اعتماد مبدأ الشورى كقاعدة أصيلة

الشورى إن كانت لازمة ومطلوبة شرعًا فإنها وقت الأزمات والشدائد ألزم، وبالشورى يستطيع القائمون على الأمور أن يستطلعوا آراء صفوة الأمة وعقلائها، فيخرجوا برأي جامع يمكن أن يكون سببًا في وقايتهم من الوقوع في الأخطاء، وقد شاور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه يوم بدر، واستمع منهم، وشاورهم يوم أحد، ونزل على رأي الشباب منهم، واستمع لمشورة سلمان الفارسي يوم الخندق، وكانت سببًا من أسباب نجاتهم، والحفاظ على جماعتهم، وأخذ برأي أم سلمة يوم الحديبية، لِمَا رأى فيه من كياسة وذكاء، وكان فيه الخير والصواب.

وهذا من الواجب على الداعية- سواء كان أميرًا أم مأمورًا- أن يشاورهم فيما هو مُقدِم عليه، أو فيما يحتمل قدومه عليه، أو فيما يضطَّر إلى القدوم إليه من أمور صعبة جسيمة، مثل مقابلة العدو، أو مواجهته وجهًا لوجه، وما يترتب على ذلك من نتائج.

وليحذر الداعية من ترك المشاورة وانفراده بالرأي، فإن هذا الترك يفوت عليه خيرًا كثيرًا، مع مخالفته لأمر الشرع، وإيحاش قلوب أتباعه، وعليه وهو يشاور أتباعه ألا يضيق صدره بآرائهم، بل إن عليه أن يشجعهم بأن يقولوا كل ما يرونه من الصواب فيما يستشارون فيه من أمور، وعليه أن يأخذ بالرأي الصواب إذا ظهر، بل أن يأخذ به حتى لو تقدم به صاحبه دون سبق مشاروة من الأمير له، كما أخذ النبي برأي الحباب بن المنذر بشأن المكان المختار لجيش المسلمين يوم بدر.

لقد ربى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم، حتى ولو خالفت رأيَه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نصَّ فيه؛ تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة، ومعالجة مشكلات الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقرَّ بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحدًا لأنه أخطأ في اجتهاده ولم يوفَّق في رأيه.

هذه الحرية التي ربى عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه، مكَّنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرأي السديد، والمنطق الرشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحًا باهرًا وإن كان حديثَ السن؛ لأنه لم يكن يفكر برأيه المجرد، أو آراء عصبة مهيمنة عليه، قد تنظر لمصالحها الخاصة، قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامة، وإنما يفكِّر بآراء جميع أفراد جنده، وقد يحصل له الرأيُ السديدُ من أقلِّهم سمعةً، وأبعدهم منزلةً من ذلك القائد؛ لأنه ليس هناك ما يحول بين أي فرد منهم، والوصول برأيه إلى قائد جيشه.

ومن الأمور المهمة عند أخذ الشورى إخلاص النية، وصفاء القلوب، وتجردها لله رب العالمين، مع التأدب بأدب إبداء الرأي، والسمع والطاعة، وأدب المناقشة، ومفهوم عرض الرأي المعارض.

الصبر عند نزول الشدائد

الداعية يواجه الناس بدعوته التي تخالف أهواءهم وانحرافاتهم، وغالبًا ما يقابلونه بالرفض والإنكار وإيذاء الدعاة، فإذا لم يتخلق الدعاة بالصبر الجميل أصابهم الجزع والهلع والقعود عن الدعوة؛ ولهذا أمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- بالصبر على أذى المشركين وهو يدعوهم إلى الله، وفي هذا الأمر بالصبر أمر للدعاة أيضًا، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف:35).

وصبر الدعاة يجب أن يستمر ويشتد حتى يأتي نصر الله؛ لأنه بدوام صبرهم على تبليغ الدعوة، وتحملهم الأذى في سبيلها يقر موعود الله بنصرهم، وهذه هي سنة الله في الدعوة والدعاة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام:34)، وقول الله ﴿فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا﴾ تدل على أن رسل الله لم يرفعوا يدًا؛ دفاعًا عن النفس أو انتقامًا لذواتهم، بل تخلقوا وكفوا أيديَهم، واقتربوا من ربهم، ومع شدة البلاء يلزمون الصبر: ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (إبراهيم:12).

فسلاح المؤمنين على لأواء الطريق وبلائه: القربى إلى الله، والصبر على الشدائد، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة:45).. إنه الخلق الذي لا يستطيع أن يستغني عنه مؤمن، فضلاً عن أن يكون داعيةً إلى الله، وبعض الناس يظن أن الصبر سلوك سلبي، ويخلط بينه وبين الاستسلام والخنوع والمذلة، وما كان الصبر كذلك، بل هو جماع للأخلاق الحميدة وللسلوك الإيجابي.

وهل حين صبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الإيذاء والاستهزاء والسخرية والافتراء من أهله وقومه وأقرب الناس إليه نسبًا حتى قال مقولته الشهيرة: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" هل كان سلبيًّا يوم أن قال مقولته هذه وهو ثابت على الحق، يتحلى بأخلاق كريمة، ودعوة حكيمة، ومجادلة بالتي هي أحسن؟!

ولهذا نهى الإسلام عن ضد الصبر فقال: ﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد:33)، وإبطالها ترك الصبر على إتمامها، كما قال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ (الأحقاف:35)، والاستعجال من عدم الصبر، وقال: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾ (آل عمران:139)، والوهن من عدم الصبر؛ لأنه حب الدنيا وكراهية الموت، وقد نهى الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يتشبه بصاحب الحوت؛ حيث لم يصبر صبر أولي العزم، وامتلأ غيظًا وغضبًا وحزنًا من قومه ولم يصبر عليهم، فقال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ (القلم:5).

والتواصي بالصبر ضرورة؛ لأن القيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة، ولا بد من الصبر على جهاد النفس وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق، وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبُعد النهاية.

الإصرار على تبليغ الدعوة

واجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والصحب الكريم معه حربًا مستعرةً من السخرية والتحقير، والقتل والتعذيب، حتى ليقول الشيخ الغزالي: "وتألفت جماعة للاستهزاء بالإسلام ورجاله، على نحو ما لفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم نكتًا لاذعةً، وصورًا مضحكةً للحطِّ من مكانتهم لدى الجماهيرن، وبهذين اللونين من العداوة وقع المسلمون بين شقي الرحى: فرسولهم ينادى بالمجنون: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر: 6).. ويوصم بالسحر والكذب: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (ص: 4).

ويشيع ويستقبل بنظرات ملتهبة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (القلم: 51)، وليس حظ سائر المسلمين بأفضل من هذه المعاملة، فهم في غدوهم ورواحهم محل التنذر واللمز: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ* وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ* وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ* وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ (المطففين: 29-33).

ولم يكن جواب هذا التندر والاستهزاء إلا مزيدًا من الإصرار على تبليغ دعوة الله- عز وجل- فهذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يغشى مجالس الكفار ومجامعهم، ويحدثهم عن الإسلام ويطلب منهم النصرة.. فعن جابر- رضي الله عنه-: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه بالموقف، فيقول: "ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي".

فلم يأبه رسول الله للشدائد التي اعتَرضت طريقه، ولا للعقبات التي وقفت أمامه، كذلك لم ترهبه قوة الزعامات من الأشخاص والقبائل؛ لأن الدعوة التي جاء بها- صلى الله عليه وسلم- لم تكن لمجرد بناء وطن صغير، بل كانت إنشاءً جديدًا لأجيال وأمم تظل تتوارث الحق وتندفع به في رحاب الأرض إلى أن تنتهي من فوق ظهر الأرض قصة الحياة والأحياء.

فما تصنع خصومة فرد أو قبيلة لرسالة هذا شأنها في حاضرها ومستقبلها؟! ومن أولئك الخصوم؟! متعصبون تحجرت عقولهم، تزين لهم سطوتهم البطش بمن يخالفهم: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الحج: 72).

أم مترفون، سرتهم ثروتهم، يحبون الباطل لأنه على أرائك وثيرة، ويكرهون الحق لأنه عاطل عن الحلي والمتاع: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ (مريم: 73) أم متعنتون يحسبون هداية الرحمن عبثَ صبية، أو أزياء غانية، فهم يقولون: دع هذا وهات ذاك: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (يونس: 15).

أم مهرجون يتواصون بينهم بافتعال ضجة عالية وصياح منكر عندما تقرأ الآيات؛ حتى لا تسمع فتفهم، فتترك أثرًا في عقل نقي وقلب طيب: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت: 8).. أليس هؤلاء هم أعداء الدعوة في القديم والحديث مع اختلاف العصور، وتنوع فنون المحاربة والصد عن سبيل الله؟!

لقد مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في طريقه مجتازًا كل ما كان يلقى أمامه من صعاب، وهكذا ينبغي أن يمضي الدعاة والمؤمنون من بعده، دون أن يكسر من عزمهم، أو يفتَّ من عضدهم، أو يفتر من حميتهم في الدعوة إلى الله ما يقدمونه من تضحيات، فالدعوة لا يُكتب لها النصر إذا لم تُبذل في سبيلها الأرواح، ولا شيءَ يمكِّن للدعوة في الأرض مثلُ الصلابة في مواجهة الأحداث والأزمات، واسترخاص التضحيات من أجلها.

إن الدعوات- بدون قوى أو تضحيات- يوشك أن تكون فلسفات وأخيلة، ثم تُطوى مع الزمن، وإن للسعادة ثمنًا، وإن للراحة ثمنًا، وإن للمجد والسلطا ثمنًا، وثمن هذه الدعوة دمٌ زكيٌّ يراق في سبيل الله؛ من أجل تحقيق شرع الله ونظامه، وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة.