"الغزالي رسم الإطار التربوي لمشروعه وأكد ضرورة تفعيل دور المرأة فهي شقيقة الرجل وطلب العلم فريضة عليها".

"الغزالي بنى فكره الإصلاحي الحر على نقد كل الأعراف الراكدة والوافدة لا سيما في حقل تربية النساء".

الشيخ محمد الغزالي واحد من العلامات البارزة في الفكر الإسلامي المعاصر، رحلة طويلة من العطاء الفكري المتميز دامت على مدار ستين سنة بأكملها، كانت محصلتها ما ينوف عن الستين كتابًا في مجالات فكرية شتى، أثرت بدورها المكتبة العربية والإسلامية على صعيد الفكر الإصلاحي الوسطي الرشيد.

ميَّز فكر الغزالي أنه حمل في طياته مشروعًا فكريًّا، ما لبث أنَّ تحول إلى مشروعٍ حضاريٍ مأمول تنفيذه وتحقيقه على الأرض، كان الخط العريض لهذا المشروع الرائد يتمحور حول الإصلاح الاجتماعي؛ الذي رأى أنه القاطرة الدافعة لأي إصلاح آخر مرجو، وكانت أهم آليات الوصول لهذا الإصلاح عنده الاهتمام بقضايا المرأة المسلمة وإزالة غبار الزمان والمكان الكثيف الذي أُثير حول أوضاعها في المجتمع، رغم أنَّ أعظم التكريم لها كان في كنف الإسلام.

حظي هذا المشروع بمزيدٍ من الأتباع والمريدين في كافة ربوع العالم الإسلامي، كما حظي أيضًا بالعديد من المناوئين؛ الذين يقفون عقبة وحجر عثرة أمام أي محاولة للإصلاح والتجديد في كل عصر ومصر.

وفق كل هذه المعطيات تجيء الدراسة التي عنوانها "تربية المرأة من منظور الشيخ محمد الغزالي" للدكتورة "لطيفة حسين الكندرى" والدكتور "بدر محمد ملك"، وكلاهما أستاذ مساعد في كلية التربية الأساسية في دولة الكويت، لتعرض بمزيد من العمق للأغوار البعيدة لملمح هام في مشروع الغزالي الذي نحن بصدده، والممثل في تربية المرأة، محاولة إلقاء الأضواء والظلال على الجوانب المختلفة لها في مؤلفاته كافة، وجاءت الدراسة في 61 ورقة، ومنشورة في مجلة العلوم التربوية، الصادرة عن معهد الدراسات التربوية بجامعة القاهرة، في أكتوبر 2003م.

الدراسات السابقة

بدأ الباحثان دراستهما المتميزة بتوطئة، ثم بعد ذلك عرضا لنبذة عن حياة الشيخ الغزالي، ثم عرضا للدراسات السابقة التي تناولت مشروعه الذي نحن بصدده، ونرى من الأهمية بمكانٍ الوقوف قليلاً عندها؛ حيث أشاروا إلى أنَّ ثمة فريقًا معارضًا لأطروحاته حيال المرأة، وفريقًا ثانيًا مؤيد لها ومطور، وفي هذا تقول الدراسة: يرى المنتقدون وعلى رأسهم ربيع بن هادي عمير المدخلي أن الشيخ محمد الغزالي قد حشر نفسه مع خصوم السنة النبوية المطهرة بل صار حامل لواء الحرب عليها، وأصبحت كتبه تمثل مدرسة ينهل منها كل حاقد على الإسلام ومرد ذلك إلى قصور إدراكه لمعاني الأحاديث فيخيل له هذا القصور أنها تعارض القرآن أو تصادم العقل، وقد يكون هذا العقل جهميًّا أو معتزليًّا أو غربيًّا، ويعترف الغزالي- كما يقول المدخلي- بقوامة الرجل على المرأة على إغماض ومضض، ثم يقصر هذه القوامة على البيت فقط؛ وهو رأي في حدود علمي لم يسبقه إليه أحد، فالإسلام يفرض على المرأة أن لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، وفي مجال السياسة يرى الغزالي أنَّ للمرأة أن تتولى المناصب العليا في الدولة فيقول: وللمرأة ذات الكفاءة العلمية والإدارية والسياسية أن تلي أي منصب ماعدا الخلافة العظمى.

وقرر المدخلي في نهاية بحثه- الذي قد يعد أعنف نقد لفكر الغزالي- أن رؤى الغزالي لا تعكس الرؤية الإسلامية، وقال: "فإني أرى أنَّ فكر الغزالي خطير جدًا على الإسلام فهو امتداد خطير لشتى الدعوات الرهيبة؛ فهو امتداد رهيب للاشتراكية والديمقراطية، وامتداد خطير لدعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل في كل مجال".

هذه النتيجة النهائية لا تختلف في حدتها مع نهاية دراسة أبي بكر جابر الجزائري وسلمان العودة وغيرهما من المعارضين بشدة، لقد أنكر هؤلاء أن تكشف المرأة وجهها، وأن تتولى المناصب الإدارية الرفيعة في المجتمع، وأن تشتغل في السياسة، ويعتقد هؤلاء أن هذه مسائل محسومة شرعًا وليس من الحكمة مخالفة رأي السابقين في مثل هذه القضايا الحساسة.

الفريق المؤيد

ذكرت الدراسة بأنه لا يتفق كثير من الباحثين مع نتائج الدراسات السابقة؛ إذ يعتقد بعض المتخصصين في تحليل ببلوغرافيا الخطاب العربي حول المرأة في القرن العشرين أنَّ تيار الغزالي رغم التحديات الكثيرة إلا أنه يمثل تيارالإصلاح المعتدل في الخطاب الإسلامي (صالح وأبوالمجد ومصطفى، 2002 م، ص 115، 121، 481).

كتب عويس (2000م) فصلاً عن الغزالي وقضايا المرأة، وتوصل إلى أن الغزالي قاد تيارًا معتدلاً لإنصاف المرأة وتحقيق فعاليتها (ص 61 - 71)، وقام القرضاوي (1997م) بتتبع فكر الغزالي إزاء قضايا المرأة فوجدها رائدة، ثم قدَّم فكرةً عامةً مليئة بالشواهد المنقولة من كتب الغزالي (ص 208 -209 – 217).

من الدراسات الهامة في موضوع دراستنا دراسة للباحثة سهيلة الحسيني (1998م) أكدت فيها أن الغزالي قام بالدفاع عن المرأة منذ بداية الخمسينيات إلى آخر حياته (ص 15).

كما قامت هبة رؤوف عزت (1997م) بدراسة "الحق المر- الشيخ الغزالي وقضايا المرأة" فوجدت أنَّ الغزالي كان في الستينيات يؤكد على أولوية عمل المرأة داخل بيتها، ولكنه في الثمانينيات وبعد طول خبرة "يسعى إلى إيجاد توازن بين مسئولية المرأة داخل أسرتها ومسئوليتها تجاه قضايا الأمة" (ص 95)، يرى الغزالي كما تقول الباحثة: "أن مستقبل الإسلام رهن بإعادة النظر في قضايا عديدة، منها قضية المرأة، وأنَّ التضييق كان مدخلاً لأعداء الدين لكي ينفذوا إلى المجتمع الإسلامي" (ص 94).

أهمية الدراسة

تعود أهمية الدراسة- وِفْق الباحثَيْن- إلى أنَّ الدراسات النسوية تشهد اهتمامًا بالغًا في معظم بلدان العالم وعلى المستويين الرسمي والشعبي لأنها تعمل على حماية الحقوق الإنسانية وتعمل بصورة متواصلة لتحسين واقع المرأة، ويسعى العاملون في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر إلى بناء حقل لدراسة قضايا المرأة المسلمة، ومن دواعي تأسيس هذا الحقل العلمي مواجهة إشكاليات التراث، وتحديات الحداثة من خلال النقد الذاتي، ومواجهة الخطاب الغربي، وتحقيق النهضة.

ولمَّا كان الغزالي قد طالب بضرورة تصحيح النظرة اتجاه المرأة وحقوقها، وانتقد بشدة بعض التقاليد المحسوبة على الإسلام، وهي ليست منه وحاول تقديم الصورة الصحيحة للمرأة في الإسلام، ولذا كان من الأهمية بمكان إجراء هذه الدراسة التي ترصد بشكل بانورامي إسهامات الغزالي في هذا الحقل.

أهداف الدراسة

أشار الباحثان إلى أنهما يوظفان في هذا البحث المنهج التحليلي الاستنباطي، وذكرا أنهما يحاولان الوصول إلى مجموعة من الأهداف، أقرَّا بأن الوصول إليها سيكون من خلال الإجابة على مجموعة من التساؤلات، وفي هذا يقولان: ونظرًا لكثرة كتب الغزالي، وندرة الشروح والتعاليق التي قام بها الباحثون في حقل التربية لتوضيح معالم تنشئة المرأة عند الغزالي بصورة مترابطة مستقلة مفصلة فإنَّ دراستنا الحالية ستتصدى للإجابة عن القضايا التالية:

1- ما المقصود بالتربية والتعليم والتثقيف عند الغزالي؟

2- ما المنطلقات التي ارتكز إليها الشيخ الغزالي في نظرته لتربية المرأة في ظل التحديات المعاصرة؟

3- ما موقف الشيخ الغزالي إزاء تحديات تربية المرأة وتعليمها؟

4- كيف يمكن الإفادة من آراء الغزالي في تصحيح نظرتنا للمرأة تربية، وتعليمًا، وأدوارًا، في مناهجنا التعليمية؟

وأشارا إلى أن المحاور التالي عرضها ستكون محاولة منهجية للإجابة عن الأسئلة السابقة".

التربية عند الغزالي

تُشير الدراسة في هذا المحور إلى أنِّ الغزالي نظر للتربية نظرة عملية نابعة من السياق الثقافي العام؛ إذ أخذ يتتبع مدى تأثير قلة الوعي التربوي على واقع المجتمعات العربية المتردية وأثناء ذلك ذكر أكثر من تعريف للتربية والتعليم والثقافة، وأشار لبعض وسائل التأديب مع بيان واضح للأهمية السامية للتربية في رقي الأمم ونشر القيم.

ويضيف الباحثان بأن الغزالي قد رسم الإطار التربوي لمشروعه، وأكد على ضرورة تفعيل دور المرأة، فهي شقيقة الرجل وطلب العلم- بمعناه الشامل- فريضة عليها الإسلام والطاقات المعطلة، (ص 168).

وتحدث عن تثقيف المرأة وعرف التثقيف فقال: "هو تفتيق الذهن والمواهب وتصحيح فكرة الإنسان عن الكون والحياة وتعهد سلوكه بما يلائم الحق والواجب" (من هنا نعلم، ص 166).

كما قام في كتابه "صيحة التحذير من دعاة التنصير" بالتأكيد على أن التربية نشاط شعبي قبل كل شيء، ولا بد من تغيير التقاليد السيئة والأوهام الشائعة (ص 24-25)، ويرى في كتابه "نظرات في القرآن" أن التربية الناجحة تحتاج إلى البيئة السليمة، ويقول "والتربية المنشودة ليست دروسًا تُلقى, إنما هي جو يُصنع, وإيحاء بغزو الأرواح باليقين الحي والعزيمة الصادقة" (ص 94 ).

المنطلقات الفكرية

حدد الباحثان المنطلقات الفكرية للغزالي في خصوص تربية المرأة، في سبعة منطلقات تمَّ استقصاؤها من ثنايا كتبه، وكانت أولاهم وفق- الباحثين- متمثلة في "النظرة الكلية الشاملة للإصلاح" ويرى أنه يختلف عن معظم المصلحين في أنه يطالب بتربية المرأة تعليمًا راقيًا يؤهلها لإدارة منزلها ومجتمعها فتفيد أسرتها وتثري مجتمعها فالمرأة المؤهلة الملتزمة بآداب الإسلام تستحق أن تتقلد أرفع المناصب وتعمل في الوظائف العامة بحرية تامة.

ويضيف بأنَّ التربية التقليدية تعد المرأة في إطار ينحصر في البيت وفي بعض المهن داخل وزارتي الصحة والتدريس، بينما التربية عند الغزالي تطالب بإصلاح شامل عن طريق توسيع عملية إعداد المرأة لتدعم مسيرة التنمية دون الإخلال بوظيفتها في البيت.

وجاءت "النظرة النقدية" كثاني هذه المنطلقات، وأشار الباحثان إلى قيام الغزالي في كتابه "ركائز الإيمان" ببيان ضرر الأحاديث المكذوبة مثل حديث "لا تعلموهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف"، وحديث "خير للمرأة ألا ترى رجلاً ولا يراها رجلٌ"؛ فهذه الأحاديث الباطلة استقبلها الناس كأساس السلوك في بعض البيئات (ص 157).

وأشار الغزالي في "فقه السيرة" إلى أنَّ الجهل بالسنة النبوية جعل البعض يعزل النساء تمامًا عن الحياة العامة (ص 36).

وأشارت الدراسة إلى كشف الغزالي في كتابه "تراثنا الفكري" عن تخوفه من سيطرة بعض الحركات الإسلامية في حال الوصول للحكم؛ لأنهم لا يؤمنون بمبدأ التوسع في تعليم المرأة (ص 47، 63، 67)، وتناول الغزالي بعض المتدينين باللوم والإنكار؛ لأنهم لم يعرضوا سماحة الإسلام في قضايا المرأة، بل هم من أسباب نفور الحركات النسائية من تعاليم الإسلام، وفي نفس اللحظة انتقد الحركات النسائية؛ لأنها هاجمت الدين لا المتدينين (حصاد الغرور، ص 207).

ونجد في كتاب مقالات الشيخ محمد الغزالي إشكالية تعليم النساء في القرن العشرين, فلم تفتح المدارس أبوابها إلا بعد محاولات مضنية، ولا تزال فكرة عزل المرأة عن الدين والدنيا قائمة في أدمغة نفر من المتدينين (ج1, ص 29).

وانتقد الغزالي أيضًا الواقع العربي كممارسات اجتماعية وموروثات دينية، ووسع نطاق نقده ليشمل تحليل مواطن من التراث النصراني مع بيان أثرها السلبي على الفكر الإسلامي، فناقش في كتابه "صيحة التحذير من دعاة التنصير" قضية المرأة عند المسلمين والنصارى، كما صوَّب الغزالي سهام نقده لشبهات المستشرقين أيضًا.

الوسطية

كانت ثالثة المنطلقات الفكرية للغزالي في تربية المرأة، وأشارت الدراسة إلى تجلي وسطية الغزالي في أنه شجع عطاء المرأة في خدمة المجتمع والعمل خارج المنزل؛ وذلك عبر المشاركة في الأعمال التي تناسبها مع التأكيد على أن وظيفة ربة بيت وظيفة عظيمة، ولا تَعارض أبدًا بين المسارين، ولا توجد حاجة لأن تُخيَّر المرأة بين البيت أو العمل خارجه طالما أنها تستطيع الوفاء بحق الوظيفتين بصورة متوازنة، يحمل الإنسان في طياته طاقات عظيمة تتيح له ممارسة عمله في محيط المجتمع ودائرة الأسرة في تناغم.

"أسس لبرامج التدريب" أوردها الباحثان باعتبارها رابعة المنطلقات، وفي هذا تقول الدراسة "حض الغزالي المربين على تأهيل وتدريب المتعلمين (قذائف الحق، ص 300) بعد رسم الأهداف المطلوبة، وذلك لغرس وممارسة كل المفاهيم التي من شأنها تهذيب النفس سواء داخل الأسرة أو في جنبات المجتمع، إعداد البرامج التدريبية المناسبة لترسيخ المفاهيم الاجتماعية العادلة تجعل عملية تمكين المرأة في دائرة التأثير والتقويم والتطوير".

وتشير الدراسة إلى أنه يرى أن لا بد من رعاية الأسس النفسية والاجتماعية من أجل تقديم برامج إصلاحية نافعة وحدد مجموعة من الأسس في هذا الإطار ذكر منها: توثيق الصلة بين المرأة وينابيع الثقافة الدينية والمدنية، وإعادة الحياة للعلاقة بين النساء وبيوت الله في الصلوات، فضلاً عن تدريس الوظائف التربوية للبيت المسلم حتى نستطيع تخريج أجيال تعرف ربها ودينها ومعاشها ومعادها، كما أوصى بالحكم بإعدام ما تواصى المسلمون به في تقاليد الزواج من مغالاة في المهور وإسراف في الحفلات، ووصل ما بين البيت المسلم وقضايا المجتمع الكبرى (قذائف الحق، ص 298).

كما عرضت الدراسة لبعض المنطلقات الأخرى مثل "ضبط الواقع لا الخضوع لضغطه" و"الأصالة والمعاصرة" والموضوعية وتنوع المصادر".

تحديات التربية

استهل الباحثان هذا الفصل بالقول بأنه ليس من السهل دائمًا تحديد موقف الغزالي إزاء عدد من القضايا الحساسة التي تمس حركة المرأة ونموذج تعليمها؛ لأن الشيخ قد تراجع عن بعض مواقفه السابقة، وأخذ في كتاباته الأخيرة يأخذ منحى المرونة القائمة على الموازنة بين ركائز الأصالة وبين مكاسب المعاصرة؛ حيث حدد الغزالي موقفه من عدد من القضايا منها: موقع المرأة في البيت وفي المجتمع ونوع التعليم المناسب لها؛ فتحدث عن المرأة والاختلاط كما تحدث عن ثقافة المرأة ودور الحركات النسائية.. ثم شرح الباحثان هذه القضايا من وجهة نظر الغزالي بشيء من التفصيل، ننتقي  قضية الاختلاط نظرًا لجدليتها ونعرضها في هذا المقام وفق ما أوردها الباحثان كما يلي:

"يؤمن عدد غير قليل من الباحثين بعدم اختلاط الرجال بالنساء في الأماكن العامة والخاصة إلا لضرورة ووفق شروط شرعية صارمة منها أن لا تكشف المرأة عن وجهها، فالمرأة عند بعض السابقين "ناقصة العقل قليلة الدين ليست أهلاً لحضور المحافل"، وذهب بعضهم إلى أن أصول الشريعة الإسلامية تضمنت أن "المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة" (الدلال، 2001 م، ص 49) وهي آراء قديمة ومازالت منتشرة إلى هذه الساعة في الساحة العربية إلا أنَّ الغزالي يرفض الإذعان لها؛ لأنها حيطة متكلفة ولا تستند إلى قطعيات الدين وبراهين العقل، ولقد شجَّع الغزالي النساء على حرية التحرك الفعال خارج البيت ولم يمانع من تولي النساء المؤهلات أغلب المناصب في الدولة إذا لم تتعارض متطلبات تلك المهن مع طبيعتهن ووظيفتهن في الأسرة كما سمح الغزالي للمرأة بدخول أجهزة الإعلام والمشاركة في الغناء مادام الغناء شريف الغرض، عفيف الأداء (الحق المر، ج 3، ص 232).

شرح الغزالي في كتابه "هذا ديننا" طبيعة الحياة بين الرجل والمرأة، وحذَّر من إقحام المرأة في كل مجال (ص 142)، ويرى المؤلف في هذا الكتاب أنَّ الإسلام يرفض ازدواج التعليم، فلكل من الجنسين مدارسه وجامعاته" (ص 183).

ولقد تراجع الغزالي عن هذا الرأي فيما يتصل بالاختلاط المحتشم في المرحلة الجامعية، كما سوف نرى لاحقًا، وطالب الغزالي بضرورة السماح للمرأة بارتياد المساجد والمدارس، وبين أن سفور الوجه ليس محرمًا، وأكد أن تدريب المجتمع على تطبيق الفضائل والآداب العامة "يحتاج إلى تربية على نطاق أتم وأشمل" (من هنا نعلم، ص 160 – 166).

يرى الغزالي أنَّ المرأة يمكنها أن تعمل في تدريس الأطفال إلى سن التاسعة أو الحادية عشرة (حقوق الإنسان، ص 96)، وهنا نجد الغزالي قد يختلف عن بعض أقرانه من العلماء الذين يطالبون بفصل الطلاب عن الطالبات، ومنع كل ما يحوم حول الاختلاط مهما كان أمره (ابن عثيمين، 2003 م)، قد لا يعتمد التوجه على نص قطعي مباشر، ولكنه يعتبر الأضرار الناتجة تقود إلى منع كافة صور الاختلاط.

وافق الغزالي على اختلاط البنين والبنات في جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية في الجزائر، وكان ذلك في دائرة الأدب والحياء، ولكن الغزالي حذَّر من التعليم المختلط في المدارس الثانوية؛ لأنه جمع يوقد الشر ويؤجج المشاعر عند المراهقين فطبيعة هذه المرحلة لا تسمح بذلك، وستكون الدراسة فاشلة، كما طالب بتوحيد زي الطالبات في جميع مراحل التعليم (الحق المر، ج3، ص 38)، وهكذا لم يمنع الغزالي الاختلاط بين الجنسين على إطلاقه بل فصَّل في الأمر".

تطوير تعليم المرأة

كيف نستفيد من تراث الغزالي عمليًا في تطوير مناهج التعليم وفي مضمار التوعية الجماهيرية؟ سؤال يحاول الباحثان الإجابة عليه في هذا المحور، وقد خلصت إجابته بقولهما "يمثل منهج الغزالي في التوجيه الجماهيري ثروة هائلة تشمل مقالات جريئة، وكتبًا هادفة، وخطبًا مؤثرة، ومواقف نادرة "فهي ذخيرة لكل مسلم"، كما يقول القرضاوي (ص58)، يستطيع المربون انتقاء مقطوعات تربوية وتعليمية من ذلك الفكر الأصيل النابض وتسخيره لنهضة حضارية تقوم على توظيف طاقات المرأة المعطلة، وجعل قضيتها ركيزة إيمانية لبناء فلسفة واضحة وتحديد معالم إستراتيجية محددة لتثقيف المرأة، وتصويب المفاهيم الشعبية الخاطئة، ومراجعة الموروثات الفكرية الشائعة كوظيفة أولى للتربية، والرد على شبهات الغلاة، والتعريف بالتربية الإسلامية عالميًا".

تجديد فكر المصلحين أقرَّ الباحثان تحت هذا العنوان بأنَّ أهم ما يميز فكر الغزالي أنه يعتز بالمصلحين ويقر بفضلهم، ويقدر مواقفهم، ويتخير من آرائهم ولكن لا يتحيز لفكرهم.

التربية الصحيحة هي القوة الفعلية لنهضة الأمم دومًا، ورغم أنَّ الغزالي شديد الإعجاب بالأفغاني وفكره في الإصلاح السياسي إلا أنه لا يعتبر تغيير الحكومات هو الحل الجذري؛ لأن رفع مستوى الشعوب (الحق المر، ج2، ص 62) والجهاد التربوي، كما فعل محمد عبده هو أقرب مناهج الإصلاح للصواب؛ لهذا توجه الغزالي نحو دراسة أحوال المجتمع المسلم فجاءت قضية المرأة، وتوسيع دائرة تعليمها، وفتح المجال لمساهماتها في مقدمة منهاجه العملي في الإصلاح الاجتماعي، وهو مسار طويل بدأه ابن باديس والإمام محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا وجاء الغزالي الذي تتلمذ في مدرسة الإمام حسن البنا فوسَّعه وعمق نطاقه دون التقليل من شأن الإصلاح السياسي، ويتفق الغزالي مع محمد عبده في تقديم العمل التربوي الجماهيري على العمل السياسي الضيق "فالفساد يهبط من أعلى إلى أدنى، والإصلاح يصعد من أدنى إلى أعلى" (محاضرات الشيخ، ص 139).

يؤيد الغزالي ابن باديس المصلح الجزائري الكبير الذي آمن بحق المرأة في التعلم، وطالب بمشاركتها في عملية بناء الأمة (تراثنا الفكري، ص 48، القرضاوي، 1997، ص 62)، ولا شك أن ابن باديس اعتبر تعليم المرأة وفق الضوابط الدينية من أهم دعائم التربية ولا بد من تعليمها مجانًا (حميداتو، 1418 هـ)، كما ظل الغزالي شديد الإعجاب بأستاذه وشيخه الإمام حسن البنا وظل وفيًا لأفكاره الإصلاحية الشمولية ومن بينها قضية المرأة.

النتائج

توصل الباحثان في مؤخرة دراستهما إلى مجموعة من النتائج حول فكر الغزالي، وفي هذا يقولان: من خلال استقراء فكر الغزالي نجد أنَّ علم الدين يكمل علم الدنيا ويرشد إليه، والعكس صحيح فالدين يقوم على مبدأ إعمال العقل، وإعمار الحياة، الرجل مع المرأة يتحملان هذه الرسالة السامية التي لا تتحقق إلا بالتربية القويمة التي تُزكي الخلق، وتنمي المواهب والاستعدادات، وتوسع المدارك، وتحسن السلوك.

وجاءت التربية الإسلامية لإسعاد النفس ولتسيير أمور الناس باليسر والسماحة لخدمة غايات دنيوية ودينية نبيلة، ولكن الفكر التقليدي ضيَّق واسعًا وكبَّل ثقافتنا المعاصرة بقيود اجتماعية ثقيلة ليست من محكمات الدين، كما أنَّ التسليم المطلق لفكر الغرب عند بعض المثقفين أوقع العرب اليوم في مهاوي لا تقل خطورةً عن التشدد والتدين الفاسد، وهذا الأمر جعل الغزالي يبني فكره الإصلاحي الحر على نقد كل الأعراف الراكدة والوافدة لا سيما في حقل تربية النساء.

تُركِّز فلسفةُ الغزالي التربوية على ضرورة الإصلاح الشامل وضرورة تقديم الفكر الإسلامي المنفتح "عن طريق السلوك الحميد, وعن طريق التعاون مع كل من يمكن التعاون معهم" (العدوي 1997, ص 15)؛ لأن الحكمة لا وطنَ لها فأينما وجدها المسلم فهو أحق الناس بها.

كما حاول الغزالي في تفسيره للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والتراث الإنساني الضخم أن يرسم معالم التربية الإسلامية السليمة، ويستخلص جوهر المنهج المتفتح الذي أرساه الإسلام فجاءت أطروحات الغزالي ومقالاته المتفرقة، وكتبه الكثيرة، وأشرطته السمعية المتنوعة لحل المشكلات الثقافية والاجتماعية المعاصرة، ويرى الغزالي أنَّ بعض العادات الجائرة في مسألة تنشئة المرأة عقبة كؤود في طريق تكوين شخصية مستقلة تمارس حقوقها في الاختيار وصنع القرار، فلذلك خصص جهاده الفكري لمعالجة الموضوعات ذات الصلة بهدف النهوض بالمرأة.

ومن الملاحظ أنَّ الغزالي في مشروعه الإسلامي الرائد في تحرير المرأة لم ينتقد سلبية المرأة المسلمة عندما تخلت عن ممارسة حقوقها الشرعية، وكان يلوم التفكير الجامد المتأثر بالبيئة عند بعض الفقهاء، وكان يلوم التدين الفاسد، وكان يلوم الهجمات التغريبية، ونعتقد أن ما سبق من أهم أسباب اختزال دور المرأة في دائرة نمطية محدودة إلا أن تنازل المرأة عن المطالبة بممارسة حقوقها بصورة شاملة من الأسباب الهامة لتدني مستوى عطائها الحضاري.

الحقوق تُؤخذ ولا تُعطى ورحلة الإصلاح تبدأ- فيما نرى- بفتح باب النقد الذاتي الموضوعي، كما شرع بذلك الغزالي ونتمم مسيرة مشروعه الحضاري بدراسة أمينة لأسباب انتكاس مكانة المرأة مع العمل على تفعيل دورها بعد التفريط المشين الذي أصاب مفهوم: النساء شقائق الرجال في تعمير الأرض بالشورى والحكمة، والنشاط والحركة.