانية ليصبح أداةً من أدوات الغزو الفكري والتغريب والمسخ الحضاري الذي يستعين على ذلك كله حتى بالاستعمار وجيوشه وحكوماته.

ولقد رأينا ذلك وخبرناه وعانينا منه في إفريقيا وآسيا عندما تم تنصير قطاعات كبيرة من البلاد الإسلامية بواسطة الحماية الاستعمارية للمنصِّرين.

حدث ذلك في الفلبين وإندونيسيا والجزائر، ويحدث ذلك الآن على أرض أفغانستان والعراق والشيشان والسودان والصومال؛ لذلك لم يكن التنصير- ولم يعد- مجرد دعوة إلى النصرانية لهداية إنسان إلى طريقها في الخلاص، وإنما كان لا يزال جزءًا من الحرب الاستعمارية الغربية على عالم الإسلام وأمته وحضارته في الوقت الذي لم يكن فيه للإسلام تاريخيًّا وحتى الآن مؤسسات تبشيرية، وإنما اعتمد في انتشاره على القدوة والأسوة الحسنة، وتمت أغلب انتصاراته في ظل الضعف والاستضعاف للحكومات التي حكمت بلاده.

- إن المسلمين الذين يدعون غيرهم إلى الإسلام لا يخلو هؤلاء المدعوون من إحدى ثلاث حالات:

أ- أن يكون المدعو وثنيًّا ليس على دين من الديانات السماوية الثلاث:

وفي هذا الحال تكون دعوة الوثني أو اللا ديني إلى الإسلام هي دعوةً إلى الإيمان بالديانات السماوية الثلاث التي يتفرد الإسلام بالإيمان بها والاحتضان لأصولها والاحترام لكتبها ورسلها، ومن ثم فإن الدعوة إلى الإسلام والتبشيرية بين الوثنيين واللا دينيين لا يمثِّل كفرًا أو ازدراءً لأيٍّ من الديانات السماوية، بل على العكس فإن فيه التبشير بكل نبوات السماء رسالاتها وشرائعها وكتبها ومنظومات قيمتها وأخلاقها.

ب- وفي حال ما إذا كان المدعو إلى الإسلام يهوديًّا:

فإن دعوته إلى الإسلام لا تمثِّل ازدراءً لليهودية ولا النصرانية ولا كفرًا بهما، وإنما هي على العكس؛ تتضمَّن بقاء الإيمان والاحترام لليهودية وإضافة الإيمان والاحترام إلى النصرانية والإسلام؛ فانتقال اليهودي ونقله إلى الإسلام يُضيف إلى الإيمان باليهودية ولا ينقص من يهوديته، ولا يمثِّل أي ازدراء لكتابها ولا لشريعتها ولا لأنبيائها، وليس كذلك الحال في التبشير باليهودية إذا حدث؛ لأن الانتقال من المسيحية أو الإسلام إلى اليهودية فيه كفر بهما وازدراءٌ لهما؛ الأمر الذي لا يسوِّي بين دعوة اليهودي إلى الإسلام وبين دعوة النصراني أو المسلم إلى اليهودية من حيث الإيمان والاحترام وبين دعوة الديانات السماوية الثلاث.

ج- وكذلك الحال إذا كان المدعو إلى الإسلام نصرانيًّا:

فإن انتقاله من النصرانية إلى الإسلام فيه الحفاظ على إيمانه باليهودية وبالنصرانية مع إضافة الإيمان بالإسلام؛ كتابِه وشريعتِه ورسولِه إلى ما لديه من إيمان؛ فليس في هذه الدعوة للنصراني إلى الإسلام أي كفر بمجمل ما لديه، ولا أي ازدراء لوصايا إنجيله ومنظومة القيم والأخلاق الحاكمة لإيمانه الديني.

إنها دعوة له كي يصعد درجةً على "سُلَّم النبوات والرسالات والكتب والشرائع التي توالى نزولها من الله الواحد إلى الإنسان.. إنها دعوةٌ إلى إضافة قداسة مكة وحرمتها إلى قداسة القدس وحرمتها، وليست انتقاصًا من قداسة مقدسات الآخرين، بينما دعوة النصرانيِّ المسلمَ إلى النصرانية فيها دعوة إلى الكفر بدينٍ سماوي والجحود بكتاب سماوي والازدراء لرسول الإسلام وشريعته الخاتمة.

صنع الكوارث

نواصل الرد على تساؤل الغربيين لكثيرٍ من المسلمين: لماذا تمنعون حرية التنصير في بلادكم الإسلامية، في الوقت الذي تدعون فيه إلى الإسلام في البلاد الغربية وتنشرون فيها دينكم؟

نقول: إن الاجتياح التنصيري لا يُخفي أنه يعمل بالاعتماد المتبادل مع قوى أخرى عاتية؛ ففي "مؤتمر كولورادو" الذي عقدته الكنائس الأمريكية سنة 1978م لرسم الخطة الجديدة لتنصير المسلمين، أعلنوا أنهم إنما يعملون على تنصير المسلمين بالاعتماد المتبادل مع الكنائس المحلية، وبنص توصيات هذا المؤتمر: "يجب أن يتم كسب المسلمين عن طريق منصِّرين مقبولين داخل مجتمعاتهم، ويفضَّل النصارى العرب في عملية التنصير"!.

كما يعمل هذا الاجتياح التنصيري بالاعتماد المتبادل مع المد الاستعماري الغربي في ديار الإسلام؛ فالجيوش التي زحفت على العراق في مارس سنة 2003م قد دخل في ركابها (800) منصِّر من عتاة قساوسة اليمين الديني الأمريكي، معلنين- كما جاء في (نيويورك) الأمريكية- أنهم قد جاءوا لنشر المسيحية في بغداد!!.

وفي هذه البلاد التي ابتليت بالغزو الاستعماري يصنع الاحتلال الكوارث التي تخل بتوازن الضحايا ليأتيَ المنصِّرون يقدمون "المعونات" إلى هؤلاء الضحايا في مقابل تحولهم عن الإسلام!، وبنص وثائق "مؤتمر كولورادو":

"فإنه لكي يكون هناك تحول إلى النصرانية فلا بد من وجود أزمات ومشكلات وعوامل تدفع الناس خارج حالة التوازن التي اعتادوها، كالفقر والمرض، والكوارث والحروب، والتفرقة العنصرية والوضع الاجتماعي المتدني، وإن إحدى معجزات عصرنا أن احتياجات كثير من المجتمعات الإسلامية قد جعلت حكوماتها أكثر تقبلاً للنصارى والمنصِّرين".

فالاستعمار يصنع الكوارث في البلاد الإسلامية، والتنصير يستغل هذه الكوارث التي يعدها المنصِّرون "معجزة العصر"!؛ كي يبيع الضحايا إسلامَهم لقاء كسرة خبز أو جرعة دواء!.

وعلى أرض كثير من البلاد الإسلامية التي اجتاحتها الجيوش الاستعمارية، وفي معسكرات ومخيمات اللاجئين المسلمين الذين يمثلون أغلبية اللاجئين على نطاق العالم!، يتم هذا المخطط للتنصير في أفغانستان والعراق، والسودان والصومال، والشيشان وداغستان، وإندونيسيا والفلبين... إلخ.

كذلك يعمل هذا الاجتياح التنصيري بالاعتماد المتبادل مع ركائزه التي أقامها في البلاد التي احتلتها جيوش بلاده الاستعمارية، وكنموذجٍ لذلك كوريا الجنوبية؛ فلقد احتلتها الجيوش الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية، وحوَّلتها إلى قاعدةٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ، ثم جاءت الكنيسة الأمريكية لتنصِّر ربع سكان كوريا الجنوبية، ولتجعل "كنيسة صايمل" التابعة لليمين الديني الأمريكي "قاعدة دينية" تزامل القاعدة العسكرية!، وليعمل المنصِّرون الكوريون مع المنصِّرين الأمريكيين جنبًا إلى جنب، وبتمويل أمريكي، حتى لقد بلغ عدد المنصِّرين الكوريين الرقم التالي على النطاق العالمي لعدد المنصِّرين الأمريكيين!.

ولقد أرسلت هذه الكنيسة الكورية إلى البلاد الآسيوية وحدها (16.000 منصِّر)؛ كان نصيب البلاد الإسلامية منهم (25%) من هؤلاء المنصِّرين الكوريين!، بل لقد امتد نشاطهم إلى القارة الإفريقية.. وإلى مصر بلد الأزهر الشريف، فنشرت صحيفة (الأهرام) في 10/9/2007م أن هؤلاء المنصِّرين يعملون تحت لافتات أخرى في عشر محافظات مصرية!!.

كذلك يعمل هذا الجيش التنصيري العالمي- باعتراف وثائق مؤتمر كولورادو- بالاعتماد المتبادل مع "العمالة المدنية" الغربية المنتشرة في مختلف بلاد الإسلام، وهي العمالة التي يفوق عددها عدد المنصِّرين الرسميين مائة ضعف!!، فيدرِّبها المنصرون الرسميون على التنصير في معسكرات منظمة، ويوجهونها إلى تنصير المسلمين، وخاصةً في البلاد الإسلامية التي لا تفتح أبوابها للمنصِّرين الرسميين!.

فهل بعد هذه الإشارات- وهي مجرد إشارات إلى حقائق الاجتياح التنصيري- يكون هناك وهم عن وجود تكافؤ في موازين القوى بين الدعوة إلى الإسلام و"التنصير" حتى يكون هناك تساؤل: لماذا يمنع المسلمون في بلادهم حرية التنصير لقاء حريتهم في الدعوة إلى الإسلام؟!

بل إن هذا المخطط التنصيري يعترف بأنه- في سبيل تنصير المسلمين- يلجأ إلى "الميكيافلية" وتنحية القيم والأخلاق!، فهم يعلنون عزمهم على:

اختراق القرآن بدلاً من مواجهته!، "وصب المضامين النصرانية في مصطلحاته وتأويلاته"!، وكذلك العمل من خلال الثقافة الإسلامية! وفي ذلك يقولون:

"من الممكن في بعض الأحوال الذهاب أبعد فيما يتعلق باستعمال المصطلحات القرآنية، مع اهتمام خاص بالثقافات الإسلامية، وتكييف اللغة لحروف خاصة، واستعمال الألقاب التبجيلية والتعبيرات القرآنية؛ وذلك مثل استخدام "بولس الرسول" للإله الإغريقي المجهول"!، وكذلك إيقاع الأطفال غير المميزين في حبائلهم، وفي ذلك يقولون.

"وتسعى (رابطة تنصير الأطفال) و(إرسالية الخدمات الخاصة) إلى استمالة الأطفال إلى جانب المسيح عن طريق تنظيم اجتماعات الأطفال وتجمعاتهم في مدرسة يوم الأحد، وتقديم الوسائل السمعية والبصرية لتشجيع الأطفال على تسليم أرواحهم للمسيح"!.

فبعد اصطياد الضحايا الذين أخلَّت الكوارث بتوازنهم يصطادون الأطفال قبل سن التمييز، بل إن هذه المنظمات التنصيرية تمارس تحت لافتات المنظمات الخيرية والإغاثية، عمليات خطف الأطفال لتنصيرهم.. حدث ذلك إبان حرب البوسنة والهرسك (1992- 1995م)، وأثناء كارثة "تسونامي" الذي أصاب إندونيسيا المسلمة سنة 2006م وأطفال دارفور السودانيين، وأطفال تشاد، ولقد تفجَّرت أحدث فضائح اختطاف الأطفال المسلمين التشاديين في نوفمبر سنة 2007م، وأحدثت أزمة مكتومة بين تشاد وفرنسا، كما اشتكى من هذه "النخاسة التنصيرية" الرئيس السوداني عمر البشير يوم 14 نوفمبر سنة 2007م، وأذاعت ذلك كله أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.

شرعية الدعوة الإسلامية ومشروعيتها

عن الفارق الجوهري بين دعوتنا الآخرين إلى الإسلام ودعوتهم لنا إلى شرائعهم تحدث الصحابي حاطب بن أبي بلتعة (23 ق.هـ 30هـ/ 586- 650م) في حواره مع المقوقس عظيم القبط سنة 7هـ/ 628م عندما حمل إليه رسالة رسولنا؛ فلقد جاء في هذا الحوار ما يؤكد هذه الحقيقة؛ حقيقة أن الدعوة إلى الإسلام هي دعوة إلى "إضافة" وليست دعوة إلى "انتقاص" أو "كفر" أو "جحود" أو "ازدراء"، كما هو الحال في دعوات الآخرين وتبشيرهم؛ الأمر الذي يعطي الشرعية والمشروعية والمنطق والعدل للدعوة إلى الإسلام على وجه الخصوص والتحديد، لقد بدأ المقوقس بسؤال حاطب:

- ما الذي يمنع صاحبك- أي الرسول- إن كان نبيًّا أن يدعوَ عليَّ فيُسلَّط عليَّ؟!

- فأجاب حاطب: منعه الذي منع عيسى ابن مريم أن يدعوَ على من أبى عليه أن يُفعل به ويُفعل!.

فوجم المقوقس ساعة- أي فترة- ثم استعاد إجابة حاطب فأعادها عليه حاطب، فسكت المقوقس.

وهنا استأنف حاطب الحوار، فقال للمقوقس:

"إن لك دينًا- أي النصرانية- لن تدعه إلا لما هو خيرٌ منه، وهو الإسلام الكافي به اللهُ فَقْدَ ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به" (1).

وهكذا... ومن اللحظات الأولى لخروج الدعوة إلى الإسلام من شبه الجزيرة العربية كانت الدعوة إلى الإسلام بمثابة "الإضافة" لا "الانتقاص" مما لدى الآخرين، وبمثابة المزيد من الاحترام لمجمل ما عندهم، لا الازدراء لأيٍّ من الثوابت التي اجتمعت عليها طوائفهم ومذاهبهم، وبمثابة إضفاء القدسية على جميع الرموز الدينية، التي لم يتم تقديس جميعها إلا في إطار الإسلام.

إن اليهودي كافر بالنصرانية وبالإسلام، وجاحد لهما، ومزدرٍ لرموزهما وعقائدهما؛ فإذا دخل اليهودي في النصرانية أضاف الإيمان بها والاحترام لها ما كان لديه، وظل على كفره وجحوده وازدرائه للإسلام، فإذا ما دخل النصراني في الإسلام فإنه يضيف إلى إيمانه واحترامه لليهودية والنصرانية الإيمان والاحترام للإسلام، ولكل مواريث النبوات والرسالات والشرائع والكتب التي مثلت هدي السماء إلى الإنسان على مر تاريخ النبوات والرسالات.

إن اليهودي هو أشبه ما يكون- إزاء الديانات السماوية- بالحاصل على "شهادة الإعدادية"؛ فإذا دخل النصرانية كان كمن أضاف "شهادة الثانوية" إلى "الإعدادية"؛ فإذا دخل النصراني إلى الإسلام كان كمن أضاف "الشهادة الجامعية" إلى "الإعدادية" و"الثانوية".

ومن هنا كان الفارق الجوهري بين التبشير بالإسلام والتبشير بغيره من الأديان.. فارق الإضافة إلى الإيمان والاحترام للرموز الدينية بدلاً من الانتقاص والازدراء.

إن الفيلسوف الفرنسي "روجيه جارودي" عندما اعتنق الإسلام قد أضاف إلى إيمانه بموسى وعيسى الإيمانَ بمحمد، وأضاف إلى إيمانه بالتوراة والإنجيل الإيمانَ بالقرآن، وأصبح داعيةً إلى ملة إبراهيم، الذي هو الأب لجميع هؤلاء الأنبياء.

بينما سلمان رشدي الذي ارتد عن الإسلام قد نكص عن الإيمان بالإسلام وكتابه وشريعته ورسوله، وأحلَّ ازدراءه لهذا الدين السماوي محلَّ الاحترام الذي كان قائمًا قبل الارتداد؛ ذلك أن التصديق بالوحي القرآني هو تصديق بمطلق الوحي الإلهي لجميع الأنبياء والمرسلين على امتداد تاريخ النبوات والرسالات ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)﴾ (النساء).. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 285).

ولهذه الحقائق الموضوعية والمنطقية والعقلية كان الحق والعدل والإنصاف في منع الدول الإسلامية التنصير الرسمي في مجتمعاتها؛ لأنه ليس حَجْرًا على الحرية المشروعة، وإنما هو حماية لمقوِّم أساسي من مقومات الدولة والمجتمع، وحرصٌ على عدم الانتقاص من مجمل الإيمان بكامل الشرائع الدينية، ومنعٌ لازدراء أيٍّ من الديانات السماوية؛ فبالإسلام يكتمل الإيمان بالدين الإلهي الواحد، والاحتضان للشرائع السماوية المتعددة، والاعتراف بكل الكتب السماوية؛ من صحف إبراهيم وموسى، إلى إنجيل المسيح عليه السلام، إلى القرآن الكريم الذي نزل على الرسول الخاتم مصدقًا لما بين يديه من كتاب، مطلق كتاب: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ﴾ (المائدة: من الآية 48).

إضافة إيمانية

إن حقيقة الدعوة إلى الإسلام، إضافة إيمانية- وليست- كالتبشير بالديانات الأخرى، انتقاصًا وكفرًا وازدراء، وكانت الأبواب التي تفتحت أمام الدعوة الإسلامية، تاريخيًّا وحتى الآن، دون إكراه، أو عنف، أو حتى "مؤسسة" للدعوة والتبشير بهذا الإسلام.

ولقد شهد لهذه الحقيقة عدد كبير من علماء الغرب والخبراء في جميع الديانات وتاريخ هذه الديانات، شهدوا على تميز الإسلام وتميز الدعوة إليه، تميزه بالعقلانية، وتميز الدعوة إليه بالسلم والموعظة الحسنة.

* فقال "جورج سيل" sale. G (1697، 1736م)، الذي ترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية: "لقد صادفت شريعة محمد ترحيبًا لا مثيلَ له في العالم، وإن الذين يتخيلون أنها انتشرت بحد السيف إنما ينخدعون انخداعًا عظيمًا" (2).

* وقال (سير توماس أرنولد) (1864، 1930م)، وهو العلامة الحجة في الاستشراق في دراسة السبل التي انتشر بها الإسلام، وصاحب الكتاب العمدة في هذا الميدان: "لقد قيل إن "جستنيان" (483، 565م)، الإمبراطور الروماني: أمر بقتل مائتي ألف من القبط في مدينة الإسكندرية، وأن اضطهادات خلفائه قد حملت كثيرين على الالتجاء إلى الصحراء.

وقد جلب الفتح الإسلامي إلى هؤلاء القبط حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها من قبل ذلك بقرن من الزمان، وليس هناك شاهد من الشواهد على أن ارتدادهم عن دينهم القديم ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعًا إلى الاضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم الدينيين، بل لقد تحوَّل كثير من هؤلاء القبط إلى الإسلام قبل أن يتم الفتح، حين كانت الإسكندرية، حاضرة مصر وقتئذ، لا تزال تقاوم الفاتحين، وسار كثير من القبط على نهج إخوانهم بعد ذلك بسنين قليلة.

"... ونستطيع أن نستخلص بحق أن القبائل العربية المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة شاهد على التسامح.

ولا شك أن التحول إلى الإسلام كان يقترن ببعض مزايا مالية معينة، ولكنه لم يكن من الممكن أن يكون للدين القديم إلا تأثير ضئيل على هؤلاء الذين تحولوا إلى الإسلام لا لشيء إلا ليظفروا بإعفائهم من أداء الجزية، ومنذئذ كان على الذين يتحولون إلى الإسلام أن يؤدوا بدلاً من الجزية الصدقات الشرعية، وهي الزكاة التي كانت تفرض سنويًّا على معظم أنواع الممتلكات المنقولة والعقارية.

ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة (الجزية) على المسيحيين، كما يريدنا بعض الباحثين على الظن، لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة، وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين.

ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت تعفى من أداء هذه الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي، وكان الحال على هذا النحو مع قبيلة "الجراهمة" وهي قبيلة مسيحية كانت تقيم بجوار "أنطاكية"، سالمت المسلمين، وتعهدت أن تكون عونًا لهم، وأن تقاتل معهم في مغازيهم على شريطة ألا تؤخذ منها الجزية، وأن تُعطى نصيبها من الغنائم.

ولما اندفعت الفتوح الإسلامية إلى شمال فارس سنة 22هـ أبرم مثل هذا الحلف مع إحدى القبائل التي تُقيم على حدود هذه البلاد، وأعفيت من أداء الجزية مقابل الخدمة العسكرية.

ونجد أمثلة شبيهة بهذه للإعفاء من الجزية في حالة المسيحيين الذين عملوا في الجيش أو الأسطول في ظل الحكم التركي، مثال ذلك ما عُومل به أهل "ميغاريا" Migaris وهم جماعة من مسيحيي ألبانيا الذين أعفوا من أداء هذه الضريبة شريطة أن يقدموا جماعة من الرجال المسلحين لحراسة الدروب على جبال Gerones Githaeron التي كانت تؤدي إلى خليج كورنتة.

وكان المسيحيون الذين استخدموا طلائع لمقدمة الجيش التركي لإصلاح الطرق وإقامة الجسور، قد أعفوا من أداء الخراج، ومُنحوا هبات من الأرض معفاة من جميع الضرائب، وكذلك لم يدفع أهالي Hydre المسيحيون من ضرائب مباشرة للسلطان، وإنما قدموا في مقابلها فرقة من مائتين وخمسين من أشد رجال الأسطول التركي كان ينفق عليهم من بيت المال في تلك الناحية.

وقد أُعفي أيضًا من الضريبة أهالي رومانيا الجنوبية الذين يطلق عليهم Armloli وكانوا يؤلفون عنصرًا مهمًّا من عناصر القوة في الجيش التركي خلال القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين، ثم المرديون Mirdites وهم قبيلة كاثوليكية ألبانية كانت تحتل الجبال الواقعة شمال أسكدار Scaturi، وكان ذلك شريطة أن يقدموا فرقة مسلحة في زمن الحرب.

وبتلك الروح ذاتها لم تقرر جزية الرءوس على نصارى الإغريق الذين أشرفوا على القناطر التي أمدت القسطنطينية بماء الشرب، ولا على الذين كانوا في حراسة مستودعات البارود في تلك المدينة، نظرًا لما قدموا للدولة من خدمات.

ومن جهةٍ أخرى، أُعفي الفلاحون المصريون من الخدمة العسكرية، على الرغم من أنهم كانوا على الإسلام وفرضت عليهم الجزية في نظير ذلك، كما فرضت على المسيحيين".