في ذكرى وفاته

ولست أبالي حين أقتل مسلما  ... على أي جنب كان في الله مصرعي

كانت هذه الأبيات يستشعرها دائما العالم الزاهد الداعية الشيخ خيري ركوة، مسئول قسم نشر الدعوة في جماعة الإخوان المسلمين، فلم يكن يبحث عن دنيا زائلة، أو مظاهر كاذبة، لكنه تجرد لله وأخلاص لدعوته حتى توفاه الله.

النشأة

ولِد فضيلة العالم الجليل الشيخ ركوة أحمد مكاوي الشهير بـ"خيري ركوة" في قرية نزلة على مركز طهطا محافظة سوهاج سنة 1934م وحفظ القرآن الكريم في كُتَّاب القرية مبكرًا، فقد كان يتمتع بذاكرة قوية وهبه الله إياها.

يقول الشيخ محمد عبد الله الخطيب: كانت له همة عالية منذ صغره فبعد التحاقه بمعهد طهطا الديني الابتدائي الأزهري الذي كان يبعد عن قريته سبعة كيلو مترات كان يقطعها يوم الخميس سيراً على الأقدام عائداً إلى بيت أسرته ليبيت معهم ويخطب الجمعة وهو في هذا السن الصغير عملاً بما حفظ وعلم من القرآن والسيرة والحديث والتفسير، وقد ساعده على ذلك انضمامه المبكر لجماعة الإخوان المسلمين فقد كانوا ومازالوا خير معين للطلاب وغيرهم من احتاج منهم درساً وفَّروه له، ومن احتاج أي شيء أوجدوه بإذن الله وتوفيقه لهم، فقد كانوا يُوقِفون النشاط الطلابي أيام الامتحانات ويلزمون الطلاب بيوتهم حتى يتفوقوا في دراستهم وكانت النتائج تفوق نسبة الــ 90%".

التحق الشيخ خيري ركوة بالمعهد الديني الثانوي، وقد كان يتحدث اللغة العربية بلسان طلق، وحديث عزب، مما أهَّله بعد ذلك لإلقاء الكلمات في الاحتفالات الجامعة، فقد ذهبنا ذات ليلة وكانت ليلة امتحان إلى حفل مُقام بمناسبة المولد النبوي، فإذا بنا نجد شيخ المعهد يجلس في الصفوف الأولى، فسلمنا عليه بعد الحفل وسألنا ماذا ستفعلون غداً في الامتحان؟ وبعد العودة مكثنا على المراجعة وبفضل من الله أجدنا في الإجابة على الأسئلة، وبعد الامتحان ما كان من شيخ المعهد إلا أن دعا لنا.

ثم التحق الشيخ خيري ركوة بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف ليتخرج منها بالشهادة العالية ثم ليحصل على دبلومه في التدريس، وكان يتمتع بين زملائه بإيمان صادق، وخُلق عظيم، وعلم ثمين، وذكاء, يستخدمهم جميعا لينشر دعوة الله بين خلقه أينما وجد.

بين الصفوف المؤمنة

التحق الشيخ خيري ركوة بجماعة الإخوان المسلمين وهو طالب في الجامعة، وعمل من أجلها، وظل مجاهدًا في سبيل نشرها حتى اعتُقل في عهد عبد الناصر عام 1965م ولم يخرج إلا في عام 1971م، كما أُعيد اعتقالُه في عهد الرئيس مبارك؛ حيث قضى خلف القضبان عامًا كاملاً!!

أصبح الشيخ ركوة المتحدث الرسمي باسم جبهة علماء الأزهر والتي أنشئت عام 1946م وتضم أكثر من ألف عالم وشيخ حيث تم اختياره لهذا المنصب عام 1998م، كما اختير مسئول قسم نشر الدعوة في جماعة الإخوان المسلمين.

يقول الشيخ الخطيب: فبعدما عمل بوزارة التربية والتعليم في التدريس عامين جاءت محنة 65 المخترعة المختَلقة من قِبل النظام الحاكم حينئذٍ وحُكم عليه بثلاث سنوات قضاها مع قسوتها كنموذج يحتذى به في الصبر والاحتمال والرضا بقضاء الله، ولم يكتف النظام الحاكم بالسجن فبعد الإفراج عنه ذهبوا به إلى المعتقل ليقضي به ثلاث سنوات أخرى، وكان ما كان من الشدائد في السجن والمعتقل وما كان منه إلا الصبر الجميل واحتساب الأجر عند الله.

وبعد خروجه من المعتقل عاد إلى عمله، ثم تزوج وتعاقد على العمل مبعوثاً للسعودية بإندونيسيا ثم عاد إلى مصر ويوفقه الله للعمل بدولة الإمارات مفتشاً للغة العربية لغة القرآن الكريم التي عشقها وعمل على غرس حبها في قلوب تلاميذه.

لم ينس الشيخ دعوته في كل هذه المراحل ولم يقصّر في حقها، فقد كان يعمل دوماً لأداء واجبه الأول الذي خُلق من أجله وهو العمل للإسلام والدعوة إلى الله، فسعى بجد حثيث ونشاط دائم ليصل بها إلى أهلها الذين قعدوا عنها، مثله في ذلك مثل جميع إخوانه الذين فقهوا قول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33))، ونهجه في ذلك ما كان عليه رسولنا القدوة الحسنة (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)، مضحياً مع إخوانه بكل ما يملكون من نفس ومال ووقت (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40))، وليتحقق فيهم قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

قالوا عنه:

قال عنه الشيخ محمد عبد الله الخطيب:

كان رحمه الله على فهم جيد لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، فرأى مع إخوانه هذه الآية وأمثالها فحفظوها وأدركوا حُكم الله القاطع بأن المسلم لا خيار له إما أن يكون مع الله ورسوله يحبهما ويفديهما بكل غال ونفيس وإما أن يشتغل بفتات من الدنيا وأعشابها كما يحلو للبهائم والدواب أن تتعلق بهما، فحكم الله القاطع هو الفسق والعياذ بالله.

ولقد أدرك الإخوان المسلمون وفضيلة الشيخ خيري ركوة معهم قول الشاعر:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً

على أي جنب كان في الله مصرعي

فكانت دعوتهم إلى الله أغلى عندهم من كل شيء وأعز من كل شيء، فعملوا وما زالوا يعملون ويضحون لتعلوا راية الإسلام في كل مكان.

كان مع أهله رفيقاً كما تعلَّم من سيرة الرسول، كان في خدمتهم ليدخل عليهم السرور والفرح، وما رأيته ولا سمعته يشتكي من أحدهم أبداً.

وكان رحمه الله مهذباً مؤدباً طيلة حياته فما رأيته أساء أو اغتاب أحداً من إخوانه أو من المسلمين، وكنتُ أكبر منه بأربع سنوات فقط فما غضب مني ولا ردّ لي كلمة قط، وفي مرضه الأخير ذهبتُ لعيادته، فقال انظر إلى يدي فنظرتُ إليه, وقلتُ طيبة وأنتَ طيب, وقبَّلتُ يده، فقال: أنا الذي أقبِّل يدك وقدمك.

كان كتلة من الإخلاص لدعوته ودينه وإخوانه وتلاميذه فما قصَّر في حق شئ منهم ولا تَوان في أداء واجب, رحمه الله وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.

وقال عنه الدكتور عبد الحميد الغزالي (الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية والمستشار السياسي للمرشد العام):

إن الشيخ ركوة كان من رموز جماعة الإخوان التي أسهمت بإخلاص وتجرد وثبات أصيل في جانب التربية والدعوة، وأضاف أن الشيخ كان له مواقفه العظيمة وتضحياته الكبيرة في سبيل نشر الدعوة، وكيف أن الابتلاءات التي لحقت به لم تنل منه بل تغلَّب عليها فكان يخرج من كل محنةٍ منتصرًا وأقوى مما كان.

وأوضح أنه كان نموذجًا وقدوة مشرفة لتلاميذه من بعده مربيًا فيهم حب الدعوة والثبات على طريقها مهما كانت العواصف والمحن، وكان سلوكه النبيل الذي يُجسِّد المسلم الفاهم والواعي بقضيته يترك انطباعًا إيجابيًّا وحبًّا يزداد بين تلاميذه، داعيًا الله عز وجل أن يتقبَّل منه وأن يرحمه ويسكنه فسيح جناته.

وأكد الحاج مسعود السبحي (سكرتير المرشد العام للجماعة سابقا) أن:

الشيخ ركوة كان من المجاهدين الأوائل في نشر الدعوة؛ حيث بدأ يعمل لهذه الرسالة وهو طالب بجامعة الأزهر ووظَّف لها حياته وحمل أعباءها ومسئوليتها على عاتقه، وكان يخشى أن يُؤتى الإسلام من قِبله فكان أشد ما يكون العبد إخلاصًا لربه وقضيته.

وأشار إلى أن ثباته على هذا الطريق عرَّضه للاعتقال في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وأمضى في السجن ثلاث سنوات، ولكن هذه العقوبة استمرت إلى ست سنوات ثم أُعيد اعتقاله في عهد الرئيس حسني مبارك لمدة عام، وكان الشيخ الجليل يخرج في كل مرةٍ أشد ثباتًا وأقوى إيمانًا ولم يمنعه هذا المعتقل من أن يستمر محبًّا ومجاهدًا في سبيل لدعوته.

وأضاف أن الشيخ كان غيورًا على دينه وله كتابات عدة في مجال الدعوة إلى الله، كما أنه كان أحد المسئولين عن قسم نشر الدعوة، وظلَّ مجاهدًا صابرًا في طريقه إلى أن ابُتلى بالمرضِ الذي لم يمنعه من المداومة على الخير فكان يعمل ويرفض أن يُفوِّت لقاءً فيه خير إلا ويحضره، وظل كذلك حتى وافته المنية ولقي ربه صابرًا محتسبًا.

وقال الدكتور حازم فاروق (عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين سابقا وأحد الذين تربوا على يد العالم الجليل):

إنَّ أعيننا تفتحت على الشيخ ركوة دءوبًا مربيًّا مثابرًا يرص اللبنة تلو اللبنة والشباب بجوار الشباب، ويبث فيهم الثقة في نصر الله وبأنهم جيل هذا النصر المنشود، كما أنه كان شعلةً تُضيء أمامنا الطريق ويدًا ترسم لنا ملامحه، يسافر هنا وهناك، ويربت على كتف الكبير ويحتضن الصغير حتى تثمر النبتة، واستمر الشيخ في جهاده لم يفتر ولم يُغيِّر ولم يبدل حتى لقي ربه صابرًا شاكرًا.

وأشار إلى أن الله اجتباه بابتلائه وامتحانه بالاعتقال والمرض حتى يخرج من ذنوبه ويلقاه راضيًا مرضيًا، وختم فاروق قائلاً: إن أعين محبيه وتلامذته وأهله وإخوانه لتدمع وإنَّ قلوبهم لتحزن على فراقه، ولكنهم لا يملكون إلا قولهم ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

وفاته

تُوفي الأستاذ والعالم الجليل الشيخ خيري ركوة في 3 مارس 2007م الموافق 13 صفر 1428 هجريًّا.

حيث نعاه الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابق للإخوان المسلمين للعالمين العربي والإسلامي، وشيعت جنازته من مسجد رابعة العدوية بضاحية مدينة نصر بشرق القاهرة عقب صلاة ظهر يوم الأحد 4 مارس 2007م.